الآية :
{ وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ }
النهي عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى، وإنما نهى عن القرب؛ سدّا للذريعة، فهذا أصل في سد الذريعة
ما حكم سد الذرائع ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فسد الذرائع هو واحد من الأصول المختلف فيها من بين أهل السنة، وقد أخذ به الإمام مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، ويرى أهل التحقيق أن الأحناف والشافعية لم يسلم مذهباهما من الأخذ بسد الذرائع في واقع الحال عند تنزيل الأحكام على الأحوال.
فهم وإن كانوا منعوا منه تقعيدا وتأصيلا، قد حكموا بمقتضاه تفريغا وتفصيلا.
قال الشوكاني في إرشاد الفحول: قال القرافي لم ينفرد بذلك (يعني مالكا)
بل كل واحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها.
قال: فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله، ومنها ما هو ملغى إجماعا، كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر، وإن كانت وسيلة إلى المحرم، ومنها ماهو مختلف فيه كبيوع الآجال، فنحن لا نغتفر الذريعة فيها.
قال: فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله، ومنها ما هو ملغى إجماعا، كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر، وإن كانت وسيلة إلى المحرم، ومنها ماهو مختلف فيه كبيوع الآجال، فنحن لا نغتفر الذريعة فيها.
وخالفنا غيرنا في أصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا..(1/412).
والذريعة هي أمر غير ممنوع في نفسه، ولكن يخاف في ارتكابه الوقوع في ممنوع.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على اعتبار الذرائع، قال الله تعالى:
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ }(الأنعام: 108)
فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك.. ومن السنة نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تصوير من مات من الصالحين وبناء المساجد عليهم خشية أن يعبدوا.
فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك.. ومن السنة نهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تصوير من مات من الصالحين وبناء المساجد عليهم خشية أن يعبدوا.
روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيمن يفعل ذلك: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصورا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة
********************************************************************
********************************************************************
1) هذه رسالة مختصرة في مسألة السجود لغير الله تعالى والحكم فيها
إذ ظن البعض أن السجود لغير الله تعالى بقصد التحية والتكريم قاصر على التحريم ولا يبلغ حد الإشراك إذ إنه كان مأذونا به في شرع من قبلنا متعللا بقوله تعالى:
( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) (13) الشورى
قال الطبري في تفسيره: وعنى بقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض. أهـ
قلت: ومعلوم أن مقصود الآية هو بيان أن الله تعالى افترض علينا إقامة الدين وعدم التفرق فيه وأن هذا كان مما افترضه الله تعالى على الأمم من قبلنالا أن الشرائع متطابقة من كل وجه مع بعضها البعض فإن ما كان مأذونا به في شريعة من الشرائع قد يكون منهيا عنه في غيرها بعلم الله وحكمته وعدله وهذا لا ينافي تطابق الأديان في شأن العقيدة والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له.
قال تعالى:
( ... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً )
( ... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً )
(48) المائدة
قال الطبري في تفسيره: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: كل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا""
يقول: سبيلا وسُنّة والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل.
قلت: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين خلا شيخ الطبري بشر بن معاذ وهو ثقة مترجم في التهذيب سعيد هو ابن أبي عروبة ويزيد بن زريع ممن حدث عنه قبل الإختلاط وقتادة هو بن دعامة السدوسي البصري.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى , أَنْبَأَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ , ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ به
وصح عن عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:
48]
قَالَ: «الدِّينُ وَاحِدٌ , وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ». تفسير عبد الرزاق عن معمر به وذكره الطبري من طريقه.
قَالَ: «الدِّينُ وَاحِدٌ , وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ». تفسير عبد الرزاق عن معمر به وذكره الطبري من طريقه.
فكون أن الزواج بالأخت كان حلالا مأذونا به في شريعة آدم عليه السلام لا يعني أن من تزوج بأخته لا يحكم عليه إلا بأنه ارتكب محرما لا يخرجه عن الملة بل قد ثبت في الشرع أن من تزوج بذات محرم فإنه يكون بمجرد الزواج كافراً وإن كان عالما بالتحريم ولا اعتبار لكون هذا الأمر كان جائزا مأذونا به في شرع من قبلنا لمَّا ثبت تحريمه في هذه الشريعة فثمة أفعال لا يكون فعلها إلا اعتقاداً وإن صدق فاعلها بالتحريم وهذا أمر بسطته في غير هذا الموضع.
فقد صح عند ابن ماجة في سننه عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أضرب عنقه وأصفي ماله.
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: فَإِنَّ تَخْمِيسَ الْمَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا لَا فَاسِقًا وَكُفْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . مجموعة الفتاوى
وتأمل كيف أن الله تعالى أكفر إبليس بامتناعه عن السجود لآدم عليه السلام في حال أن السجود لآدم صار مأموراً به بعد إذ لم يكن مأموراً به.
ونظائر هذا كثير في شرع من قبلنا بل وفيما نسخ من شرعنا لذا سأصب التركيز على شأن السجود ليتبين الأمر على وجه الخصوص.
والتحقيق أن من سجد لغير الله تعالى سجوداً غير مأمور به ولا مأذوناً فيه فإنه ارتكب شركاً أكبر بقصده الفعل الشركي وهو صرف عبادة لا تنبغي الا لله واتخذ المسجود له من دون الله إلها يعبده ويتذلل ويتقرب إليه.
وهذه جملة من الأدلة على إفراد الله تعالى بالسجود من القرآن ومن السنة ومن كلام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) الأعراف
وفي الآية دلالة على الحصر والإفراد أفادها تقديم المعمول "له" بمعنى أنهم لا يسجدون لأحد سواه.
قال تعالى: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) الرعد
وقال تعالى: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) النحل
وفي الآيتين دلالة على الحصر والإفراد بتقديم المعمول "لله" وفي آية الرعد ما يدل على عمومها للعاقلين بدلالة "من" وفي آية النحل ما يدل على عمومها لغير العاقل بدلالة "ما"
وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فصلت
قلت: "إنَّ" شرطية وفعلها "كنتم" وجوابها محذوف تقديره: "فاسجدوا له" وفي خبر كنتم تقديم المعمول "إياه" للدلالة على الحصر أي إن كنتم لا تعبدون أحداً سوى الله فاسجدوا له.
فإذا تحقق توحيد الله في العبادة لزم السجود له سبحانه، وما كان لازما لتحقق التوحيد أولى بأن لا يصرف لغير من وحده بالعبادة وأحرى أن يكون صرفه لغيره نقضاً لهذا التوحيد من أساسه
وقال الآجري في كتابه الشريعة:
وأخبرنا الفريابي قال: قرأت على أبي مصعب وكتبت من أصل كتابه وقرأت عليه وهو ينظر في كتابه، قلت : حدثك عبد العزيز بن أبي حازم ، عن يزيد بن الهاد ، عن ثعلبة بن أبي مالك قال : اشترى إنسان من بني سلمة بعيرا ينضح عليه ، فأدخله المربد فحرب الجمل ، فلا يقدر أحد أن يدخل عليه إلا تخبطه ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر ذلك له ، فقال : « افتحوا عنه » فقالوا : إنا نخشى عليك يا رسول الله منه فقال : « افتحوا عنه » ففتحوا عنه ، فلما رآه الجمل خر ساجدا ، فقال القوم : يا رسول الله كنا أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة قال : « كلا لو انبغى لشيء من الخلق أن يسجد لشيء من دون الله عز وجل لانبغى للمرأة أن تسجد لزوجها ».
قلت: إسناده قوي رجاله ثقات رجال الشيخين خلا الفريابي شيخ الآجري وهو إمام حافظ ثبت وخلا صحابيه ثعلبة بن مالك فهو ممن أخرج له البخاري وقد اختلف في صحبته ورجح الحافظ ابن حجر في الإصابة أن له رؤية وسماعاً فالحديث من فوق الفريابي على شرط البخاري
والفريابي هو جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض أبو بكر الفريابي، القاضي مترجم في سير أعلام النبلاء للذهبي
وأبو مصعب: هو أحمد" بن أبي بكر واسمه القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف أبو مصعب الزهري المدني من رجال الستة وهو من رواة الموطأ المعروفين
والحديث فيه أتم الدلالة على إفراد الله تعالى بالسجود
وقال ابن أبي شيبة في المصنف:
حدثنا عبيد الله بن موسى , قال: أخبرنا إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن أبي بردة , عن أبي موسى ,
قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي , قال: فبلغ ذلك قومنا , فبعثوا
عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد , وجمعوا للنجاشي هدية، فقدمنا وقدما على النجاشي ,
فأتوه بهديته فقبلها , وسجدوا , ثم قال له عمرو بن العاص: إن قوما منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك , فقال لهم النجاشي:
في أرضي؟ قالوا: نعم
فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد , أنا خطيبكم اليوم ,
قال :
: فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره , والقسيسون والرهبان جلوس سماطين , وقد قال له عمرو بن العاص وعمارة: إنهم لا يسجدون لك ,
قال: فلما انتهينا إليه زبرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك , فقال جعفر: لا نسجد إلا لله , فلما انتهينا إلى النجاشي قال , ما يمنعك أن تسجد؟ قال: لا نسجد إلا لله , قال له النجاشي , وما ذاك؟ قال: " إن الله بعث فينا رسوله , وهو الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم: {برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة , وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر " , قال:: فأعجب النجاشي قوله....
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم
فتأمل القول الذي كرره جعفر رضي الله عنه: " لا نسجد إلا لله" الدال أتم الدلالة على الحصر الجامع بين النفي والإثبات للدلالة القاطعة على توحيد الله وإفراده بالسجود.
وتأمل تعليل جعفر رضي الله عنه بعدم السجود للنجاشي بقوله: "فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا" وهذا من فقهه وفهمه الثاقب رضي الله عنه أن السجود الغير مأمور به أو مأذون فيه لغير الله وإن كان على سبيل التحية شرك في عبادة الله ينقض التوحيد الذي جائت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يتعلل بمجرد التحريم.
وجاء في معنى تعليل جعفر عن عائشة : رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له ، فقال أصحابه : يا رسول الله سجدت لك البهائم والشجر ، فنحن أحق أن نسجد لك قال : « اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم ، فإنه لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد ، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أسود إلى جبل أحمر ، ومن جبل أحمر إلى جبل أسود ، لكان نولها أن تفعل ».
قلت: رواه الآجري في الشريعة والإمام أحمد في مسنده وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف روى له مسلم مقروناً وقد تفرد بهذا الحديث بهذه السياقة وباقي رجاله رجال الشيخين في رواية أحمد في مسنده.
والسجود يتضمن غاية الحب وغاية الذل والتعظيم والخضوع والتذلل والانكسار والتأليه والعبادة للمسجود له فإن كان السجود لغير الله مأموراً به من الله أو مأذوناً فيه فُرِّغَ هذا السجود من هذا المحتوى والمضمون وانصرف لمعنى التكريم والتوقير للمسجود له من دون الله لا غير.
قال تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) البقرة
قال الطبري في تفسيره: حدثنا به بشر بن معاذ: قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال:
حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم"، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَد له ملائكته.
قلت إسناده صحيح وقد مر الكلام على هذا الإسناد
قال تعالى: ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) يوسف
وقال الطبري في تفسيره: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:
(وخروا له سجّدًا) وكانت تحية من قبلكم، كان بها يحيِّي بعضهم بعضًا، فأعطى الله هذه الأمة السلام، تحية أهل الجنة، كرامةً من الله تبارك وتعالى عجّلها لهم، ونعمة منه.
قلت: وإسناده صحيح كسابقه.
وسجود الملائكة لآدم سجود بأمر الله وسجود إخوة يوسف لأخيهم سجود بإذن الله أما السجود الذي بغير أمر الله ولا إذنه فهو شرك
فقد روى ابن ماجة في سننه بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟» قَالَ:
أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ، فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا، وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ».
وفي الحديث صيغة متضمنة للنفي والإثبات وهي دالة دلالة آكدة على الحصر وهي قوله صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا".
قال الشوكاني في نيل الأوطار: وفي هذا الحديث دليل على أن من سجد جاهلا لغير الله لم يكفر.
قلت:
فمن سجد لغير الله بقصد التحية ظنا منه أن ذلك جائز في شرع الله بين له أنه محرم في شرع الله غير مأذون به فسجوده لغير الله بغير أمر أو إذن شرك وتأليه للمسجود له وصرف لحق من حقوق الله لغير الله وهذا ممنوع في هذه الشريعة بل وغيرها من الشرائع فبطل الاستدلال بما جاز في شرائع سابقة من تجويز للسجود لغير الله تحية إذ إنه يتضمن قياس المأمور به والمأذون فيه بالممنوع عنه وهو قياس فاسد الاعتبار من كل وجه.
ولم يكن في شرع من قبلنا سجود لغير مأذون بالسجود له أو مأمور بالسجود له.
فمن سجد لغير مأذون بالسجود له أو مأمور بالسجود له فقد خرج عن شرعنا وعن شرع من قبلنا بسجوده لمن لم يأذن له أن يسجد له فتأمل.
وقياس الشعيرة الغير مأذون بها أو المأمور بها يشبه قياس قتل المشركين أبنائهم سفها بغير علم بفعل نبي الله إبراهيم عليه السلام في شأن ذبح ولده إسماعيل عليه السلام وهو قياس فاسد الاعتبار من كل وجه.
قال تعالى:
( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) الأنعام
وقال تعالى: ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) الصافات
فالصورة وإن كان بها شيء من الاتحاد في الظاهر إلا أن التباين حاصل في موجبات الفعل ودوافعه وأسبابه ومقتضياته المبنية على حصول الإذن أو الأمر من عدمه.
وهذا أمر له نظائره الكثيرة في الشرع أذكر منها:
1. شعائر الحج ومنها الطواف والسعي والوقوف ورمي الجمار وغيرها
قال تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
(158) البقرة
قلت: والشعائر مصدرها شعار وهو العَلَمُ بمعنى ان الشعائر المأذون بها معالم ومظاهر للعبودية لله وما ليس فيه إذن فليس من مظاهر العبودية له فما بالك إن توجه به لغير الله تعالى بغير إذن من الله فإنه والحالة هذه يكون علما ومظهرا من مظاهر العبودية لغير الله تعالى بلا ريب
وجاء في لسان العرب: والشَّعِيرة البدنة المُهْداةُ سميت بذلك لأَنه يؤثر فيها بالعلامات والجمع شعائر وشِعارُ الحج مناسكه وعلاماته وآثاره وأَعماله جمع شَعيرَة وكل ما جعل عَلَماً لطاعة الله عز وجل كالوقوف والطواف والسعي والرمي والذبح وغير ذلك.
أهـ
2) التمسح والتبرك والاستلام للأحجار والأشجار وغيرها
فإن التمسح بحد ذاته يتضمن اعتقاد المنفعة بالمتمسح به من حجر أو شجر أو بشر وفي شرعنا شيء مأذون فيه من هذا الضرب كاستلام الركن اليماني واستلام الحجر الأسود وتقبيله فهذه كلها لما صار مأذونا فيها تفرغت من تضمن اعتقاد المنفعة بذاتها وصارت شعيرة من شعائر الله ومظهرا من مظاهر الخضوع والعبودية لله وبذا يتبين وجه قول الفاروق رضي الله عنه وأرضاه حين قبل الحجر الأسود.
ففي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه:
أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: «إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك».
أما التمسح أو التبرك بغير ما أذن فيه شرعا فهو شرك لا ينفك عن تضمن اعتقاد ذاتية النفع والضر بالمتمسح به.
فقد صح عند ابن حبان وغيره عن أبي واقد الليثي يقول: لما افتتح رسول الله مكة، خرج بنا معه قبل هوازن، حتى مررنا على سدرة الكفار: سدرة يعكفون حولها، ويدعونها ذات أنواط، قلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتركبن سنن من قبلكم".
فتأمل كيف أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يقرهم على هذا الطلب بل عده شركا محضا لما فيه من مشابهة المشركين في فعلهم الذي مبناه على الخروج عن أمر الله وإذنه.
وتأمل أن سؤالهم يتضمن معرفتهم أن هذا الأمر لا يكون شركاً إن صدر فيه الأمر أو الإذن من الشارع.
ومعلوم أن هذه الشريعة مبنية على البراءة من المشركين بل ومخالفتهم وأن الشعائر لا تكون بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم ان نوافق أهل الإشراك بشعائرهم فهذا وجه خطأهم
أما سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم فعل شعيرة لا توافق فعل المشركين فقد جاء في قوله تعالى:
{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]
فعن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، " وافقت ربي في ثلاث: فقلت يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]. الحديث. رواهه البخاري في صحيحه
وفي حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ .... وفيه: ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام،
فَقَرَأَ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
[البقرة: 125]
فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ - وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ.. الحديث
3) التشريع والطاعة
فإن تشريع الأحكام والأمر والنهي يتضمن العبودية للمشرع والإذعان والطاعة لأمره ومنه ما هو مأذون فيه كإذن الله للرسل بأن تطيعهم أقوامهم وتذعن لأمرهم إذ إن الطاعة لما تكون بإذن الله يتفرغ منها معنى العبودية للمطاع بل ينصرف معنى العبودية لمن أذن وأمر بها
وتأمل قول الله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
(65) النساء
فتأمل كيف قدم الإذن من الله بطاعة الرسول على تقرير نفي الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ليفهم أن مبنى التحكيم على الإذن من الله تعالى لا على وجه الاستقلال فبذا يتبين الفرق في هذه المسائل.
وتأمل قول الله تعالى عندما عد من اتخذ مشرعين من دون الله بغير إذنه مشركين حيث قال في كتابه العزيز: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) الشورى
فالتشريع بغير إذن من الله لا ينفك عنه مضمون العبودية والإذعان للمشرع وهذا خلاف ما إذا كان بإذن الله أو أمره
وتأمل كيف أن مجرد طاعة المشركين في التحليل والتحريم عدها الله تعالى شركا به إذ إنها طاعة في خلاف امر الله ولغير مأذون له ان يطاع
قال تعالى: ( وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) الأنعام
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " أَتَى أُنَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118]- إِلَى قَوْلِهِ - {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. سنن الترمذي
وتأمل كيف أن من شرعت طاعته لا يطاع في معصية الله تعالى ففي الصحيحين عن علي رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف».
4) طلب الشفاعة
فالشفاعة أيضا منها ما هو مأذون فيه ومنها ما هو شرك منهي عنه فما كان منها بإذن الله فهي محمودة وغير متضمنة لاعتقاد الحكم والملك والإلهية للمشفع
أما ما كان منها شرك فهو متضمن لاعتقاد استقلال الشافع بالحكم والقضاء في ملك الله جل وعلا
قال تعالى: ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) الزمر
والضابط فيها أن من توجه بها بالدعاء للمشفع الغائب فهو شرك غير مأذون فيه
وما كان منها مأذونا فيه قاصر على طلبها ممن يملكها على وجه الانفراد وهو الله تعالى وحده لا شريك له
قال الله تعالى: ( ... مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ... (255) البقرة
وقال الله عز وجل: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) النجم
فالله تعالى هو الشافع الذي تطلب منه الشفاعة والمخلوق ممن أذن الله تعالى له بالشفاعة هو المشفع والمشركون اتخذوا المخلوق شافعاً وغفلوا عن هذا الفرق بين الامرين
5) ادعاء القدرة على الخلق أو الإحياء أو الإماتة أو الشفاء أو الإتيان بالآيات
فما كان فيها مأذونا به من الله فهو غير متضمن للإلهية أو الربوبية وما كان فيها غير مأذون به ففيه استقلال بالألوهية وادعاء للشراكة في قدرة الله تعالى وفعله
فتأمل قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
(وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) آل عمران
وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) الرعد
وقوله تعالى: ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) إبراهيم
وتأمل قوله تعالى فيمن كانت منه مجرد دعوى القدرة على الإحياء والإماتة:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
ولاحظ أن الله تعالى نعته بالكفر إذ أنه كفر بالوحدانية أي وحدانية الله وتفرده بالإحياء والإماتة وتفرده بالامر والإذن لمن شائه من خلقه أن يحيي ويميت
قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) آل عمران
فتأمل ورود الإذن في هذا كله وتأمل النكير والحكم بالإشراك على من خلا عن الإذن في هذه المسائل كلها وما في معناها ينكشف لك سر المسألة.
فالتحقيق أن ماورد فيه الإذن أو الأمر فهو سجود تحية وتكريم وما لم يرد فيه إذن ولا أمر فهو سجود تأله وعبادة فيبين لفاعله حكمه فإن اصر عليه حكم عليه بالشرك الاكبر ولا كرامة.
فمجرد السجود ومجرد إلتزام الطاعة ومجرد التشريع ومجرد التمسح والتبرك وفعل الشعائر التعبدية من غير إذن أو أمر من الله تعالى لا يكون إلا عبادة لمن قصد بها من دون الله تعالى وهو شرك يناقض التوحيد من كل وجه ولا ينفك عنه تضمن العبودية لغير الله تعالى.
*********************************************************************
وقد نهى الله تعالى في هذه الشريعة المطهرة عن الشرك أكبره وأصغره وخفيه وسد ذرائعه وحرم أسبابه المفضية إليه صونا لشأن التوحيد ورحمة ببني البشر أن يقعوا في الشرك فيخسروا أولاهم وأخراهم ومن ذلك ما جاء في شأن السجود وسد ذرائع الشرك في ذلك فمنه:
1) النهي الوارد في القرآن الكريم عن السجود للشمس والقمر اللذان هما من أعظم المخلوقات التي تراها عيون البشر.
قال تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فصلت
وقال الله تعالى في شأن الهدهد: ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) النمل
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
فحدث الهدهد، سليمان عليه السلام، بما رآهم يفعلونه من السجود لغير الله، والسجود نوع من أنواع العبادة؛ فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرف الهدهد ; فأنكروه، وعرفوا الإخلاص فالتزموه؛ وبالله التوفيق، وسبحان من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه، وأضل من شاء عنه، بعلمه وحكمته وعدله. [الدرر السنية في الأجوبة النجدية]
2) نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا» ، قَالَتْ: وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. متفق عليه
وعن عائشة أم المؤمنين، أن أم حبيبة، وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة». متفق عليه
قلت: فأي وعيد أشد وأي وصف أشنع من كون من اتخذ القبر مسجداً يعبد فيه الله من شرار الخلق عند الله يوم القيامة ناهيك عن اللعن الذي ورد في الحديث الذي قبله فكيف بمن سجد لغير الله تعالى؟
فهذا مما يؤكد أن السجود لغير الله تعالى من أبلغ الشرك وأكبره وأن فاعله من شرار الخلق على وجه الإطلاق.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء:
فَصْلٌ الشِّرْكُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ
وَيَتْبَعُ هَذَا الشِّرْكَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَقْوَالِ، وَالْإِرَادَاتِ، وَالنِّيَّاتِ، فَالشِّرْكُ فِي الْأَفْعَالِ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِهِ، وَالطَّوَافِ بِغَيْرِ بَيْتِهِ، وَحَلْقِ الرَّأْسِ عُبُودِيَّةً وَخُضُوعًا لِغَيْرِهِ، وَتَقْبِيلِ الْأَحْجَارِ غَيْرِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ الَّذِي هُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَتَقْبِيلِ الْقُبُورِ وَاسْتِلَامِهَا، وَالسُّجُودِ لَهَا، وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ يُصَلِّي لِلَّهِ فِيهَا، فَكَيْفَ بِمَنِ اتَّخَذَ الْقُبُورَ أَوْثَانًا يَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ–
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ: «إِنَّ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» .
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» .
وَقَالَ: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .
وَقَالَ:
«إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، كَانَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
فَهَذَا حَالُ مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ فِي مَسْجِدٍ عَلَى قَبْرٍ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ سَجَدَ لِلْقَبْرِ نَفْسِهِ؟
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» ، وَقَدْ حَمَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَانِبَ التَّوْحِيدِ أَعْظَمَ حِمَايَةٍ، حَتَّى نَهَى عَنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّشَبُّهِ بِعُبَّادِ الشَّمْسِ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهَا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.
وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ بِأَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ؛ لِاتِّصَالِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالْوَقْتَيْنِ اللَّذَيْنِ يَسْجُدُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِمَا لِلشَّمْسِ.
وَأَمَّا السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ» .
وَ " لَا يَنْبَغِي " فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 92 .
وَقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [سُورَةُ يس: 69] .
وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ - وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 210 - 211] .
وَقَوْلِهِ:
{مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 18]. أهـ [الداء والدواء]
3) نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة لما في ذلك من التباس ومشابهة لفعل أهل الإشراك
عن أبى سعيد قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: « الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ». سنن أبي داود
4) نهيه صلى الله عليه وسلم أن يسجد له على وجه التحية والتكريم
عن قيسِ بنِ سعد، قال: أتيتُ الحِيرةَ فرأيتُهم يسجدون لِمرْزُبانٍ لهم، فقلتُ: رسولُ الله أحقُّ أن يُسجدَ له، قال: فأتيتُ النبي صلَّى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيتُ الحِيرَةَ فرأيتُهم يَسجُدُونَ لمرزبانٍ لَهُمْ، فأنت يا رسولَ الله أحقُّ أن نسجُدَ لك، قال: "أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ تَسجُدُ له؟ " قال: قلت: لا، قال: "فلا تَفْعَلُوا، لو كنتُ آمراً أحداً أن يَسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ النِّساءَ أن يسجُدْنَ لأزواجِهِنَّ، لِمَا جَعَل الله لهم عليهنَّ من الحق". سنن أبي داود
قال الأمير الصنعاني: (لو كنت آمراً أحداً) باجتهاد أو بوحي. (أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن) لكن السجود لا يكون لأحد إلا الله لما جعل الله لهم عليهن من الحق، وفيه أن السجود أعظم أنواع التعظيم. [التنوير شرح الجامع الصغير]
5) نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في وقت الكراهة
معللا ذلك بمشابهة المشركين الذين يسجدون للشمس حال شروقها وحال غروبها
معللا ذلك بمشابهة المشركين الذين يسجدون للشمس حال شروقها وحال غروبها
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللهُ وَأَجْهَلُهُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ». صحيح مسلم
6) نهيه صلى الله عليه وسلم أن ينحني المسلم لتحية صديقه أو أخيه
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ». سنن الترمذي
7) نهيه صلى الله عليه وسلم عن قيام الناس على إمامهم في الصلاة
حتى لا يشابهوا أهل الإشراك الذين يبالغون في تعظيم أئمتهم
حتى لا يشابهوا أهل الإشراك الذين يبالغون في تعظيم أئمتهم
عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: «إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ، وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا». صحيح مسلم وقد قال بعض أهل العلم بنسخ هذا الخبر
8) ذمه صلى الله عليه وسلم لمن يحب أن يمتثل الناس له قياماً
عن أبي مِجْلَز، قال: خَرَجَ معاويةُ على ابنِ الزبيرِ وابنِ عامر، فقام ابنُ عامر، وجلس ابنُ الزبير، فقال معاويةُ لابن عامر: اجلس، فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أحَب أن يَمْثُلَ له الرِّجَالُ قِياماً، فَلْيَتَبوَّأ مقعدَه مِن النَّارِ". سنن أبي داود
قلت: أما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في صون حمى التوحيد وسد ذرائع الشرك مطلقاً فكثير جداً لا تتسع له هذه الوريقات وقد بسطت فيه القول في رسالة أبواب الشرك وذرائعه بفضل من الله ومنه وكرمه
ولإن جائت كل هذه النصوص لسد أي ذريعة للسجود لغير الله تعالى فكيف بمن يتسور كل هذه السدود ويتجاوز كل هذه الموانع وينتهك كل هذه الحرمات فيسوغ لنفسه السجود لغير الله تحت أي ذريعة أو ادعاء فمثل هذا لا يفعله إلا على وجه التجوز والاعتقاد عياذ بالله تعالى وقد ذكرت أن من الأفعال والأقوال ما لا يكون إلا اعتقاداً بذاته واستحلالا بمجرده كسب الله عياذا بالله أو تشريع حكم يضاد حكم الله وكذا السجود لغير الله تعالى.
قال ابن القيم في زاد المعاد:
وَأَشْرَفُ الْعُبُودِيَّةِ عُبُودِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَاسَمَهَا الشَّيُوخُ وَالْمُتَشَبِّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْجَبَابِرَةُ، فَأَخَذَ الشَّيُوخُ مِنْهَا أَشْرَفَ مَا فِيهَا، وَهُوَ السَّجُودُ، وَأَخَذَ الْمُتَشَبِّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ مِنْهَا الرُّكُوعَ، فَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا رَكَعَ له كما يركع المصلي لربه سواء وَأَخَذَ الْجَبَابِرَةُ مِنْهُمُ الْقِيَامَ، فَيَقُومُ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ على رؤوسهم عُبُودِيَّةً لَهُمْ، وَهُمْ جُلُوسٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَتَعَاطِيهَا مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لَهُ، فَنَهَى عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ» . وَأَنْكَرَ عَلَى معاذ لَمَّا سَجَدَ لَهُ وَقَالَ: «مَهْ».
وَتَحْرِيمُ هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ دِينِهِ بِالضَّرُورَةِ، وَتَجْوِيزُ مَنْ جَوَّزَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ مُرَاغَمَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِذَا جَوَّزَ هَذَا الْمُشْرِكُ هَذَا النَّوْعَ لِلْبَشَرِ، فَقَدْ جَوَّزَ الْعُبُودِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: «لا» . قيل أيلتزمه ويقبلّه قَالَ: «لَا» . قِيلَ أَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ «نَعَمْ».
وَأَيْضًا:
فَالِانْحِنَاءُ عِنْدَ التَّحِيَّةِ سُجُودٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أَيْ مُنْحَنِينَ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ الدَّخُولُ عَلَى الْجِبَاهِ، وَصَحَّ عَنْهُ النَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ، وَهُوَ جَالِسٌ، كَمَا تُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حَتَّى مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا صَلَّى جَالِسًا أَنْ يُصَلُّوا جُلُوسًا، وَهُمْ أَصِحَّاءُ لَا عُذْرَ لَهُمْ، لِئَلَّا يَقُومُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ جَالِسٌ، مَعَ أَنَّ قِيَامَهُمْ لِلَّهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْقِيَامُ تَعْظِيمًا وَعُبُودِيَّةً لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ النُّفُوسَ الْجَاهِلَةَ الضَّالَّةَ أَسْقَطَتْ عُبُودِيَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَشْرَكَتْ فِيهَا مَنْ تُعَظِّمُهُ مِنَ الْخَلْقِ، فَسَجَدَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَرَكَعَتْ لَهُ، وَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قِيَامَ الصَّلَاةِ، وَحَلَفَتْ بِغَيْرِهِ، وَنَذَرَتْ لغيره، وحلقت لغيره، وذبحت لغيره، وطافت بغير بَيْتِهِ وَعَظَّمَتْهُ بِالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالطَّاعَةِ، كَمَا يُعَظَّمُ الْخَالِقُ، بَلْ أَشَدُّ، وَسَوَّتْ مَنْ تَعْبُدُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُضَادُّونَ لِدَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَهُمُ الَّذِينَ بِرَبَّهِمْ يَعْدِلُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ- وَهُمْ فِي النَّارِ مَعَ آلِهَتِهِمْ يخصمون ( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)
وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
هذا كُلُّهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَاللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. أهـ
قلت: وجاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
عَمَّنْ يَبُوسُ الْأَرْضَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ؟ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَبَبِ أَخْذِ رِزْقٍ وَهُوَ مُكْرَهٌ كَذَلِكَ؟
فَأَجَابَ:
أَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ وَرَفْعُ الرَّأْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ السُّجُودُ مِمَّا يُفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ: فَلَا يَجُوزُ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ الِانْحِنَاءُ كَالرُّكُوعِ أَيْضًا كَمَا {قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا} {وَلَمَّا رَجَعَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ. فَقَالَ: كَذَبُوا عَلَيْهِمْ لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ أَجْلِ حَقِّهِ عَلَيْهَا يَا مُعَاذُ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ} . وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَمَنْ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا قُرْبَةً وَتَدَيُّنًا فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِينِ وَلَا قُرْبَةٍ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
وَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَفْضَى إلَى ضَرْبِهِ أَوْ حَبْسِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ قَطْعِ رِزْقِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُبِيحُ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ وَيَحْرِصَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يُعَافَى بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِذَلِكَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُبِيحُ إلَّا الْأَقْوَالَ دُونَ الْأَفْعَالِ: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ قَالُوا إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ.
وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ فُضُولِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَا وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْخُضُوعَ لِلَّهِ تَعَالَى: كَانَ حَسَنًا مِثْلَ أَنْ يَكْرَهَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَيَنْوِيَ مَعْنًى جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مجموعة الفتاوى لابن تيمية
والذي يظهر من كلامه رحمه الله أنه يتحدث عن فعل يتضمن شكل السجود أو الانحناء وإن لم يقصد به فعل السجود صراحة وهو يشبه ما يفعله بعض الابناء في هذا الزمان مع آبائهم من تقبيل اليد ووضعها على الجبين احتراما وتوقيرا للآباء وهو فعل يتضمن شكل من أشكال السجود من غير قصد لفعل السجود لذا فحكمه التحريم ولا يبلغ الشرك
والسائل كان يتحدث عن تقبيل الأرض وشيخ الإسلام بين وجه التحريم أنه يتضمن شكل السجود لا قصد فعله ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام آخر يبين فيه ان من تقصد فعل السجود لغير الله فقد أشرك ولم يعرج على قصد الفاعل أو نيته
حيث قال رحمه الله
فأمَّا ما يُسمِّيه كثيرٌ من الناس زيارةً هي من جنس الإشراكِ بالله وعبادة غيرهِ، مثل السجود لبعض المقابر التي يُقال إنها من قبور الأنبياء والصالحين وأهل البيت أو غيرهم ويسمُّونها المشاهد، أو الاستعانة بالمقبور ودعائِه ومسألتِه قريبًا من قبره أو بعيدًا منه، مثل ما يفعل كثير من الناس
فهذا كلُّه من أعظم المحرَّمات بإجماع المسلمين، وهو من جنس الإشراك بالله تعالى، فإن المسلمين متفقون على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يدعوَ أحدًا ويتوكَلَ عليه ويرغبَ إليه في المغفرة والرحمةِ وتفريج الكُرباتِ وإعطاءِ الطلباتِ إلا الله وحده لا شريك له، ولا يسجد
لغَيرِ الله لا لحيٍّ ولا لميّتٍ، حتى إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أمتَه عن اتخاذ القبور مساجدَ لئلاّ يُفضِي ذلك إلى الشرك
ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال قبل أن يموتَ بخمسٍ: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، إلا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك".
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحذر ما فَعَلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا.
وفي الصحيحين أيضًا أنّ أم سلمة وأم حبيبة ذكرتَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسةً رأينَها بأرض الحبشة، وذكرتَا حُسنَها وتصاويرَ فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أولئك إذا ماتَ فيهم الرجل الصالح بَنَوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شرُّ الخلق عند الله يوم القيامة".
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنّ من شِرار الناس مَن تُدرِكهم الساعةُ وهم أحياءٌ، الذين يتخذون القبور مساجد".
وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَعن الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُجَ". رواه أهل السنن ، وصححه الترمذي أو حسَّنَه.
فلَعَن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يتخذ القبور مساجد ويُسرج عليها سُرُجًا كالشمع والقناديل ونحو ذلك، مثل ما يفعله كثير من الناس، وهذا ما اتفقَ عليه أهلُ العلم، فلم يتنازعوا في أنَّ ذلك غيرُ مشروع، بل يُنهَى عنه. أهـ [جامع المسائل لابن تيمية]
فقصد فعل السجود الغير مأذون به بمجرده شعيرة من شعائر العبودية للمسجود له فلا يفرق بين من فعله تدينا أو من فعله على وجه التوقير والتكريم إلا من حيث اعتبار قصد من جهل حكم التحريم فيبين له أن السجود مختص لله تعالى غير مأذون به لغيره فإن لم ينته عنه فقد زال عذره بالجهل فلم يبق سوى إيقاع حكم الشرك على من فعله ويفرق بين ذلك وبين ما تضمن شكلا من أشكال السجود ولم يقصد فاعله السجود فهذا محرم منهي عنه لا يبلغ حد الشرك بالله تعالى.
*********************************************************************
فهاهنا أربع صور لمسألة السجود لغير الله:
1) من سجد لغير الله عبادة للمسجود له فهذا شرك أكبر لتضمنه معنى العبادة وشكلها.
2) من سجد لغير الله تحية بأمر من الله أو إذن منه تعالى فهذه عبادة وطاعة لله وتحية وتكرمة لمن أمره الله بالسجود له.
3) من سجد لغير الله تعالى تحية من غير أمر أو إذن من الله تعالى فهذا شرك أكبر إذ إنه تضمن شكلا من أشكال العبادة فمن فعله عالماً بتحريمه فقد أشرك شركاً أكبر أما معنى العبادة فهو ملازم لفعله ولا يلتفت إلى قصده بعد بلوغه التحريم فالقصد قصدان كما هو مقرر عند أهل السنة وهما قصد الكفر وقصد الفعل المكفر فمن قصد الفعل المكفر كفر بعد اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.
4) من فعل فعلاً يتضمن أحد أشكال السجود لغير الله من غير قصد السجود أو العبادة لمن صرفه له كوضع اليد على الجبين أو تقبيل الأرض أو تقبيل القدمين فهذا محرم لا يبلغ حد الإشراك وفعله لم يتضمن قصد الشرك ولا قصد فعله لكن ينهى عن فعله لما جاء من عموم النهي عن السجود لغير الله سداً لذريعة الوصول لتقصد السجود لغير الله تعالى وحسما لمادة الشرك بالله عز وجل.
هذا والله تعالى أعلم وأحكم فإن أصبت فيما حررته وحققته فمن الله تعالى وحده فله الحمد والثناء والمنة وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان فأسأل الله العفو والغفران وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله صحبه وسلم تسليماً كثيراً.
*********************************************************************
فوائد قول الله تعالى
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.
الفائدة الأولى
لما أمر الله آدم وممن معه بأن يهبطوا إلى الأرض وعدهم بأن يأتيهم هدى من رسول ومن كتاب وأوضح أن من اتبع هذا الهدى فهو من الفائزين وأن من خالف هذا الهدى فإنه من الخاسرين .
فكان من المناسب أن يذكر صنفا وطائفة من ذرية آدم خالفت هذا الهدى بل إنها تحملت هذا الهدى الذي هو العلم وهم اليهود تحملوه وتلقوه ومع ذلك لم يعملوا به
فقال {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
وهذا الخطاب موجه لمن في عصر النبي عليه الصلاة والسلام فهم الأحفاد فيذكرهم بحقيقة ماضيهم ومن ينتسبون إليه ينتسبون إلى من ؟
إلى إسرائيل
من هو إسرائيل ؟
هو يعقوب عليه السلام
ويعقوب عليه السلام يسمى بإسرائيل
لم ؟
لأن كلمة إسرائيل معناها: عبد الله
وبالتالي فإن ما يتلفظ به بعض الناس فيقول : هذا إسرائيلي
أو فعلت إسرائيل ما فعلت هذا لفظ غير شرعي ولا يصح
وإنما يقال : يهودي أو هؤلاء اليهود ولا يقال : إسرائيل أو إسرائيليون
لم ؟
لأنك لو قلت إسرائيلي نسبته إلى يعقوب الذي هو عبد لله وليسوا عبادا لله حق العباد
كما يصنعه بعض الناس فيقولون عن النصراني مسيحي
يقول : هؤلاء المسيحيون
خطأ لا يجوز أن تقول ذلك قل نصراني نصارى نصرانيون
لم ؟
لأنك إذا قلت مسيحيون يعني أنهم اتبعوا المسيح عيسى بن مريم ولم يتبعوه
كيف ؟
لأنهم لم يتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام الذي حث وأمر عيسى أن يتبع
((وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ))
فأحسن أوصافهم ما ذكر في القرآن عنهم مما ذكروه في القرآن عن أنفسهم ، هم سموا أنفسهم {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ }
فليتنبه إلى هذا الأمر
اقوال العلماء
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: أجمع المسلمون على أن السجود لغير الله محرم. انتهى.
وقال أيضاً: ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات، ولا تقبيل القبور ويعزر فاعله. انتهى.
ويدل لحرمة السجود لغير الله عامة ولقبر النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ما رواه قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ قال: قلت: لا، قال: فلا تفعلوا. رواه أبو داود، وصححه الألباني.
فهذا يدل على أن الصحابة وإن كان بعضهم سوغ السجود للنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي من باب التحية والإكرام والتوقير، إلا أنه لا يسوغه لقبره صلى الله عليه وسلم بعد موته لانتفاء هذا المعنى.. ولما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
وهذا يدل على أن السجود بغير نية العبادة لا يكون كفراً بمجرده. وعلى أية حال فالتفصيل الذي ذكره الذهبي محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول به، ومنهم من يطلق الكفر في حق من سجد لغير الله، وممن وافق الذهبي على تفصيله الشوكاني، فإن صاحب (مختصر الأزهار) لما قال: الردة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كفري وإن لم يعتقد معناه، إلا حاكياً أو مكرهاً ومنها السجود لغير الله. انتهى.
قال الشوكاني في السيل الجرار: اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار... فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر. وأما قوله (ومنها السجود لغير الله) فلا بد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصداً لربوبية من سجد له، فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عز وجل وأثبت معه إلهاً آخر، وأما إذا لم يقصد إلا مجرد التعظيم كما يقع كثيراً لمن دخل على ملوك الأعاجم أنه يقبل الأرض تعظيماً له، فليس هذا من الكفر في شيء، وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام فمن أراد المخاطرة بدينه فعلى نفسه جنى. انتهى.
وقال الزيلعي في تبين الحقائق: وما يفعلون من تقبيل الأرض بين يدي العلماء فحرام، والفاعل والراضي به آثمان لأنه يشبه عباده الوثن، وذكر الصدر الشهيد أنه لا يكفر بهذا السجود لأنه يريد به التحية. انتهى.
وكذا قال ابن نجيم في البحر الرائق.
وفي باب حكم المرتد من مطالب أولي النهى للرحيباني: أو سجد لصنم أو كوكب. كشمس أو قمر كفر، لأنه أشرك به سبحانه وتعالى (ويتجه السجود للحكام والموتى بقصد العبادة كفر) قولاً واحداً باتفاق المسلمين (والتحية) لمخلوق بالسجود له (كبيرة) من الكبائر العظام والسجود لمخلوق حي أو ميت (مع الإطلاق) العاري عن كونه لخالق أو مخلوق (أكبر) إثماً وأعظم جرماً، إذ السجود لا يكون إلا لله وهو اتجاه حسن. انتهى.
وفي باب شروط من تقبل شهادته من الكتاب نفسه، عد السجود لغير الله كبيرة من الكبائر، وقال البجيرمي في تحفة الحبيب: مجرد السجود بين يدي المشايخ لا يقتضي تعظيم الشيخ كتعظيم الله عز وجل بحيث يكون معبوداً، والكفر إنما يكون إذا قصد ذلك. انتهى.
وقال الرملي في نهاية المحتاج: قال ابن الصلاح: ما يفعله عوام الفقراء من السجود بين يدي المشايخ فهو من العظائم ولو كان بطهارة وإلى القبلة وأخشى أن يكون كفراً. انتهى.
وعلق على ذلك الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج فقال: إنما قال ذلك ولم يجعله كفراً حقيقة، لأن مجرد السجود بين يدي المشايخ لا يقتضي تعظيم الشيخ كتعظيم الله عز وجل بحيث يكون معبوداً، والكفر إنما يكون إذا قصد ذلك. انتهى.
وقال النووي في المجموع وفي الروضة: ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ حرام قطعاً بكل حال سواء كان إلى القبلة أو غيرها، وسواء قصد السجود لله تعالى أو غفل، وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر أو يقاربه. انتهى.
وعلق الشرواني على ذلك فقال: قال الشارح في الأعلام بعد نقله ما في الروضة: هذا يفهم أنه قد يكون كفراً بأن قصد به عبادة مخلوق أو التقرب إليه، وقد يكون حراماً بأن قصد به تعظيمة أي التذلل له أو أطلق، وكذا يقال في الوالد والعلماء. انتهى.
ومن أهل العلم من لم يفصل بل أطلق الكفر.
قال السرخسي في المبسوط: السجود لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر. انتهى.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في منهج الطلاب في كتاب الردة: .. أو إلقاء مصحف بقاذورة أو سجود لمخلوق. انتهى.
وقال الجمل في حاشيته: أي ولو نبياً وإن أنكر الاستخفاف أو لم يطابق قلبه جوارحه لأن ظاهر حاله يخالفه... نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشية منه فلا كفر.
انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج في كتب الردة: أو سجود لصنم أو شمس. أو مخلوق آخر وسحر فيه نحو عبادة كوكب، لأنه أثبت لله تعالى شريكاً، وزعم الجويني أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً، رده ولده، نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كأن كان الإلقاء لخشية أخذ كافر أو السجود من أسير في دار الحرب بحضرتهم فلا كفر. انتهى.
وجاء في الموسوعة الفقهية: أجمع الفقهاء على أن السجود لغير صنم ونحوه، كأحد الجبابرة أو الملوك أو أي مخلوق آخر، هو من المحرمات وكبيرة من كبائر الذنوب، فإن أراد الساجد بسجوده عبادة ذلك المخلوق كفر وخرج عن الملة بإجماع العلماء، وإن لم يرد بها عبادة فقد اختلف الفقهاء فقال بعض الحنفية: يكفر مطلقاً سواء كانت له إرادة أو لم تكن له إرادة، وقال آخرون منهم: إذا أراد بها التحية لم يكفر بها، وإن لم تكن له إرادة كفر عند أكثر أهل العلم. انتهى.
وأما السؤال عن مخالفة كلام الذهبي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. متفق عليه. فالجواب: أنه لا يخالفه، لأن الذنب الذي يستحق صاحبه اللعن لا يلزم أن يكون كفراً مخرجاً من الملة، كآكل الربا والراشي والمرتشي والسارق وشارب الخمر والواشمات والنامصات وغير ذلك ممن ثبت اللعن في حقه.
ونختم بهذه الفائدة من كلام الشيخ وليد بن راشد السعيدان في الإجماع العقدي: أجمعوا على أن السجود عبادة فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى، وأجمعوا على أن السجود تعبداً لغير الله تعالى من الشرك الأكبر، واتفق المسلمون على أنه لا يسجد لقبر النبي صلى الله عليه وسلم فما بالك بقبر غيره؟ واتفقوا على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يستلم ولا يقبل ولا يركع عنده البتة، واتفق الأئمة على النهي عن ما يفعله بعض الأتباع عند كبرائهم من الانحناء بين يديه أو وضع الرأس على الأرض قدامه، أو تقبيل الأرض بين يديه فهذا محرم تحريماً قطعياً ووسيلة من وسائل الشرك بل هو الشرك بعينه إن قصدوا به التقرب والتعبد لهذا الشيخ أو الأمير. انتهى.
والله أعلم
الفائدة الثانية
إن من المناسب في أساليب الدعوة إلى الله إذا عصى الشخص ولم يلتفت قلبه إلى الدعوة أن يذكر بآبائه وأجداده وبما كانوا عليه من الخير والهدى
ولذلك قال : ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ))
يعني : تذكروا جدكم الأول إسرائيل الذي كان على هدى الذي كان على خير فاتبعوا طريقه
ولذا :
لو أنك دعوت شخصا ولم تجد قبولا لدعوتك فذكره بصنيع آبائه وبأجداده الذين كانوا على الخير والهدى
فلا يليق بشخص كان في بيت هدى وفي بيت علم أن يظهر بهذا المنظر الذي لا يرضاه آباؤه ولا أجداده لو كانوا موجودين
الفائدة الثالثة
أنه عز وجل أمرهم بذكر النعمة قال : (اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ)
هل قال : اذكروا نعمتي بالقول اذكروا نعمتي بالفعل اذكروا نعمتي بالاعتقاد اعتقاد القلب ؟
لا
عمم
حذف المعمول فدل على العموم ( اذكروا نعمتي )
كيف تذكر النعمة ؟
تذكر النعمة بتطبيق أركانها أو بأركان شكرها
تذكر بالقلب
تذكر باللسان
تذكر بالثناء وتذكر بالفعل
تذكر بالقلب وتذكر بالثناء وتذكر بالجوارح
كيف تذكر بالقلب ؟
تذكر النعمة بالقلب بأن يعتقد أن هذه النعمة من الله لا من غيره من البشر ولا من حوله ولا من قوته ولا من ذكائه
لا كما قاله قارون ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ))
ما العاقبة ؟
((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ))
فيجب أن تعتقد بقلبك أن هذه النعمة من الله
الذكر بالثناء انتبهوا الذكر بالثناء على نوعين :
فذكر النعمة بالثناء على قسمين:
القسم الأول : بالقول :
كما قال عز وجل :{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}
أن تذكر الله عز وجل متحدثا بنعمته من باب بيان فضل الله عليك لا من باب أن تذكرها تعظما أو تكبرا على الآخرين
هذا ذكر النعمة ثناء بالقول
هناك ذكر للنعمة ثناء بالفعل ولا يعرفه بعض الناس
بعض الناس يشكر الله ثناء
بعض الناس يذكر الله ويشكر الله ثناء باللسان لكن بالفعل لا
ما هو ثناؤك على الله عز وجل بهذه النعمة من حيث الفعل ؟
ما قاله عليه الصلاة والسلام كما في السنن :
(( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ))
إذاً :
ليس ثناء باللسان وإنما حتى بالفعل
لديك نعمة أظهر هذه النعمة فإظهارك لهذه النعمة عليك في مظهرك وملبسك من غير إسراف فإظهارك لهذه النعمة ثناء لك على الله بالفعل كما أنك تثني باللسان
الأمر الثالث : أن تذكر الله وأن تذكر نعمته بالجوارح
كيف ؟ أن تستعين بهذه النعمة على طاعة الله
أعطاك المال أين شكرك لهذه النعمة بالجوارح ؟
هل أخرجت حق الله فيها من الزكاة ؟
هل أنفقت ما يجب عليك أن تنفقه على أسرتك ؟
أم كان العكس ؟
حبس الواجب عليك من هذا المال للفقراء أو تستعين بصرف هذا المال فيما يسخط الله بأن تشتري ما لا يرضيه الله عز وجل
فقوله عز وجل : (( اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ )) كيف يكون ذكرك للنعمة بالقول وبالقلب يكون بالقلب وبالثناء والثناء نوعان :
ثناء بالقول وثناء بالفعل وبالجوارح :
والنعمة لا تقصر على شيء منفصل عنك كلا ليست النعمة في مال ليست النعمة في أولاد صالحين فحسب لا
من النعم : أن الله عز وجل خلقك خلقا سويا فلم يخلقك
أصم ولا أعمى ولا مشلولا
هذه نعم مثلا اليد كما قال ابن القيم يقول :
اليد نعمة إذا استعملتها في طاعة الله شكرت نعمة اليد تسبح الله بها تفتح المصحف بها تتصدق بها
لكن لو أنك فتحت بهذه اليد على قناة خليعة كفرت النعمة لو أنك صفعت شخصا ظلما وعدوانا كفرت نعمة اليد
وهكذا قل في الأعضاء الأخرى مثل العين :
هل شكرت نعمة الله بهذه العين
ولذلك يقول بعض السلف :
(( إذا أردت أن تعرف قدر نعمة الله عليك فغمض عينيك لحظة ))
غمض عينيك ثواني فتشعر بنعمة الله عليك
هل شكرت نعمة الله التي هي العين فنظرت بها إلى ما أباح الله أو إلى ما أوجب أو أنك كفرت بها فنظر بها إلى ما يسخط الله ؟
ولذلك بعض السلف: لما أتى إلى رجل كان يئن من الفقر متعب منهك من الفقر فقال له : هل لك بيدك مئة ألف درهم ؟
قال : لا
قال : هل لك بعينك مائة ألف ؟
قال : لا
قال : برجلك بأذنك ؟
قال : لا
قال : سبحان الله أرى عندك مئين من الآلاف وأنت تشكو الفقر ؟
كم من شخص لديه من المال ما لديه لكنه محروم من أن ينتفع بأعضائه .
نعم
بعض الناس يملك الملاين لكن لما يدخل بيت الخلاء يتعذب
لكن لا يمكن أن يتنظف إلا بالتنظيف الآلي ممن أصيب بالفشل الكلوي نسأل الله أن يشفي مرضى المسلمين
سبحان الله
انظروا إلى عظيم نعمة الله في أبداننا
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }
سبحان الله :
الواحد منا ممن هو سليم يدخل إلى بيت الخلاء وهو متعب ففي غضون خمس دقائق أو أقل أو أكثر يخرج وهو مرتاح
بينما من يغسل كلاه يتعذب أثناء الغسيل
وكم يمكث ؟
ساعات
وإذا فرغ يظل يوما أو أكثر وهو يعاني
ثم إذا به يرتاح نصف يوم أو يوم فيعود مرة أخرى
انظروا آلات عظام
لكن لما تنظر إلى عظيم نعمة الله تجد أن هذه الكلية التي بك صغيرة جدا
وكيف تفرز هذه القاذورات وهذه الشوائب من جسمك
ولذلك :
علي رضي الله عنه في ذات يوم خرج من الخلاء فمسح بطنه بيده وقال : يا لها من نعمة لو يعرف الناس قدرها
نعم نعمة أن تدخل إلى بيت الخلاء ثم تخرج وأنت سليم وأنت غير متعب
فهذه من نعمة الله
النعم لا تعد ولا تحصى ولذلك قال تعالى :
((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ))
ما الذي بعدها ؟
((إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ))
ظلوم لهذه النعم كافر بها وفي الآية الأخرى في سورة النعم
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
مع ذلك كله يعفو ويتسامح ويصفح عز وجل
الفائدة الرابعة
أن ذكر النعمة ذكر لمن ؟
للمنعم
فلما أمرهم بذكر نعمته فيها تذكير بالمنعم عز وجل
في نفس السورة :
هؤلاء بنو إسرائيل
((اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ))
الأمر بذكر النعمة التي أمر الله بها على بني إسرائيل تذكير بمن بالمنعم
إذاً : ربطت بنو إسرائيل بالنعمة التي تذكرهم بالله
في هذه السورة لما ذكرت هذه الأمة لفضلها أمروا بذكر المنعم مباشرة
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } البقرة152
سبحان الله
انظروا :
إلى الفرق بين هاتين الآيتين :
فيما يخص بني إسرائيل أمروا بذكر النعمة التي تذكرهم بالمنعم بينما هذه الأمة وهي أمة محمد عليه الصلاة والسلام أمروا بذكر الله الذي هو المنعم
ولذلك لما قال : ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ))
قال بعدها : {وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
الفائدة الخامسة
أنه عز وجل أمر بني إسرائيل بذكر نعمته قال
😩اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ )) ليست نعمة واحدة
هنا فائدة :
ـــــــــــــــــــــ
أن المفرد الواحد إذا أضيف إلى معرفة يكون عاما
وهنا نعمة أضيفت إلى ياء المتكلم
يعني : ليست نعمة واحدة وإنما نعم متعددة
قال تعالى : ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ))
نعمة مفرد ولا جمع ؟
مفرد لكن أضافها إلى الله فلما أضيفت إلى المعرفة صارت عامة بدليل قوله😩وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ))
للعموم فدل على أن الشيء الذي يحصى عام
هناك نعم كثيرة على بني إسرائيل
ما هي هذه النعم التي انعم الله بها على بني إسرائيل ؟
هو ما ذكره الله في القرآن
منها :
المن
السلوى
أن الله جعل منهم أنبياء وجعلهم ملوكا
نجاهم من الغرق
نجاهم من بطش فرعون
عفا الله عنهم بعد عبادة العجل
إذاً :
هذه نعم عظيمة فيجب أن تشكر من بني إسرائيل
الفائدة السادسة
أنه جل وعلا ذكرهم بنفسه الذي هو المنعم
قال : ((اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ))
فدل هذا على أن أي نعمة إنما هي من الله سواء كانت نعمة دينية أو دنيوية
كما قال تعالى في سورة النحل :
((وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ))
سبحان الله
وأعظم النعم: النعم الدينية ولذلك نقرأ في كل ركعة :
(( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ))
أنعم عليهم بماذا ؟
أنهم سلكوا الطريق المستقيم فهي أعظم النعم وإذا أتت هذه النعمة فليس هناك نعمة توازيها
نعمة الدين
إذا اجتمعت لك نعمة الدين مع نعمة الصحة والله ما أتى من أي نعمة أخرى فهي خير وبركة ما زاد فهو فضل وكرم
إذا ظفرت بهاتين النعمتين نعمة الإسلام ونعمة الصحة
لا تسأل عما يفوتك من نعم الدنيا
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما أعطي أحد بعد اليقين ـ يعني بعد الإسلام ـ خيرا من العافية ))
ولو لم تملك شيئا
ألم يقل عليه الصلاة والسلام عند الترمذي:
(( من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ))
العجب أننا نسعى وراء هذه الدنيا وكلنا ذلك الرجل وكل مستقل ومستكثر من أجل أن نجمع المال حتى نسعد
حتى نسر ولكن لو نظر إلى حال كثير من الناس يسعى وراء هذه الدنيا من أجل جمع المال فإذا جمع المال ففي الغالب أنه لا يسعد بل يتعب بدنه تتألم صحته وعافيته
والعجب أن هذا المال يعود مرة أخرى فيصرفه على نفسه من أجل أن تعود إليه صحته
بينما من كان مطمئنا مستقرا ولا أعظم من اطمئنان النفس إذا اطمأنت نفسك هذه هي العافية
بحيث لا تنشغل بالصوارف ولا الشواغل
قيل للشافعي :
قيل له : إنه يقال إن التغافل نصف العافية
يعني: من يتغافل عن الشيء
يا فلان حدث حادث لسيارتك لم يشغل ذهنه وتغافل كأنه لم يقع
فقيل له :
إنهم يقولون : إن التغافل هو نصف العافية
فقال : إن التغافل هو العافية كلها
وهذا موجود في كلام الله
ولذلك يسميها العلماء بآية أو بقاعدة الأخلاق
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }
(( خذ العفو )) يعني : العفو ما تيسر لا تطلب الشيء الزائد حتى من أبنائك حتى من زوجتك لا تدقق
( خذ العفو ) :
يعني : ما تيسر من الفعل من جارك من صاحبك من ابنك حتى تطمأن وحتى ترتاح حتى ولو لم يقم بواجبك حتى تبقى صحتك
((وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ )) :
يعني /: أؤمر بما هو خير وبتؤدة وبطمأنينة ليس من اللازم أن يستجيب لك ابنك أو قريبك أو من يعمل تحت إدارتك أهم شيء أن تأمر بالمعروف
ثم قد لا تسلم :
(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )
ربما يأتي شخص ويتكلم عنك بكلام أو يتصرف معك تصرفا مشينا هذا جاهل (( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ))
فإذاً : قضية النعم قضية عظيمة جدا والحديث عنها يطول
الفائدة السابعة
((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ))
أن الله عز وجل أمرهم بذكر نعمته والذكر ضده ماذا ؟
النسيان
فلا تنسوا ذكر هذه النعمة
والنسيان نوعان :
نسيان بمعنى الذهول ذهول العقل والقلب عن الشيء وإما النسيان بمعنى الترك
ولذا فسر العلماء قول الله عز وجل:
(( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ))
( فنسي )
يمكن :
أنه ذهل عن هذا النعيم ووقع فيما وقع فيه
ويكمن أن يكون النسيان هنا :
بمعنى : الترك
الفائدة الثامنة
أن الله أمر بني إسرائيل أن يوفوا بعهده حتى يوفي بعهدهم
ما هو عهدهم ؟
وما هو عهده عز وجل ؟
اعلم وسبق ذكر ذلك مرارا أن أعظم ما يفسر القرآن هو القرآن:
هذا العهد المأمور به بنو إسرائيل مذكور في سورة المائدة ومذكور عهد الله لهم إذا أوفوا بعهده:
قوله تعالى :
((وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَنا))ً
هذا عهد الله الذي هو لازم عليهم
ما هو عهده لهم إذا وفوا بعهده ؟
تتمة الآية :
(( لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ))
هل وفوا بهذا العهد ؟
قليل منهم
ولذا ما بعدها :
((فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ))
إلى آخر ما ذكر عز وجل
مقصودنا بسورة المائدة ذكر عهدهم وعهد الله عز وجل
الفائدة التاسعة:
حكم الوفاء بالعهد
قال تعالى: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون }
اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وإليه ذهب جمهور العلماء على أن الوفاء به مستحب وليس بواجب لا ديانة ولا قضاء وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
قال الحافظ : ونقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف فيه مشهور لكن القائل به قليل واستدلوا على ذلك بأدلة:
منها : ما أخرجه أبوداود والترمذي وحسنه : أنه صلى الله عليه وسلم قال : إذا واعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا شيء عليه ."
ومنها : أن الرجل إذا وعد وحلف واستثنى بقوله :" إن شاء الله " سقط عنه الحنث بالنص والإجماع فهذا دليل على سقوط الوعد منه .
القول الثاني: وإليه ذهب ابن شبرمة: إلى لزوم الوفاء بالوعد ديانة وقضاء وهو مذهب بعض السلف منهم عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وإسحاق بن راهويه والظاهرية .
واستدل أصحاب هذا الرأي بنصوص من الكتاب والسنة منها:
قول الله تعالى ( يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود ) وقوله تعالى ( يأيها الذين ءامنوا لم تقولون مالا تفعلون ) وغيرهما من الآيات .
وبما جاء البخاري ومسلم عن النبي صلى الله وسلم قال :" آية المنافق ثلاث " وذكر منها :" إذا وعد أخلف " وبهذا يكون إخلاف الوعد من صفات المنافقين ويكون محرما" .
وما أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله وسلم قال :" لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا" فتخلفه ".
القول الثالث: وهو مذهب المالكية : وقد قالوا بالتفصيل فقالوا : يجب الوفاء به إذا كان الوعد على سبب كأن يأمر بأن يدخل لشراء سلعة أو قيام بمشروع فإذا تورط الموعود رجع الواعد بوعده فهذا يجب عليه الوفاء ديانة وقضاء .
وأما إن لم يحصل ضرر على الموعود من الرجوع بالوعد فلا يلزم الوعد . وحجة هؤلاء في تفصيلهم هذا : أن النصوص الشرعية في هذه المسألة تعارضت وهذا أحسن جمع بينها .
قال قال الشنقيطي في تفسيره : اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد:
فقال بعضهم : يلزم الوفاء به مطلقا" .
وقال بعضهم : لا يلزم مطلقا" .
وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به وإلا فلا.
والذي يظهر : أن إخلاف الوعد لا يجوز لكونه من علامات المنافقين ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرا" بل يؤمر به ولا يجبر عليه
الفائدة العاشرة
التحذير والحذر من عقاب الله إذا خالف العبد أمر الله ولذا ختم الآية بقوله ((وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ))
بل إنه عز وجل قدم نفسه قال ((وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)) قال
والأصل :
أن الفعل فارهبون أن يكون هو المقدم وأن المعمول يكون هو المؤخر وإذا قدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم دل هذا على الحصر
ما هو الحصر ؟
الحصر : أن الرهبة لا يجوز أن تصرف إلا لله عز وجل
*********************************************************
قول الله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}.
ين أيدينا دعوة من الله دعوة لكل مسلم مهموم ومصاب دعوة لكل من اعتراه قلق وفزع دعوة لمن اشتدت عليه الشدائد وألمت به الملمات دعوة لمن يواجه طغيان الطغاة ومكر الماكرين وعدوان الظالمين إنها دعوة ربانيه للاستعانة بالصلاة.
نعم الاستعانة بالصلاة في مواجهة البلاء والضراء يقول ربنا جل جلاله {واستعينوا بالصبر والصلاة }
وقد كان أنبياء الله كثيرا ما يفزعون إلى الصلاة عند نزول البلاء روى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى همس شيئا لا نفهمه ثم قال: وكانوا "يعني الأنبياء" يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة
ولقد كان لرسولنا صلى الله عليه وسلم مفزع عظيم إلى الصلاة في مواجهة أعداء الدعوة في السلم والحرب روى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه في يوم بدر قال ((ولقد رايتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة يصلي ويبكي حتى أصبح)) وفي معركة بدر لما التحمت الصفوف وبدأت بالضرب السيوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يقول ابن مسعود رضي الله عنه : فما رأيت ناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم ربه فهو يقول: اللهم اني أنشدك وعدك
وفي بداية إشراق نور الإسلام عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم من استهزاء المشركين به وتألم وضاق صدره فيا ترى بماذا وجه الله نبيه لمواجهة استهزاء المشركين؟ اقرؤوا إن شئتم قول الباري عز وجل ﴿ ولقد نعلم أنه يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ﴾ ووجه الله نبيه كذلك لمواجهة طغيان أبي جهل بقوله تعالى ﴿ كلا لا تطعه واسجد واقترب ﴾
قال الإمام الشنقيطي صاحب تفسير أضواء البيان: "
"اعلم ان ترتيبه جل وعلا الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره صلى الله عليه وسلم بسبب ما يقولون له من السوء دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال المكروه ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث نعيم بن همار رضي الله عنه –أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى: يا ابن ادم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره
فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من الصلاة وغيرها. وذكر الإمام جرير في تفسيره ما رواه ابن أبي حاتم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: يا أهلاه!! صلوا صلوا.
وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ ذات ليلة فزعا وأمر بإيقاظ زوجاته للصلاة.
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة
فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل)).
وهكذا كانت الصلاة مفزعا للصحابة عند الخوف والتغيرات الجوية فعن عبدالله بن النظر قال حدثني أبي قال: كانت ظلمه على عهد أنس قال: فأتيت أنسا فقلت: يا أبا حمزة هل كان يصيبكم مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: معاذ الله إن كانت الريح لتشتد فنبادر إلى المسجد مخافة القيامة)).
فالله المستعان!! شتان بين حالنا وحال الجيل الأول من صحابه رسول الله فزع إلى المسجد وصلاة وخوف عند التغيرات الجوية، أما حالنا فغفلة وقسوة في القلوب إلا من رحم الله فرحماك ربنا رحماك
الصلاة عون على الصبر عند فقد الأبناء والآباء والأعزاء , روي أن ابن عباس نعي الى أخوه وهو في مسير مسافر فاسترجع وتنحى عن الطريق ثم صلى ركعتين ثم قام يمشي الى راحلته وهو يقول: ﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة ﴾ ولذا قال الإمام الآجري وجماعة من العلماء أن من أصيب بمصيبة يصلي ركعتين.
الاستعانة بالصلاة علاج فعال لمواجهة الأزمات والمصائب إنها ينبوع دافق في متناول كل مؤمن يريد زادا للطريق وريا في الهجير, ومددا حين ينقطع المدد, ورصيدا حين ينفد الرصيد
الصلاة لها أثر فعال في تحمل المصائب ومواجهة طغيان الطغاة إنها صلة ولقاء بين العبد والرب صلة يستمد منها القلب قوة وزادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا الصلاة معين يجدد الطاقة ويمد القلب بحبل الصبر الذي لا ينقطع ولذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم – إذا كان في الشدة قال: أرحنا بها يا بلال، بالصلاة يستمد المؤمن معية الله له بالتأييد والتثبيت والقوة والأنس والسلوان والاطمئنان إن المسلم ضعيف لا غنى له عن عون إلهي لمواجهة الابتلاءات، وفي الصلاة قوه على تحمل صدمات الفجائع والمصائب.
يا عبدالله إذا سمعت أذنك أو رأت عينك دماء المسلمين تسفك و ضاق صدرك وأهمك ذلك فافزع إلى الصلاة وادع الله لهم..
فهلا كانت الصلاة مفزعنا؟!
هلا كانت الصلاة راحتنا؟!
يا كل مهموم ويا كل مصاب ويا كل ضائق صدره دونك الصلاة فهي مستراحك وراحتك، وجلاء همك يقول ربنا : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}
*********************************************************************