الآية الأولى
{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ . فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77].
نقض العهد مع الله
العقودُ هي: العهود، وهي إلزام والتزام، سواء كان فيه يمين أو لم يكن؛ ولذلك فهي أشبه بالنذر أو اليمين،
وقد اختلف أهل العلم في صيغة أعاهد الله على كذا،
فذهب الحنفية إلى أنها من الأيمان؛ لأن اليمين هي عهد الله على تحقيق شيء أو نفيه، كما في "الاختيار لتعليل المختار"، وهو قول للمالكية، كما في "مختصر خليل"، ومذهب الحنابلة كما في "المغني" لابن قدامة، وعند الشافعية تكون يمينا بالنية كما في "تحفة المحتاج".
وذهب أبو بكر الجصاص كما في "أحكام القرآن" إلى أن العهد نذر، فقال تعليقًا على آية التوبة السابقة: "فيه الدلالة على أن من نذر نذرًا فيه قربة، لزمه الوفاء؛ لأن العهد هو النذر والإيجاب، نحو قوله: إن رزقني الله ألف درهم، فعلي أن أتصدق منها بخمسمائة، ونحو ذلك". اهـ.
وفي "المدونة": "إن قال علي عهد الله وذمته وكفالته وميثاقه؟ قال مالك: هذه أيمان كلها قال: وأخبرني ابن أبي ذئب عن ابن شهاب، أنه قال: "من عاهد الله على عهد فحنث، فليتصدق بما فرض الله في اليمين، وقاله ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد، قال ابن وهب عن سفيان الثوري عن فراس عن الشعبي قال: إذا قال: علي عهد الله فهي يمين".
وقال ابن قُدامة في "المغني": "إن قال: عليَّ عهدُ الله وميثاقُه لأفعلنَّ، أو قال: وعهدِ الله وميثاقِه لأفعلنَّ - فهو يمين، وإن قال: والعهدِ والميثاقِ لأفعلنَّ - ونوى عهد الله - كان يمينًا؛ لأنَّه نوى الحلِفَ بصفةٍ من صفات الله تعالى".
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنها تارة تكون يمينًا ونذرًا، وتارة تكون يمينًا فقط؛ فقال - رحمه الله - في "الفتاوى": "والعهودُ والعُقود مُتقاربةُ المعنَى، أو متَّفقة، فإذا قال: أُعاهِدُ اللهَ أنِّي أحجُّ العامَ، فهو نذرٌ وعهْدٌ ويَمين، وإن قال: لا أُكَلِّمُ زيدًا، فيَمينٌ وعهدٌ لا نذر، فالأيْمان تضمَّنتْ معنَى النذر، وهو أن يلتزِمَ لِلَّه قربةً، لزمه الوفاء، وهي عَقْدٌ وعهد ومعاهدة لِلَّه؛ لأنَّه التزم لله ما يطلبُه الله منه".
وعليه فمن لَم يفِ بما عاهد الله عليه، فقد نقَض العهد الَّذي بينه وبين الله، ويجب عليه التوبة، وكفارة يمين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الفتاوى"، قال: "إن ما وجب بالشرع إن نذره العبد، أو عاهد الله عليه، أو بايع عليه الرسول، أو الإمام، أو تحالف عليه جماعة، فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا، غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول، فتكون واجبة من وجهين، بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهد والميثاق، وما يستحقه عاصي الله ورسوله، هذا هو التحقيق، وهو رواية عن أحمد، وقاله طائفة من العلماء". ثم استدل – رحمه الله - على ذلك بآيات كثيرة، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، ثم قال: "فإن الله أعلن عهده الذي أمرهم به، من بعد ما أخذ عليهم الميثاق بالوفاء به، فاجتمع فيه الوجهان: العهدي، والميثاقي". وهذا القول أقرب للصواب، وأحوط في الدين، وأبرأ للذمة.
********************************************************
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة:79]
حكم الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة من أوصاف المنافقين
إن من يُظهر الأعمال المشروعة ويسعى جاهداً في بذلها ونفسُه سخيَّةٌ بها حقه أن يُكرم ويوقر، وأن تُكِنَّ له القلوب المحبةَ والمودة، وأن يُدعى له بالخير لقاءَ جهوده وجزاء إحسانه ومقابل بذله وعطائه، أيًّا كانت أعماله التي يظهرها ما دامت أعمالاً مشروعة؛ ومن ذلك الدعوة إلى الله، وتحفيظ القرآن، وبناء المساجد، وطباعة الكتب النافعة، وكفالة الأيتام ، ومساعدة الفقراء ، وإعانة المعسرين ، وقضاء الديون ، ومساعدة المتزوجين ، إلى غير ذلك من أعمال البر المشروعة ؛ فكل من يقوم بشيء من هذه الأعمال المباركة ويسعى في هذه المصالح النافعة حقه الإكرام وأن يحسَن به الظن ، إذ هو على ثغرةٍ مباركة وفي عملٍ نبيل ، وكيف يساء بأمثال هؤلاء الظن ، أو تكال لهم الطعون أو توجَّه إليهم التُّهم أو يدخل في نواياهم ومقاصدهم ؟!
وقد ذمَّ الله المنافقين بمثل هذا ، قال الله عز وجل { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة:79] ،
فقد جاءت هذه الآية ضمن سياقٍ كريم في سورة التوبة في بيان أوصاف المنافقين وقبائحهم ومخازيهم، وفي السورة آيات ٌكثيرة منها ؛ ما يبدأ بقوله {وَمِنْهُمْ} ، ومنها ما يبدأ بقوله {الَّذِينَ } ثم تُذكر أوصاف هؤلاء ، وفي هذه الآية ذكر عز وجل من أوصافهم أنهم يلمزون المطوعين في الصدقات ويلمزون كذلك الذين لا يجدون إلا جهدهم ؛ أي أنهم يلمزون المكثر من الإنفاق في سبيل الله بأنَّ قصده بنفقته الرياء والسمعة والمفاخرة ونحو ذلك ، ويلمزون المقِلَّ في النفقة لكونه لا يجد إلا القليل بقولهم : إن الله غني عن نفقته .
فلم يسْلَم منهم مقلٌّ ولا مكثِر، بل لا يدَعون شيئاً من أمور الدين وأفعال الخير يرون لهم فيها مقالاً إلا طعنوا وتكلموا بالبغي والعدوان والظلم والبهتان. نسأل الله العافية والسلامة.
وروى الحافظ أبو بكر البزار: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا" ، قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي ، وألفين لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أمسكت" . وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله ، أصبت صاعين من تمر : صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي ، قال: فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابنُ عوف إلا رياءً ! وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} الآية ا. هـ مختصراً .
وقد جمع هؤلاء المنافقون بهذا الطعن واللمز بين جملةٍ من الخصال الذميمة والخلال المشينة ، وفي هذا يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية : (( فإنهم جمعوا في كلامهم هذا بين عدة محاذير :
منها : تتبعهم لأحوال المؤمنين وحرصهم على أن يجدوا مقالاً يقولونه فيهم ، والله يقول : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:19] .
ومنها : طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم كفراً بالله تعالى وبُغضاً للدين .
ومنها : أنَّ اللَّمز محرَّم ، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا ، وأما اللمز في أمر الطاعة فأقبح وأقبح .
ومنها : أنَّ من أطاع الله وتطوع بخصلةٍ من خصال الخير فإن الذي ينبغي إعانته وتنشيطه على عمله ، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم وعابوهم عليه .
ومنها : أن حكمهم على من أنفق مالاً كثيراً بأنه مراءٍ غلطٌ فاحش ، وحكمٌ على الغيب ، ورجمٌ بالظن ؛ وأي شر أكبر من هذا ؟ .
ومنها : أنَّ قولهم لصاحب الصدقة القليلة : الله غنيٌّ عن صدقة هذا ! كلام مقصوده باطل ؛ فإن الله غنيٌّ عن صدقة المتصدِّق بالقليل والكثير ، بل وغنيٌّ عن أهل السماوات والأرض ، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه ؛ فالله وإن كان غنيا عنه فهم فقراء إليه ؛ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [الزلزلة:7] وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهرٌ بيِّن ، ولهذا كان جزاؤهم أن يسخر الله منهم ولهم عذابٌ أليم )) ا.هـ .
ومن خلال ما تقدَّم يُعلم أنَّ الطعن فيمن يُظهر الأعمال المشروعة ووصْفه بالرياء أو التشكيك في نيته إنما هو من أعمال المنافقين كما هو واضحٌ في الآية المتقدمة وفي الأحاديث المبيِّنة لها ، وهو من قبيل ما جاء في المثل (( رمتني بدائها وانسلَّت )) ، ثم هو كذلك من أعمال المشركين ؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : (( بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي ... )) الحديث؛ فرمى هؤلاء المشركين سيِّدَ ولد آدم وإمامَ المخلِصين وقدوة الموحِّدين بالرياء لما رأوه متعبِّداً لله عز وجل .
ويُعلم كذلك أن النهي عن الأعمال المشروعة والتخذيل عنها بحجة البُعد عن الرياء والسلامة منه مسلكٌ غير صحيح، بل يترتب عليه أضرارٌ كثيرة وأخطارٌ عديدة لا يُعلم مداها،
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المقام كلامٌ عظيمُ النفع كبيرُ الفائدة أنقله بحروفه رجاء أن ينفع الله به كل من يطَّلع عليه ، قال رحمه الله : (( وَمَنْ نَهَى عَنْ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ بِمُجَرَّدِ زَعْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ رِيَاءٌ فَنَهْيُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ لَا يُنْهَى عَنْهَا خَوْفًا مِنْ الرِّيَاءِ ، بَلْ يُؤْمَرُ بِهَا وَبِالْإِخْلَاصِ فِيهَا ، وَنَحْنُ إذَا رَأَيْنَا مَنْ يَفْعَلُهَا أَقْرَرْنَاهُ ، وَإِنْ جَزَمْنَا أَنَّهُ يَفْعَلُهَا رِيَاءً فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } [النساء:142]
فَهَؤُلَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ يُقِرُّونَهُمْ عَلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الدِّينِ وَإِنْ كَانُوا مُرَائِينَ وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي تَرْكِ إظْهَارِ الْمَشْرُوعِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِهِ رِيَاءً ، كَمَا أَنَّ فَسَادَ تَرْكِ إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِيَاءً ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْفَسَادِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ رِئَاءَ النَّاسِ.
الثَّانِي : لِأَنَّ الْإِنْكَارَ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَا أَنْكَرَتْهُ الشَّرِيعَةُ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَنْ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ))، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : مَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَحْبَبْنَاهُ وَوَالَيْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا أَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ سَرِيرَتَهُ صَالِحَةٌ.
الثَّالِثُ : أَنَّ تَسْوِيغَ مِثْلِ هَذَا يُفْضِي إلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ إذَا رَأَوْا مَنْ يُظْهِرُ أَمْرًا مَشْرُوعًا مَسْنُونًا ، قَالُوا : هَذَا مِرَاءٌ ، فَيَتْرُكُ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ إظْهَارَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ حَذَرًا مِنْ لَمْزِهِمْ وَذَمِّهِمْ فَيَتَعَطَّلُ الْخَيْرُ وَيَبْقَى لِأَهْلِ الشِّرْكِ شَوْكَةٌ يُظْهِرُونَ الشَّرَّ وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ . الرَّابِعُ : أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ شَعَائِرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ يَطْعَنُ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة:79] ،
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَامَ تَبُوكَ جَاءَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِصُرَّةِ كَادَتْ يَدُهُ تَعْجِزُ مِنْ حَمْلِهَا فَقَالُوا : هَذَا مِرَاءٌ ، وَجَاءَ بَعْضُهُمْ بِصَاعِ فَقَالُوا : لَقَدْ كَانَ اللَّهُ غَنِيًّا عَنْ صَاعِ فُلَانٍ ، فَلَمَزُوا هَذَا وَهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَصَارَ عِبْرَةً فِيمَنْ يَلْمِزُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ )) .
********************************************************
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].
صلاة الجنازة لا تجوز على المشرك، والكافر، والمنافق نفاقا أكبر، فمن علم نفاق شخص أو كفره : حرم عليه أن يصلي عليه ، أو أن يستغفر له بعد موته ، سواء كان قريبا له أم لم يكن.
قال أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله في " المهذب( 1/250)
وإن مات كافر لم يصل عليه، لقوله عز وجل: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) التوبة/84، ولأن الصلاة لطلب المغفرة ، والكافر لا يغفر له، فلا معنى للصلاة عليه " انتهى.
وقال النووي رحمه الله: " وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِ " انتهى من المجموع. ( 5/258)
وجاء في "الموسوعة الفقهية: (21/41)
"كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، حَتَّى نَزَل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) . فَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلاَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ.
وَكَانَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ ، وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ.
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ مَيِّتٌ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ ، حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ ؛ لأِنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَعْيَانَ الْمُنَافِقِينَ " انتهى .
ولما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب بعد موته ، نهاه الله عن ذلك ، بقوله : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) التوبة/113-114 .
وكذلك الساحر الذي يستعين بالجن في سحره ، فإنه كافر لا تجوز الصلاة عليه .
وقد سئل الشيخ ابن باز عن حكم الصلاة على الساحر ودفنه في مقابر المسلمين بعد قتله.
فأجاب : " إذا قتل لا يصلى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، يدفن في مقابر الكفرة ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ولا يصلى عليه ، ولا يغسل ولا يكفن " .
انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز " (8/ 111) .
ثانيا: الواجب هو التثبت ، وقد يكون حكم عليه بالنفاق لكونه وجد فيه علامة من علامات المنافقين ، كالكذب في الحديث ، وهذا لا يكفي لإخراج المسلم من الإيمان والحكم عليه بأنه منافق نفاقا اعتقاديا.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "النفاق نوعان: نفاق اعتقادي، ونفاق عملي، فالنفاق الاعتقادي محله القلب ، ولا يعلم به إلا الله، ولهذا بعض الصحابة الذين حصل منهم المخالفة، فقال عمر: إنه نافق، فعارضه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالنفاق الاعتقادي محله القلب، ولا يجوز أن يرمي الإنسان به أحداً من المسلمين، وأهل الولاء لله ورسوله إلا ببينة واضحة.
والنفاق العملي: أن يأتي الإنسان خصلة من خصال المنافقين، فلا بأس أن تقول: هذا منافق لهذا الفعل، فإذا رأينا الرجل يحدث ويكذب؛ قلنا: هذا منافق نفاقاً عملياً في هذه المسألة، وإذا رأيناه قام إلى الصلاة وهو كسلان؛ نقول: هذا فيه خصلة من خصال المنافقين؛ لأنه أشبه بالمنافقين في قيامه إلى الصلاة على وجه الكسل، فالنفاق العملي واسع؛ فكل من وافق المنافقين في خصلة من خصالهم، فإنه منافق في هذا العمل خاصة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).
هذه علامة المنافق، لكن هذه العلامات قد يقوم بها أناس من المسلمين؛ فنقول: هو منافق في هذه المسألة " انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (32/ 21) .
فلا يجوز أن يرمى الإنسان بالنفاق الاعتقادي المخرج عن الملة ، إلا ببينة واضحة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق