السبت، 10 مارس 2018

الجزء العاشر - الربع الأول - الأحكام الفقهية




الآية الأولى:

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41].

المسألة الأولى تعريف الغنيمة وبيان حكمها:

الغنائم: جمع غنيمة، وهي في اللغة ما يناله الإنسان بسعي.

وفي الشرع: هي المال المأخوذ من أعداء الإسلام عن طريق الحرب والقتال.

وتسمى الأنفال - جمع نفل - لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكانت قبائل العرب في الجاهلية قبل الإسلام إذا حاربت وانتصر بعضها على بعض أخذت الغنيمة ووزعتها على المحاربين، وجعلت منها نصيبا كبيرا للرئيس:
أشار إليه أحد الشعراء فقال: لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول إحلالها لهذه الأمة دون غيرها:
وقد أحل الله الغنائم لهذه الأمة: 
فيرشد الله سبحانه إلى حل أخذ هذه الأموال بقوله: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم}.

ويشير الحديث الصحيح إلى أن هذا خاص بالأمة المسلمة، فإن الأمم السابقة لم يكن يحل لها شيء من ذلك.

روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصل. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لاحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وبعثت إلى الناس عامة).

وسبب ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فلم تحل الغنائم لاحد من قبلنا. ذلك لأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا» أي أحلها لنا.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يسهم لأكثر من فرس واحد، لأنه أكثر غناء وأعظم منفعة.

ويعطى الفرس المستعار والمستأجر، وكذلك المغصوب وسهمه لصاحبه.
*****************************************************************
المسألة الثانية: كيفية تقسيم الغنائم:
بين الله سبحانه وتعالى كيفية تقسيم الغنائم، فقال: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير}.

فالآية الكريمة نصت على الخمس يصرف على المصارف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، وهي: الله ورسوله، وذو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وذكر الله هنا تبركا.

فسهم الله ورسوله مصرفه مصرف الفي، فينفق منه على الفقراء، وفي السلاح، والجهاد، ونحو ذلك من المصالح العامة.

روى أبو داود، والنسائي، عن عمرو بن عبسة قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، ولما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: لا يحل لي من غنائكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم» أي ينفق منه على الفقراء، وفي السلاح، والجهاد.

أما نفقات الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت مما أفاء الله عليه من أموال بني النضير.
روى مسلم عن عمر، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.

فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.
وسهم ذي القربى: أي أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، الذين آزروا النبي صلى الله عليه وسلم وناصروه، دون أقربائه الذين خذلوه وعاندوه.

روى البخاري وأحمد عن جبير بن مطعم، قال: لما كان يوم خيبر، قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب.

فأتيت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله: أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه ويأخذ منهم الغني والفقير والقريب والبعيد، والذكر والأنثى للذكر مثل حظ الانثيين» وهذا مذهب الشافعي، وأحمد.

وروي عن ابن عباس، وزين العابدين، والباقر: أنه يسوى في العطاء بين غنيهم وفقيرهم، ذكورهم وإناثهم، صغارهم وكبارهم، لأن اسم القرابة يشملهم، ولأنهم عوضوه لما حرمت عليهم الزكاة، ولان الله جعل ذلك لهم، وقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على البعض.

واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة فأشبه الميراث.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عمه العباس وهو غني - ويعطي عمته صفية.
وأما سهم اليتامى، وهم أطفال المسلمين، فقيل: يختص به الفقراء وقيل: يعم الاغنياء والفقراء، لأنهم ضعفاء وإن كانوا أغنياء.

روى البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو معترض فرسا، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ قال: «لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش".

قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم.

وفي الحديث: «وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم".
وأما الأربعة الاخماس الباقية، فتعطى للجيش.

ويختص بها: الذكور، الأحرار، البالغون، العقلاء.

أما النساء، والعبيد، والصغار، والمجانين، فإنه لا يسهم لهم.

لأن الذكورة، والحرية، والبلوغ، والعقل، شرط في الإسهام.

ويستوي في العطاء القوي، والضعيف، ومن قاتل، ومن لم يقاتل.

روى أحمد، عن سعد بن مالك، قال: «قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، ويكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم".

وفي كتاب حجة الله البالغة: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش، كالبريد، والطليعة، والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الواقعة، كما كان لعثمان يوم بدر، فقد تغيب عنها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل مرض زوجته، رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وتقسم الغنيمة على أساس أن يكون للراجل سهم، وللفارس ثلاثة: وقد جاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل سهما.

وإنما كان ذلك كذلك لزيادة مئونة الفرس واحتياجه إلى سايس وقد يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل.

ولا يسهم لغير الخيل، لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لغير الخيل، وكان معه سبعون بعيرا يوم بدر، ولم تخل غزوة من غزواته من الإبل وهي غالب دوابهم، ولو أسهم لها لنقل الينا، وكذلك أصحابه من بعده لم يسهموا للإبل.

ولا يسهم لأكثر من فرس واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه ولا عن أصحابه أنهم أسهموا لأكثر من فرس، ولان العدو لا يقاتل إلا على فرس واحد.
*****************************************************************

المسألة الثالثة: النفل من الغنيمة:
يجوز للإمام أن يزيد بعض المقاتلين عن نصيبه بمقدار الثلث، أو الربع.
وأن تكون هذه الزيادة من الغنيمة نفسها، إذا أظهر من النكاية في العدو ما يستحق به هذه الزيادة، وهذا مذهب أحمد وأبو عبيد.

وحجة ذلك، حديث حبيب بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة، وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة» رواه أبو داود، والترمذي.

وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم لعظم عنائه في تلك الغزوة.
*****************************************************************

المسألة الرابعة: السلب للقاتل:
السلب هو ما وجد على المقتول من السلاح وعدة الحرب، وكذلك ما يتزين به للحرب.
أما ما كان معه من جواهر ونقود ونحوها، فليس من السلب، وإنما هو غنيمة.

وأحيانا يرغب القائد في القتال، فيغري المقاتلين بأخذ سلب المقتولين، وإيثارهم به دون بقية الجيش

وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبل للقاتل، ولم يخمسه رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي، وخالد بن الوليد.

وروى ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك: أن البراء بن مالك مر على مرزبان يوم الدارة، فطعنه طعنة على قربوص سرجه فقتله، فبلغ سلبه ثلاثين ألفا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا. ولا أراني إلا خمسته.

قال: قال ابن سيرين: فحدثني أنس بن مالك: إنه أول سلب خمس في الإسلام.
عن سلمة بن الاكوع قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين، وهو في سفر، فجلس مع أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اطلبوه، فاقتلوه» قال: فقتلته، فنفلني سلبه.

*****************************************************************
المسألة الخامسة: الغلول:
تحريم الغلول: يحرم الغلول، وهو السرقة من الغنيمة، إذ أن الغلول يكسر قلوب المسلمين، ويسبب اختلاف كلمتهم، ويشغلهم بالانتهاب عن القتال، وكل ذلك يفضي إلى الهزيمة، ولهذا كان الغلول من كبائر الاثم بإجماع المسلمين.

يقول الله تعالى: {وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة الغال وحرق متاعه وضربه، زجرا للناس وكبحا لهم أن يفعلوا مثل ذلك.

فقد روى أبو داود، والترمذي، عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه).

قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسألنا سالما عنه؟ فقال: بعه وتصدق بثمنه.

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، حرقوا متاع الغال وضربوه.

وقد رويت أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يأمر بحرق متاع الغال، ولا ضربه، ففهم من هذا أن للحاكم أن يتصرف حسب ما يرى من المصلحة، فإن كانت المصلحة تقتضي التحريق والضرب حرق وضرب، وإن كانت المصلحة غير ذلك فعل ما فيه المصلحة.

وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو في النار»، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها.

وروى أبو داود: «أن رجلا مات يوم خيبر من الاصحاب، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله» ففتشوا متاعه، فوجدوا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين.

*****************************************************************
المسألة السادسة: الانتفاع بالطعام قبل قسمة الغنائم:

ويستثنى من ذلك الطعام، وعلف الدواب، فإنه يباح للمقاتلين أن ينتفعوا بها ما داموا في أرض العدو، ولو لم تقسم عليهم.

روى البخاري، ومسلم، عن عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسم.

وأخرج أبو داود، والحاكم، والبيهقي، عن ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعام يوم خيبر، وكان الرجل يجئ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينطلق.

وروى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه.

وفي بعض رواية الحديث عند أبي داود: فلم يؤخذ منهما الخمس.

قال مالك في الموطأ: لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم، ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع في المقاسم.

وقال: أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام، يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون الطعام.

وقال: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش.
قال: فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدخر بعد ذلك شيئا يرجع به إلى أهله.

المسلم يجد ماله عند العدو يكون له: إذا استرد المقاتلون أموالا للمسلمين كانت بأيدي الاعداء، فأربابها أحق بها، وليس للمقاتلين منها شيء، لأنها ليست من الغنائم.
عن ابن عمر أنه غار له فرس، فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون، فردت عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن عمران بن حصين قال: أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة، قامت المرأة، وقد ناموا، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء، فأتت ناقة ذلولا، فركبتها، ثم توجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: «بئس ما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية».
وكذلك إذا أسلم الحربي وبيده مال مسلم، فإنه يرد إلى صاحبه.

*****************************************************************
الآية الثانية

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال:15، 16].

وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45].

لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الثبات في الجهاد، وتحريم الفرار؛ للآيات السابقة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. وذكر منها: وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ) متفق عليه.

إلا أنه يستثنى من ذلك ثلاثة مواضع:

الأول: أن يكون الفرار تحرُّفا لقتال، ويأتي بيان التحرّف.

الثاني: أن يكون الفرار تحيزا إلى فئة من المسلمين، ولو بَعُدَت.

الثالث: أن يزيد عدد الكفار على ضعف المسلمين، فيجوز الفرار حينئذ .
وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة، واستدل الجمهور بقوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 66].

فلا يجوز لعشرة أن يفروا من عشرين، ولا لمائة أن يفروا من مائتين، فإن زاد الكفار عن الضعف جاز الفرار.

وهذا تخفيف من الله تعالى، وهو نسخ لوجوب مصابرة العشرين للمائتين، والمائة للألف، الوارد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65].

وقول السائل: إنه لا يجوز أن نشارك في الحرب حينئذ، غير صحيح، ففرق بين قولنا: يجوز الفرار، وقولنا: يجب الفرار أو يحرم القتال، فلو أن المسلمين ثبتوا مع أضعافهم جاز ذلك، وهذا ما كان عليه حال المسلمين في أكثر معاركهم، لا سيما المعارك العظيمة الفاصلة كالقادسية واليرموك.

وينبغي التنبه إلى أنه إن هجم العدو على بلاد المسلمين، وجب الدفع، ولو كان الكفار أضعاف المسلمين، ولا يجوز الفرار حينئذ إلا للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقتال الدفع: مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلّفون من المسلمين . فههنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَموا، ونظيرها: أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتِلة أقل من النصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع، لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب " انتهى من "الاختيارات الفقهية" ص 258.

وإليك كلاما نافعا لابن قدامة رحمه الله، يبين هذه المسألة، ويوضح معنى التحرّف والتحيز، قال رحمه الله: "إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات، وحرم الفرار، بدليل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار﴾ الآية .

وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون﴾ 

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف، فعده من الكبائر ...

وإنما يجب الثبات بشرطين: أحدهما: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين، فإن زادوا عليه جاز الفرار، لقول الله تعالى: ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين﴾ .
وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر، فهو أمر ... قال ابن عباس: نزلت: ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين﴾، فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء تخفيف فقال: ﴿الآن خفف الله عنكم﴾ إلى قوله: ﴿يغلبوا مائتين﴾ فلما خفف الله عنهم من العدد، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد. رواه أبو داود .

وقال ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر.

الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيّز إلى فئة، ولا التحرف لقتال، فإن قصد أحد هذين: فهو مباح له ؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة﴾ .

 ومعنى التحرّف للقتال: أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما، أو من نزلة إلى علو، أو من معطشة إلى موضع ماء، أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم، أو تنفرد خيلهم من رجالتهم، أو ليجد فيهم فرصة، أو ليستند إلى جبل، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب ...

وأما التحيز إلى فئة: فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم، فيقوى بهم على عدوهم، وسواء بعدت المسافة أو قربت . قال القاضي: لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز، جاز التحيز إليها، ونحوه ذكر الشافعي، لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني فئة لكم، وكانوا بمكان بعيد منه، وقال عمر: أنا فئة كل مسلم، وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان . رواهما سعيد.

وقال عمر: رحم الله أبا عبيدة لو كان تحيز إلي لكنت له فئة".

ثم قال ابن قدامة رحمه الله: "وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين، فغلب على ظن المسلمين الظفر، فالأولى لهم الثبات؛ لما في ذلك من المصلحة، وإن انصرفوا جاز؛ لأنهم لا يأمنون العطب، والحكم عُلق على مظنته، وهو كونهم أقل من نصف عددهم، ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وإن غلب على ظنهم الهلاك فيه.

ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر؛ لما فيه من المصلحة.

وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة، والنجاة في الانصراف، فالأولى لهم الانصراف، وإن ثبتوا جاز، لأن لهم غرضا في الشهادة، ويجوز أن يغلبوا أيضا" انتهى من "المغني(9/254) ..

وكلامه الأخير واضح في جواز القتال مع القلّة، بل ومع غلبة الظن بحصول الهلاك، خلافا لما ظنه السائل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق