قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة 132].
لما أراد الله أن ينفر المسلمون جميعاً إلى الجهاد والحرب ولا يتخلف منهم متخلف، وعاتب المتخلفين منهم وعابهم في الآية بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ [التوبة: 120]، أرشدنا سبحانه وتعالى إلى جهاد آخر غير جهاد الحرب، وغير جهاد الطعن والضرب، وهو الجهاد العلمي، ذلك الجهاد الذي ينير الفكر، ويوقد الذهن، ويجلو العقل، وهذا الجهاد أشد وأقوى من ضرب السيف وطعن الرمح.
دعانا سبحانه وتعالى إلى جهاد التعلم والطلب، جهاد التعليم والإرشاد، جهاد التحذير والإنذار، جهاد الحذر والتأهب والاستعداد، دعا سبحانه وتعالى إلى الجهاد العلمي بلهجة شديدة قوية، فأتى بصيغة التحضيض الدالة على الطلب بحث وإزعاج، وجاء بصيغة "النفر" الدالة على الإسراع إلى الشيء لأهمية هذا المقام، ودفعاً للناس للاعتناء بهذه المهمة؛ وقد علل سبحانه النفر بالتفقه في الدين، وعلل التفقه بالإنذار وعلل الإنذار بالحذر لتستنتج من هذه الآية ثلاثة أمور
- وجوب الإسراع لتخصيص طائفة للتفقه في الدين.
- وجوب إنذار المتفقهين في الدين للناس.
- إطاعة الناس للمنذرين، وهم الفقهاء، وعملهم بما يقولون وينذرونهم به، وتأهبهم واستعدادهم لذلك.
وهذه الآية الكريمة غاية في الحث على طلب العلم وعلى التعلم والتعليم والإرشاد والإنذار، لأن تقدم الأمم وتأخرها منوط بهذه المسألة المهمة، فإذا وجد في الأمة المتعلمون المخلصون، فعلموا أفراد الأمة وأنذروهم من الوقوع في المهالك، وحذروهم المسالك الوعرة، وفقهوهم أمور دينهم، وفهموهم أسرار الشريعة ومقاصدها، فحينئذ تتوقى الأمة الوقوع في المهالك والأخطار، وإذا فقدت الأمة الفقهاء والحكماء والمرشدين، تسلط عليها سفهاؤها، فسلكوا بها المسالك المهلكة، فهلكوا وأهلكوا، وضلوا وأضلوا، ومن كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فمن سوده قومه على الفقه كان فلاحاً له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم).
وسوف نبين على عجالة بعض أحكام العلم من خلال هذه الآية على نحو ما يأتي:
أولا: تعريف طلب العلم.
الطلب في اللغة: محاولة وجدان الشيء وأخذه. ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
والعلم: لغة اليقين، ويأتي بمعنى المعرفة.
واصطلاحا اختلفوا في تعريفه: فتارة عرفوه بأنه معرفة الشيء على ما هو به، وهذا علم المخلوقين، وأما علم الخالق فهو الإحاطة والخبر على ما هو به.
ثانيا: فضل طلب العلم.
والذي يعنينا هو العلم الشرعي، والمراد به: علم ما أنزل الله على رسوله من البيانات والهدى، فالعلم الذي فيه الثناء والمدح هو علم الوحي، علم ما أنزله الله فقط قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (البخاري، كتاب العلم، باب: «من يرد الله به خيرًا»، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (أبو داود، كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، والترمذي، كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة).
ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم شريعة الله عز وجل وليس غيره.
ومن أهم فضائل العلم ما يلي:
1- أنه إرث الأنبياء، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يورثوا درهمًاَ ولا دينارًا وإنما ورثوا العلم، فمنْ أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر من إرث الأنبياء، فأنت الآن في القرن الخامس عشر إذا كنت من أهل العلم ترث محمدًا صلى الله عليه وسلم وهذا من أكثر الفضائل.
2- أنه يبقى والمالي يفنى، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه من فقراء الصحابة حتى إنه يسقط من الجوع كالمغمي عليه وأسألكم بالله هل يجري لأبي هريرة ذكر بين الناس في عصرنا أم لا؟ نعم يجري كثيرًا فيكون لأبي هريرة أجر من انتفع بأحاديثه، إذ العلم يبقى والمال يفنى، فعليك يا طالب العلم أن تستمسك بالعلم فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته).
3- أنه لا يتعب صاحبه في الحراسة؛ لأنه إذا رزقك الله علمًا فمحله في القلب لا يحتاج إلى صناديق أو مفاتيح أو غيرها، هو في القلب محروس، وفي النفس محروس، وفي الوقت نفسه هو حارس لك؛ لأنه يحميك من الخطر بإذن الله عز وجل فالعلم يحرسك، ولكن المال أنت تحرسه تجعله في صناديق وراء الإغلاق، ومع ذلك تكون غير مطمئن عليه.
4- أن الإنسان يتوصل به إلى أن يكون من الشهداء على الحق، والدليل قوله تعالي: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران من الآية:18].
فهل قال: أولو المال؟ لا، بل قال: {وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} فيكفيك فخرًا يا طالب العلم أن تكون ممن شهد لله أنه لا إله إلا هو مع الملائكة الذين يشهدون بوحدانية الله عز وجل.
5- أن أهل العلم هو أحد صنفي ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء من الآية:59].
فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام، والعلماء وطلبة العلم؛ فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله ودعوة الناس إليها وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله وإلزام الناس بها.
6- أن أهل العلم هو القائمون على أمر الله تعالى حتى تقوم الساعة، ويستدل لذلك بحديث معاوية رضى الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» (رواه البخاري، كتاب العلم، باب: «من يرد الله به خيرًا ومسلم»، كتاب الزكاة، باب: النهي عن المسألة).
وقد قال الإمام أحمد عن هذه الطائفة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وقال القاضي عياض رحمه الله: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث.
7- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرغب أحدًا أن يغبط أحدًا على شيئ من النعم التي أنعم الله بها إلا على نعمتين هما: طلب العلم والعمل به، والتاجر الذي جعل ماله خدمة للإسلام؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعلمها» (أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم، كتاب الصلاة، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه).
8- ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُُه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أُرسِلتُ به» (أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: فضل من علم وعمل، ومسلم، كتاب الفضائل، باب: مثل ما بُعِثَ به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم).
9- أنه طريق الجنة كما دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة» (أخرجه مسلم، كتاب الدعوات، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن).
10- ما جاء في حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين». أي يجعله فقيهًا في دين الله عز وجل، والفقه في الدين ليس المقصود به فقه الأحكام العملية المخصوصة عند أهل العلم بعلم الفقه فقط، ولكن المقصود به هو: علم التوحيد، وأصول الدين، وما يتعلق بشريعة الله عز وجل.
ولو لم يكن من نصوص الكتاب والسنة إلا هذا الحديث في فضل العلم لكان كاملًا في الحثً على طلب علم الشريعة والفقه فيها.
11- أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.
12- أن العالِم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفي على كثير منّا قصة الرجل الذي من بني إسرائيل قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عابد فسأله هل له من توبة؟ فكان العابد استعظم الأمر فقال: لا. فقتله فأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالِم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دله على بلد أهله صالحون ليخرج إليها، فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق. والقصة مشهورة (أخرجها البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر من بني إسرائيل، ومسلم، كتاب التوبة، باب: قبول توبة القاتل). فانظر الفرق بين العالِم والجاهل.
13- أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله عز وجل والعمل بما علموا، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به؛ قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة من الآية:11].
الفصل الثالث: حكم طلب العلم طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجبًا على الإنسان عينًا أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل هو من الجهاد في سبيل الله، ولا سيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم، وبدأ الجدل من كثير من الناس، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم.
أولًا: بدع بدأت تظهر شرورها.
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم.
ثالثًا: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم.
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع، وعندهم فقه في دين الله، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله لأن كثيرًا من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
ثالثا: حكم طلب العلم.
العلم إما أن يكون شرعيا، وهو المستفاد من الشرع، أو غير شرعي.
أ – طلب العلوم الشرعية:
طلب العلوم الشرعية مطلوب من حيث الجملة، ويختلف حكم طلبها باختلاف الحاجة إليها.
فمنها ما طلبه فرض عين، وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به، ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها، وحمل عليه بعضهم حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، قال النووي: وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتا فمعناه صحيح.
والعلم الشرعي الذي هو فقه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فإما أن يكون وسيلة إلى خير أو وسيلة إلى شر، فيكون حكمه بحسب ما يكون وسيلة إليه.
الفصل الثاني: فضائل العلم لقد مدح الله سبحانه وتعالى العلم وأهله، وحثَ عباده على العلم والتزود منه وكذلك السنة المطهرة.
فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، وهو من أفضل وأجلَ العبادات، عبادات التطوع، لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله، فإن دين الله عز وجل إنما قام بأمرين:
أحدهما: العلم والبرهان.
والثاني: القتال والسنان، فلا بد من هذين الأمرين، ولا يمكن أن يقوم دين الله ويظهر إلا بهما جميعًا، والأول منهما مقدًم على الثاني، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغيٌر على قوم حتى تبلغهم الدعوة إلى الله عز وجل فيكون العلم قد سبق القتال.
قال تعالي: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر من الآية:9]
فالاستفهام هنا لا بد فيه من مقابل أمن هو قائم قانت آناء الليل والنهار أي كمن ليس كذلك، والطرف الثاني المفضل عليه محذوف للعلم به، فهل يستوي من هو قانت آناء الليل ساجدًا أو قائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هل يستوي هو ومن هو مستكبر عن طاعة الله؟ الجواب: لا يستوي فهذا الذي هو قانت يرجو ثواب الله ويحذر الآخرة هل فعلُهُ ذلك عن علم أو عن جهل؟ الجواب: عن علم، ولذلك قال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر من الآية:9].
لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، العلم نور يهتدي به الإنسان، ويخرج به من الظلمات إلى النور، العلم يرفع الله به من يشاء من خلقه {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة من الآية:11].
ولهذا؛ نجد أن أهل العلم محل الثناء، كلما ذُكروا أثنى الناس عليهم، وهذا رفع لهم في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرتفعون درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما علموا. إن العابد حقًا هو الذي يعبد ربه على بصيرة ويتبين له الحق، وهذه سبيل النبي صلى الله عليه وسلم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [يوسف من الآية:108].
فالإنسان الذي يتطهر وهو يعلم أنه على طريق شرعي، هل هو كالذي يتطهر من أجل أنه رأى أباه أو أمه يتطهران؟ أيهما أبلغ في تحقيق العبادة؟ رجل يتطهر لأنه علم أن الله أمر بالطهارة وأنها هي طهارة النبي صلى الله عليه وسلم فيتطهر امتثالًا لأمر الله واتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم رجل آخر يتطهر لأن هذا هو المعتاد عنده؟ فالجواب: بلا شك أن الأول هو الذي يعبد الله على بصيرة. فهل يستوي هذا وذاك؟ وإن كان فعل كل منهما واحدًا، لكن هذا عن علم وبصيرة يرجو الله عز وجل ويحذر الآخرة ويشعر بأنه متبع للرسول صلى الله عليه وسلم
ثم إن هذه الأشياء لا يجب طلبها إلا بعد وجوبها، ويجب من ذلك كله ما يتوقف أداء الواجب عليه غالبا دون ما يطرأ نادرا، فإن وقع وجب التعلم حينئذ، فيجب على من أراد البيع أن يتعلم أحكام ما يقدم عليه من المبايعات، كما يجب معرفة ما يحل وما يحرم من المأكول والمشروب، والملبوس، ونحوها مما لا غني له عنه غالبا، وكذلك أحكام عشرة النساء إن كان له زوجة، ثم إذا كان الواجب على الفور كان تعلم الكيفية على الفور وإن كان على التراخي كالحج فعلى التراخي عند من يقول بذلك.
ومنها ما طلبه فرض كفاية، وهو تحصيل مالا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن، والأحاديث، وعلومهما، والأصول، والفقه، والنحو، واللغة، والتصريف، ومعرفة رواة الحديث، والإجماع، والخلاف.
والمراد بفرض الكفاية تحصيل ذلك الشيء من المكلفين به أو بعضهم، ويعم وجوبه جميع المخاطبين به، فإذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الحرج عن الباقين، وإذا قام به جمع تحصل الكفاية ببعضهم فكلهم سواء في حكم القيام بالفرض في الثواب وغيره، فإذا يقع فرض كفاية، ولو أطبقوا كلهم على تركه أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به.
ومنها ما طلبه نفل، كالتبحر في أصول الأدلة والإمعان فيما وراء القدر الذي يحصل به فرض الكفاية.
ب: طلب العلوم غير الشرعية:
يعتري طلب العلوم غير الشرعية الأحكام التكليفية الخمسة، إذ منها ما طلبه فرض كفاية، كالعلوم التي لا يستغني عنها في قوام أمر الدنيا، كالطب، إذ هو ضروري لبقاء الأبدان، والحساب، فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها.
ومنها ما يعد طلبه فضيلة وهو التعمق في دقائق الحساب، والطب، وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه. ومنها ما طلبه محرم، كطلب تعلم السحر والشعوذة، والتنجيم، وكل ما كان سببا لإثارة الشكوك، ويتفاوت في التحريم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق