أحكام السلم
قال تعالي
﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ الأنفال: 61
من منطلق السلم والسلام كانت معاهداتُ المسلمين مع غيرهم، والَّتي بها ومن خلالها يصير الفريقان -المسلمون مع غيرهم - في مرحلة سلمٍ، أو مهادنة وموادعة. «وإذا كان الأصل في العَلاقة هو السلم، فالمعاهدات تكون إمَّا لإنهاء حربٍ عارضة والعود إلى حال السلم الدائم، أو أنها تقريرٌ للسلم وتثبيت لدعائمه، لكيلا يكون من بعد ذلك العهد احتمال اعتداء، إلاَّ أنْ يكونَ نقضًا للعهد».
وعبر عصور طويلة مارست الدول الإسلامية توقيعَ الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول غير الإسلامية، وتضمنت تلك الاتفاقيات التزامات وقواعدَ وشروطًا ومبادئ عديدة، بشكل يُمَثِّلُ تَطَوُّرًا في القانون الدَّولي الإسلاميِّ. تعريف المعاهدات والاتفاقيات المعاهدات هي تلك الاتفاقات أو العهود أو المواثيق الَّتي تعقدها الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، وتُسَمَّى المعاهدة في الحالة الأخيرة موادعة أو مصالحة أو مسالمة، ويُقَرَّرُ بمقتضاها الصلحُ على تَرْكِ الحرب،
لقوله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْـمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفال:61]
نماذج من المعاهدات الإسلامية
معاهدةُ النبي مع يهود المدينة
ما عاهد عليه رسول الله يهود المدينة عند قُدُومِهِ إليها،
وجاء في هذا العهد: «إن اليهود يُنْفِقُون مع المؤمنين، ما داموا محاربين، وإنَّ يهودَ بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلاَّ مَنْ ظَلَمَ وأَثِمَ، فإنه لا يُوتِغُ (يُوتِغُ: أي يُهْلك، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة وتغ 8/458.) إلاَّ نفسَه وأهلَ بيته، وإن ليهود بني النجار، وبني الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإنَّ بطانة يَهُودَ كأنفسهم، وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على مَنْ حارب هذه الصحيفة، وإنَّ بينهم النصح والنصيحة والبِرُّ دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإنَّ النَّصْرَ للمظلوم، وإنَّ الجارَ كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم، وإنَّ اللهَ على أتْقَى ما في هذه الصحيفة وأَبَرّه، وإنَّ بينهم النصر على مَنْ دَهَمَ يثرب، وإذا دُعُوا إلى صلحٍ فإنهم يُصَالِحون، وإذا دُعُوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلاَّ مَنْ حارب في الدين على كل أناس حِصَّتَهم من جانبهم الَّذي قِبَلَهُمْ، وإنَّه لا يَحُولُ هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثمٍ، وإنَّ اللهَ جارٌ لمَنْ بَرَّ واتَّقَى ».
ويتبين من هذا العهد أنَّه كان لتقرير حالة السِّلْمِ بين اليهود والمسلمين، كما أنَّه أمانٌ بينهم لضمان عدم وقوع الحروب، كما يظهر من هذه المعاهدة أنها كانت «لحُسْنِ الجِوَارِ، ولتثبيت دعائم العدل، ويلاحظ أنَّ فيها نصًّا صريحًا على نصر المظلوم، فهو عهد عادل لإقامة السلم وتثبيته بالعدل ونصر الضَّعيفِ».
معاهدة النبي مع نصارى نجران
المعاهدة الَّتي عقدها رسول الله مع نصارى نجران، والَّتي جاء فيها: «وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَتَبَعِهِمْ... وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ..».
معاهدة النبي مع بني ضمرة
وكان على رأسهم آنذاك مخشي بن عمرو الضمري، وأيضًا عاهد رسول الله بني مدلج، الَّذين يعيشون في منطقة ينبع، وذلك في جُمَادى الأُولَى من السنة الثانية من الهجرة (انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 3/143)، وفعل نفس الشيء أيضًا مع قبائل جهينة، وهي قبائل كبيرة تسكن في الشمال الغربي للمدينة المنورة (ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/272)
العهدة العمرية
ومن المعاهدات الإسلامية أيضًا عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء (بيت المقدس)، والَّتي سُمِّيَتْ بالعهدة العمرية.
وبالنظر إلى هذه المعاهدات وغيرها نجد أنَّ المسلمين إنما يحاولون العيشَ في جَوٍّ هادئٍ مسالِمٍ مع مَنْ يجاورونهم، وأنهم لم يَسْعَوْا لقتالٍ قَطُّ، بل كانوا دائمًا مؤْثِرين السلم على الحرب، والوفاق على الشقاق.
ضوابط وشروط المعاهدات في الإسلام
هذا وقد أنشأ الإسلام ضوابطَ وشروطًا للمعاهدات تَضْمَنُ لها أنْ تكونَ مُوافِقَةً للشَّريعةِ, وللهدفِ الَّذي مِنْ أَجْلِهِ أُجِيزَت. يقول الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: والإسلام حينما يترك للمسلمين الحقَّ في إنشاءِ المعاهدات - لِمَا يَرَوْنَ من أغراض -
يشترط في صحَّة المعاهدة ثلاثة شروط:
أوَّلاً: ألاَّ تمسَّ قانونه الأساسي وشريعته العامَّة، الَّتي بها قِوَامُ الشخصية الإسلامية، وقد جاء في ذلك قوله: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»، ومعناه أنَّ كتابَ الله يرفضه ويأباه. ومن خلال هذا الشرط لا يَعْتَرِفُ الإسلامُ بشرعية معاهدةٍ تُسْتَبَاحُ بها الشخصية الإسلامية، وتفتحُ للأعداء بابًا يُمَكِّنُهم من الإغارةِ على جهات إسلامية، أو يُضْعِف من شأن المسلمين، بتفريقِ صفوفِهم، وتمزيقِ وَحْدَتهم.
ثانيًا: أنْ تكونَ مبنيةً على التَّراضي من الجانبين، ومن هنا لا يرى الإسلام قيمة لمعاهدة تنشأ على أساسٍ من القهر والغلبة وأزيز (النفاثات)، وهذا شرط تُمْلِيهِ طبيعة العقد، فإذا كان عقد التبادل في سلعة ما - بيعًا وشراءً - لابُدَّ فيه من عُنْصُرِ الرِّضا:
{ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فكيف بالمعاهدة، وهي للأُمَّة عقدُ حياةٍ أو موتٍ.
ثالثًا: أنْ تكونَ المعاهدة بيِّنةَ الأهدافِ، واضحةَ المعالمِ، تُحَدِّدُ الالتزامات والحقوق تحديدًا لا يَدَعُ مجالاً للتأويلِ والتَّخريجِ واللَّعِبِ بالألفاظ، وما أُصِيبت معاهدات الدول المتحضِّرة - الَّتي تزعم أنها تسعى إلى السلم وحقوق الإنسان - بالإخفاقِ والفشلِ، وكان سببًا في النَّكباتِ العالميَّةِ المتتابعة، إلاَّ عن هذا الطريق، طريق الغموض والالتواء في صَوْغِ المعاهداتِ وتحديدِ أهدافها، وفي التحذير من هذه المعاهدات يقول الله تعالى: { وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ } [النحل:94]، والدَّخَلُ هو الغش الخفيُّ يدخل في الشيء فيفسده (توفيق علي وهبة: المعاهدات في الإسلام ص 101،100).
وجوب الوفاء بالعهد وقد أَكَّدَتِ الآياتُ القرآنية وأحاديثُ الرَّسولِ على وجوب الوفاء بالعهد،
ومن ذلك قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]،
وقوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا } [الأنعام:152]،
وأيضًا: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء:34]،
وغيرها الكثير من الآيات الَّتي تشير إلى هذا المعنى العظيم.
وأمَّا ما جاء في أحاديثِ الرَّسولِ فمنه ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: « أَرْبَعُ خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا » .
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: « لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ، وثبت عنه أنَّه قال: « مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَهْدًا، وَلاَ يَشُدَّنَّهُ، حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ »، وفي سنن أبي داود عن رسول الله قَالَ: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ».
والفقهاء - وهم يَرَوْنَ أنَّ الجهادَ يكون مع الأمير الصالح والفاسق - يذهب أكثرُهم إلى أنَّ الجهادَ لا يكون مع الأمير الَّذي لا يلتزم الوفاءَ بالعهود، وعلى خلاف القانون الدولي في الحضارة المعاصرة فإنَّ تَغَيُّرَ الظُّروفِ لا يُبَرِّرُ نكث العهد، وحتَّى إذا عجز المسلمون في ظروفٍ مُعَيَّنَةٍ عن الوفاء بالتزاماتهم يجب عليهم مراعاة التزامات الطرف الثاني، ومن هذا الباب القصة المشهورة عندما استولى القائد المسلم أبو عبيدة بن الجراح على حمص، وأخذ من أهلها الجزية، ثم اضطر إلى الانسحاب منها فردَّ الجزية الَّتي أخذها من السكَّان، وقال: «إنما رَدَدْنا عليكم أموالَكم، لأنَّه بلغنا ما جُمِعَ لنا من الجموعِ، وأنَّكم قد اشترطتم علينا أنْ نمنعَكم، وإنا لا نقدر على ذلك.. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشَّرْطِ وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم» (أبو يوسف: الخراج ص 81).
والأمثلة كثيرة من هذا النوع في التاريخ الإسلامي، فتغيُّر الظروف والمصلحة القومية لا تبرِّر في الإسلام نقض العهد، كما لا يُبرِّره أن يرى المسلمون أنفسَهم في مركز القوة تجاه الطَّرف الثاني، وقد ورد النَّصُّ الصَّريحُ في القرآن يؤكِّد ذلك،
فقال تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [النحل:91]،
مع الأخذ في الاعتبار بأنَّ ذلك التَّشديدَ على المسلمين بالوفاء بالعهد كان في وقتٍ وفي بيئةٍ لم تَكُنِ القاعدةُ فيهما الوفاء بالعهود.
هذا هو حُكْمُ الإسلام في المعاهدات الَّتي تُوَقِّعُها الدولةُ الإسلاميَّةُ مع الدول الأخرى لحفظ السلام، فنحن مطالَبُون بالوفاء بها، والمحافظة عليها، وعدم نقضها، إلاَّ إذا نقضها العدُوُّ، أمَّا إذا لم ينقضها، ولم يُظَاهِرْ على عداء المسلمين، فعلى المسلمين الوفاء لهم
لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4].
يقول الشيخ محمود شلتوت: «إنَّ الوفاءَ بالمعاهدةِ واجبٌ دينيٌّ، يُسأل عنه المسلم فيما بينه وبين الله، ويكونُ الإخلالُ بها غدرًا وخيانةً» (محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة ص457).
وبهذا يكون الإسلام قد سبق كل الأمم الأخرى بتشريعاتها في مجال تقنين المعاهدات الدولية, بل وتميَّزَ عنها في عدالته وسماحته مع أعدائه, والأهمُّ أنَّ ذلك السبق كان عمليًّا ولم يكن مجرَّد تنظير، ويدلُّ على ذلك ما وَقَّعَه المسلمون من معاهداتٍ مع أعدائهم بداية من عصر الرَّسولِ مرورًا بعصر الخلفاء الرَّاشدين, ثُمَّ من بعدهم من عصور إسلامية.
تأمين الرسل في الإسلام
أمَّا في تأمين الرُّسُلِ فقد جاء التشريع الإسلامي غاية في الوضوح في هذا الأمر،
ودلَّتِ النُّصوصُ الصَّريحةُ والأفعال الَّتي قام بها النبي على عدم جواز قتل الرسل بأي حال من الأحوال، وقد ألزم فقهاء الشريعة الإسلامية إمام المسلمين بتوفير الحماية لشخص الرسول، وضمان تمتُّعه بحُرِّيَّةِ العقيدة وأداءِ أعماله بحُرِّيَّةٍ تامَّةٍ (انظر: ابن حزم: المحلى 4/307).
ويترتَّب على ضمان حماية شخص الرسول عدم جواز القبض عليه كأسير، كما لا يجوز تسليمُه لدولته إذا طلبته ورفض هو ذلك، حتَّى وإنْ هُدِّدت دارُ الإسلام بالحرب، لأنَّ تسليمه يُعَدُّ غدرًا به، ولأنَّه يتمتَّع بالحماية في دار الإسلام (عبد الكريم زيدان: الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام ص169).
ولمهمَّة الرسول دورٌ كبيرٌ في عقد الصلح أو التحالف أو منع حدوث حرب، ولهذا فإنه ينبغي أنْ تتوافرَ له السُّبُلُ والمستلزماتُ كافَّة، لا لشخصه، وإنما من أَجْلِ أداء مُهِمَّتِه المكلَّف بها، فهو يُعَبِّر عن مُرْسِلِهِ، وإن كان له رأي آخر ما دام قد قَبِلَ أداء هذه المهمَّة، وعلى المُرْسَل إليه مراعاة هذه الحالة. فقد روى أبو رافع فقال: بعثتني قُرَيْشٌ إلى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، فلمَّا رأيتُه وقع في قلبي الإسلامُ، فقلتُ: يا رسول الله، والله لا أرجع إليهم أبدًا، فقال: «إِنِّي لا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ وَارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الآنَ فَارْجِعْ ».
وقد أورد الهيثمي في كتابه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) مجموعة من الأحاديث تحت باب سمَّاه (باب النهي عن قتل الرسل)، منها: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حين قتل ابن النواحة: إن هذا وابن أثال كانا أَتَيَا النبي رسولين لمسيلمة الكذاب فقال لهما رسول الله: «أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ »، فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. قال: «لَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاً لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا».
قال الهيثمي: فَجَرَتِ السُنَّة أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ (الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5/378). وبذلك تكون الحضارة الإسلامية قد سبقت المجتمعات الغربية بأكثر من 1400 سنة في وضع القواعد الإنسانية الحضارية للرُّسُلِ، تلك المجتمعات الَّتي لم تَعْتَرِفْ بهذه القاعدة حتَّى وقت قريب.
*******************************************************************
أحكام الأسرى
قال عز و جل
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 67).
الأسرى: هم الرجال المقاتِلون من الكفار إذا ظفِر المسلمون بأَسْرهم أحياءً.
مشروعية الأسر.
الدليل على مشروعية الأَسر في الإسلام هو قوله تعالى: ﴿ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، وفي قوله تعالى: ﴿ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ﴾ [محمد: 4]، وهذا كناية عن الأَسر.
أولا: معاملة الأسرى في الإسلام، ومعاملة غير المسلمين للأسرى:
المحور الأول: كيف عامَل الإسلام الأسرى؟
من القرآن، والسنَّة، وفعل الخلفاء وقادة المسلمين.
أولاًّ: من القرآن الكريم:
إن القرآن وضَع للمسلمين منهجًا قويمًا حتى في الحروب، ووضَع لهم فيها ضوابطَ يسيرون عليها، ونهاهم عن تعدِّي هذه الضوابط، ولم يُجِزْ لهم ما يسمى: "الغاية تبرر الوسيلة"، وإلا لأصبحنا ميكافيللين؛ ولهذا كان للإسلام منهجٌ رحيمٌ حتى في الحرب،
قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، وهذا منهج عام، أما ما يتعلق بالأسرى، فقال – تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8].
ثانيًا: السنة النبوية:
لقد مضت السنَّة على هذا النهج، وذلك في عدة حوادثَ ووقائع، وأذكر منها:
1-قال أبو عزيز بن عمير: مرَّ بي أخي مصعبُ بن عمير ورجلٌ من الأنصار يأسرُني، فقال له: شدَّ يديك به؛ فإن أمَّه ذات متاع، قال: وكنتُ في رهطٍ من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم خصُّوني بالخبز، وأكلوا التمرَ؛ لوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم بنا، ما يقع في يد رجلٍ منهم كسرةٌ من الخبز إلا نفحني بها.
ففي هذا الحديث تحذف الإحسان لهذا الأسير، وتقديم أفضل الطعام له، فالخبز كان طعامَه، والصحابة يأكلون التمر، ومعلوم أن الخبز كان طعامًا عزيزًا، أما التمر، فهو متوفِّرٌ بكثرةٍ عندهم.
2-قصة ثمامة بن أثال:
وهذه هي القصة الثانية:
عندما خرجت خيلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسرتْ رجلاً من بني حنيفة، ولا يعلمون من هو، وجاؤوا به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: ((أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسِنوا إساره))، ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله فقال: ((اجمعوا ما كان عندكم من طعامٍ فابعثوا به إليه، وأمر بلِقْحتِه أن يُغْدى عليه بها ويراحَ.
3-فعل صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين:
لَمَّا أَسر صلاحُ الدين الأيوبي عددًا من جنود الجيش الصليبي، وكان لا يوجد عنده ما يكفيهم من الطعام - أطلق سراحَهم لئلا يموتوا جوعًا، ورأى أن يقتلَهم محاربين أفضلَ من أن يقتلَهم في الأَسر جائعين.
المحور الثاني: صورٌ من معاملة غير المسلمين للأسرى:
ذكر أبو زهرة في كتابه (العلاقات الدولية) عن أحد الفلاسفة الغربيين - وهو الفرنسي جوستاف لوبون - قصةً يوازن فيها بين أفعال قادة الجيوش الصليبيةِ، وفعل صلاح الدين الأيوبي، فيقول: "كان أولُ ما بدأ به ريكارد أنه قتَل صبْرًا أمام معسكر المسلمين ثلاثةَ آلاف أسيرٍ مسلمٍ سلَّموا أنفسهم إليه بعد أن أعطاهم عهدًا بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العِنان باقتراف القتل والسلبِ، وليس من السهل أن يتمثَّل المرء درجةَ تأثير هذه الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحِم نصارى القدس، فلم يمسَّهم بأذى، والذي أمدَّ فيلب وقلبَ الأسد بالمرطبات والأزواد أثناء مرضهما.
*********************************
ثانيا: مصير الأسرى في الإسلام:
المحور الأول: أقوال فقهاء الإسلام:
بعد هذا العرض الموجز، وبالنظر إلى صُوَر معاملة المسلمين لأَسراهم مقارنةً مع غير المسلمين، يتبيَّن لنا مدى إحسان المعاملة عند المسلمين، وأَعرض في هذا المحور مصيرَ الأسرى في الإسلام، ونحن نعلم يقينًا أن الإسلامَ أحسنَ المعاملةَ مع الأسرى، ولكن هذا لا يمنع من اتخاذ إجراءات فيهم، وتقرير مصيرهم، واختلفت الفقهاء في تقرير مصيرهم؛ مستندين إلى أدلة شرعيةٍ، ووقائعَ نبوية، أصدروا أحكامَهم بناءً عليها، وهنا أَعرض آراءهم، ثم أناقش أدلتهم:
اختلفت الحلول المتَّخَذة في حق الأسرى؛ فمن الفقهاء مَن قال بقتلهم، ومنهم من قال بأنهم يصبحون رقيقًا، ومنهم من قال: لا يُقتلون، بل يُفادون بالمال، أو بالاستبدال بأسرى، ومنهم من جعل الخيارَ للإمام، فهو الذي يقرِّر المصير، وبعضهم قال بعدم جواز قتل الأسرى.
وأمام هذه الآراء المختلفة والمتباينة النتائج، نعرض آراء كلِّ فريق، ثم أذكر أدلتهم، وأبيِّن سبب الاختلاف بين الفقهاء في هذه المسألة.
1-مذهب الحنفية: أن الإمام أو نائبَه في الجهاد مخيَّر بين أمرين: إما القتل وإما الاسترقاق، وليس له أن يمنَّ عليهم بدون مقابل أو بمقابل.
2-مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل: أن الإمامَ مخيَّرٌ في الأسرى بين أحد أربعة أمور: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما أن يمنَّ عليهم.
3-مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن الإمام مخيَّر فيهم بخمسة أمور: القتل، أو الفداء، أو الاسترقاق، أو الجزية، أو المن.
4-مذهب بعض التابعين - كالحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير: عدم جواز القتل، وأن الإمام مخيَّر بين المنِّ والفداء.
المحور الثاني: أدلة كل فريق:
1-الحنفية: قال الماوردي: وقال أبو حنيفة: يكون الإمام مخيرًا بين شيئين: القتل أو الاسترقاق، وليس له المنُّ ولا المفاداةُ بالمال.
وذكر محمد بن الحسن الشيباني في شرح السير الكبير: أن الإمام بالخيارِ في الرجال من أُسارى المشركين بين أن يقتلَهم وبين أن يسترقَّهم.
واستدلوا على القتل بالأدلة التالية:
أ- من القرآن: يقول تعالى: ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ ﴾ [الأنفال: 12]، وهذه الحالة - أي: الضرب فوق الأعناق - لا يتمكَّن منها الضارب إلا إذا كان المضروبُ متمكَّنًا منه حتى يظهر المفصلُ.
ب- من السنة: أن النبي أمر بقتل عقبةَ بن أبي مُعَيْط، والنضر بن الحارث يوم بدر.
ج- من السيرة النبوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل يهود بني قريظة بعد أن أسرهم؛ فاستدلوا على هذا بفعل النبي.
د- دليل عقلي؛ ذكره محمد بن الحسن الشيباني في شرح السير، قال: إن الأمنَ من القتل إنما يثبت بالأمان أو الإيمان، وبالأسر لا يثبت شيءٌ من ذلك، فحرمةُ الأسير منتهَكة إلا إذا آمن بالإسلام أو بالأمان، وهذا الأسير خرج لقتال المسلمين، وواجبٌ قتلُه؛ لأنه خرج مقاتلاً.
واستدلوا على جواز الاسترقاق بأن هؤلاء الأسرى يُعتبرون غنيمة حصل عليها المسلمون عَنوة وقهرًا بإيجافالخيلِ والرِّكاب.
2-أدلة الشافعي وأحمد بن حنبل:
قال الماوردي: فذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - إلى أن الإمام، أو من استنابه الإمامُ عليهم في أمر الجهاد - مخيَّرٌ فيهم - إذا أقاموا على كفرهم - في الأصلح من أحد أربعة أشياء: إما القتلُ، وإما الاسترقاق، وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما المنُّ عليهم بغير فداءٍ.
وقال المرداوي الحنبلي: ويخير الأمير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمنِّ والفداء بمسلِمٍ أو بمال.
أدلتهم على جواز القتل:
أ- من القرآن: قال – تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، وهذا دليل عامٌّ على جواز القتل في الحرب أو الأسر.
ب- من السنة: أن النبيَّ قتل النضرَ بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، وهما من أسرى بدر.
أدلتهم على جواز المنِّ بدون مقابل:
ما رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهل مكَّةَ هبطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر، فأخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - سلمًا فأعتقهم؛
فأنزل الله - عز وجل: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ ﴾ [الفتح: 24].
أدلتهم على جواز المفاداة بمالٍ:
استدلوا بِما أخرجه أبو داود فيما رواه ابن عباس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "جعل فداءَ أهل الجاهلية يومَ بدر أربعمائة درهم"؛ رواه أبو داود، ج 2، ص 10.
أدلتهم على جواز المفاداة بأسرى مسلمين:
استدلوا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم عن عمران بن حصينٍ أن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم: ((فدى رجلينِ من المسلمين برجلٍ من المشركين من بني عَقيل)).
3-أدلة المالكية:
قال الحطاب: كالنظر في الأسرى بقتلٍ، أو مَنٍّ، أو فداء، أو جزية، أو استرقاق.
• أدلتهم على القتل والمنِّ والفداء هي كالأدلة التي استدل بها أصحابُ المذاهب السابقة.
• أدلتهم على الاسترقاق من قوله – تعالى: ﴿ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ﴾ [محمد: 4]، ففهموا من هذا دلالةً على الاسترقاق، ومن باب المعاملة بالمثل، أما الجزية فمن باب أنه سيتركهم أحرارًا في بلد المسلمين، وأن الذمةَ ستنعقد لهم، واستدلوا على ذلك بفعل عمرَ في أهل السواد.
4-أدلة الحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير.
قالوا بعدم جواز قتل الأسير؛ وإنما يخيَّر الإمام بين المنِّ والفداء فقط، ولم يجيزوا القتلَ والأمور الأخرى التي قالها الفقهاء الآخرون.
• استدلوا بقوله – تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ... ﴾ [محمد: 4].
فقالوا: بأن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والمعنى: فضرْبَ الرقابِ حتى تضع الحربُ أوزارها فإذا أثخنتموهم، فشدُّوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسيرَ، وقالوا: بأن هذه الآيةَ فقط هي التي تبيِّن حُكم الأسرى، وهو المنُّ أو الفداء، أما الاسترقاق فلم يرِد فيه دليلٌ، وعلَّلوا فعل الرسول بقتْل الأسرى أنه كان لأسباب.
• واستدلوا على المنِّ بفعل الرسول في أسارى فتح مكة، والأدلة السابقة الذكر التي فيها المنُّ على الأسرى؛ كقوله – تعالى: ﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ﴾ بمحمد: 4]، والفداء بالأسرى كما فعل عندما استبدل سعدُ بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بأسير قريشٍ؛ وذلك في سرية عبدالله بن جحش.
• ويجوز عندهم الفداءُ بمال، واستدلوا على ذلك بأنَّ الرسول أخذ من رجلٍ يُكنى بأبي عزيز أربعةَ آلاف درهم فداءً له في بدر.
المحور الثالث: سبب الخلاف والترجيح:
إن سبب الخلاف بين الفقهاء في تحديد مصير الأسرى إنما يعود إلى تعدُّد الأحاديث التي تبيِّن لنا مصيرَ الأسرى، وبسبب تعدُّد الوقائع التي وقعتْ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمرة قَتل الأسرى، ومرة منَّ عليهم، ومرة أطلق سراحَهم مقابل مال، ومرة مقابل فكِّ أسرى مسلمين كانوا قد وقعوا في أسرِ الأعداء.
فكل فريقٍ من الفقهاء استدل لمذهبه بحادثة أو بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثةٍ ما، ولكن من خلال النظر إلى تعدُّد هذه الوقائع المختلفة النتائج، نستنتج أن مصير الأَسرى مرتبطٌ بواقعهم الذي حدثت فيه تلك الوقائع، فبالنظر إلى واقعهم يتبيَّن لنا سببُ هذا المصير الذي لحق بهم.
وأيضًا من خلال النظر إلى واقع المسلمين من حيث القوة والضعف، أو من خلال تقديم الأولويات من قِبَل ولي أمر المسلمين، فهو الذي يقرر إما أن يقتلَ الأسرى، وإما أن يمنَّ عليهم، وإما أن يبادلَهم بمال، أو أسرى مسلمين وقعوا في قبضة الأعداء.
وإن ما أرجِّحه هو أن الإمام مخير في الأسرى، بما يعود على الأمة بالخير؛ وذلك بالنظر إلى حال الأسير ووضعه، والأمر الثاني بالنظر إلى حال المسلمين ووضعهم، وهذا المعنى نستنتجه من الوقائع النبوية، وتحليل مضمونها من خلال النظر إلى خفاياها.
فمثلاً القتل الذي حلَّ بيهود بني قريظة، لا لأنهم أسرى قُتلوا فقط أو لأنهم يهود؛ وإنما هناك أمور أخرى، وهي أنهم نقضوا العهدَ، وخانوا الرسول، ومعلوم أن مصير الخائنِ القتلُ حتى عند أصحاب القوانين الوضعية، ونُقل عن مالك والأوزاعي والحنابلة والشافعي في أحد قوليه أنَّ من نقض العهد يقتل.
وكذلك ما حصل مع عقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث يوم بدر، فهؤلاء غدروا وخانوا، وزيادة على هذا أن هؤلاء كانوا محرِّضين على الإسلام، فهم يشكِّلون الجهاز الإعلامي المناهض للإسلام، ولهم خطرٌ كبير على الإسلام، وليسوا أناسًا عاديين يُؤمن شرُّهم.
أما موضوع الاسترقاق والتخيير بينه وبين القتل، مثل ما حصل من فرات بن حيان، وكان النبي قد أمر بقتلِه وكان ذميًّا وعينًا لأبي سفيان، وحليفًا لرجل من الأنصار، فمر بحلقةٍ من الأنصار، فقال: إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، إنه يقول: إنه مسلمٌ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: ((إن منكم رجالاً نكِلُهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان))؛ رواه الإمام أحمد في مسنده، فالرسولُ كان مخيَّرًا فيه، ولربما لو كان له خطرٌ لَما تركه؛ كما فعل مع عقبة والنضر بن الحارث يوم بدر.
وأما ما حصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنِّ على أهل مكة يوم الفتح، فمن خلال النظر إلى حال المسلمين من القوة، وحال المشركين من الضعف، وربما نظر النبيُّ إلى أبعدَ مما ننظر ونتطلَّع إليه من أن يسلموا، فالإسلام ما جاء لإبادة البشر، فهو دين دعوة، وما حصل من ثمامة بن أثال هو خيرُ دليل على هذا، وليس ببعيدٍ عنا.
وعندما أطلق سراح الأسرى بأسرى مسلمين، فذلك من أجل تحقيق مصلحةٍ، وهي تحرير المسلمين من قبضة العدو، مثل ما حصل في سَرية عبدالله بن جحش، فالحِفاظ على حياة الأسرى الكفار لاستبدالهم بأسرى مسلمين كان لمصلحةٍ، وكذلك المنُّ بدون مقابل أيضًا.
فكل واقعة كانت مرتبطةً بحدثٍ ما، يجب ألاَّ نَغفُل عنه، ونأخذَ في الحُكم بمصير الأسرى بناءً على حادثةٍ بعينها؛ وإنما ننظر لأبعادها، وألا نضيِّق ولا نقبَل الرأي الآخر؛ فقد يكون صوابًا في حادثة ولا يكون كذلك في حادثة أخرى؛ فبالنظر إلى مجموع النصوص الواردة في تقرير مصير الأسرى وأبعادها ونتائجها، نُصدر الحكم.
بقي أمرٌ أخير، وهو قول الحسن البصري وعطاء وسعيد القائلين بعدم جواز القتل للأسرى؛ فهذا رأي تنقضه الآياتُ العامة والوقائع التي فيها قتلٌ لبعض الكفَّار، حتى وإن كانوا أسرى، وأيضًا فعلُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمنعُ القتل مطلقًا ليس برأي مسلَّمٍ به على إطلاقه؛ لإمكان تحقيق مصالح من وراء هذا الفعل، وهو القتل للبعض بالنظر إلى أحوالهم.
الترجيح:
إن ما أرجِّحه من خلال وجود أدلة ووقائع متعددة النتائج، وهي صحيحة وثابتة، منها ما فيه القتل، ومنها ما فيه المنُّ، ما فيه الفداءُ... إلخ، تلك النتائج التي حلَّتْ وقرَّرتْ مصير الأسرى - أن الجمعَ بين النصوص هو الأَولى من الأخذ بنص دون آخر؛ وذلك من خلال النظر إلى أحوال الأسير، وبالنظر إلى أحوال المسلمين من حيث القوة والضعف، وأثر الأسير على الإسلام والمسلمين.
وباختصار أقول: إن وليَّ الأمر أو من ينوب عنه من قادة الجيوش ينظر: فما كان فيه تحقيق مصلحة للإسلام والمسلمين، قدَّمه على غيره، وما كان فيه تحقيق مصلحةٍ أَولى من الأخرى قدَّمه.
قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: وأنا أقول: الأمرُ في الأسرى إلى الإمام، فإن كان أصلحَ للإسلام وأهلِه عنده قتلُ الأسرى، قَتل، وإن كانت المفاداةُ بهم أصلحَ، فادى بهم بعضَ أُسارى المسلمين.
قلت: وهذا ما يُزيل الخلافَ بين الفقهاء؛ أي: بالنظر للأصلح، فما كان فيه المصلحة - بل الأَولى - قدَّمه.
*********************************
ثالثا: حكم تبادل الأسرى - الأموات والأحياء :-
تبادُل الأسرى بين المسلمين والأعداء أمرٌ مشروع، ودلت عليه وقائعُ من سيرته - عليه الصلاة والسلام - سواء كانوا أحياءً أم أمواتًا، ولولي الأمر أو من ينوب عنه، أن يبادل الأسرى بما فيه الأصلحُ والأنسب، فإما بمال أو بأسرى مسلمين أو بشيء آخر.ففي مبادلة الأسرى الأموات، ما حصل يوم الخندق، وذلك إن رغب العدو؛ روى ابن إسحاق أن نوفل بن عبدالله بن المغيرة كان اقتحم الخندق فتورَّط فقتل، فغُلب المسلمون على جسده، فعرَض المشركون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف درهم مقابل الحصول على جثته، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم: ((لا حاجة لنا في جسده ولا بثمنه)).
ففي هذه الحادثة دليلٌ على جواز مبادلة الأسير بمال أو نحوه، ولا يوجد دليلٌ على منعه.
أما الدليل على جواز المبادلة بمال أو أسرى أو غير ذلك:
فهو أنه قد أخذ من رجل يكنى بأبي عزيز أربعةَ آلاف درهم فداءً له في بدر.
وأيضًا ما جاء في شأن أسرى غزوة بني المصطلق، وكان من بينهم جويرية بنت الحارث، فأبوها جاء إلى المدينة ومعه كثير من الإبل ليفدي بها ابنتَه.
*********************************
رابعا: عدل الإسلام في الأسرى.
بعد هذا العرض الموجز لمصير الأسرى في الإسلام وعرض أدلة الفقهاء في مصيرهم، يتبيَّن لنا أن الإسلامَ هو أعدلُ الأديان وأحكمُها وأرحمها، وذلك من خلال النظر إلى أحكامه ومقاصده، ويتضح ذلك جليًّا من خلال النظر لمعاملة المسلمين لأسراهم، وذلك مقارنةً مع معاملة غير المسلمين للأسرى، وأذكر هنا قول ذلك الفرنسي المستشرق - وهو جوستاف لوبون - إذ يقول: "والحق أنَّ الأمم لم تعرف فاتحين رحماءَ متسامحين مثلَ العرب، وإذا حدث أنِ انتحل بعضُ الشعوبِ النصرانية الإسلامَ، واتخذوا العربيةَ لغةً لهم، فذلك لِما كان يتصف به العربُ من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهدٌ بمثله"، فالمسلمون حتى في أحْلك الظروف وأشدِّها تظهرُ آثار رحمتِهم على الناس، ويتحلَّوْن بمبادئ الحق والعدل.وهنا أختم وأقول: بأن الأسرى ما كانوا أسرى؛ لأنَّ المسلمين أرادوا لهم أن يكونوا كذلك، ولكنهم هم أرادوا هذا بعد رفضِهم لدعوة الحق، فالمسلمون أرادوا أن يوجِّهوهم إلى عبادة الله وحده، ولكنهم أبَوْا ففرُّوا من رقِّ الله إلى أَسر المسلمين، وهذه الحالة -أي: الأسر- ما هي إلا أثرٌ من آثار الحروب، والحرب ذاتها أمرٌ مستكرَه عند المسلمين ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]،
فالحرب نفسُها أمرٌ لا يرغبه المسلمون، ولكن إن وقعت فهُم لها، وهم بإسلامهم لله لن يظلموا الأسرى، ويكفي أن يقال: إنهم سيقيمون فيهم أمرَ الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق