السبت، 4 مايو 2019

الجزء السادس عشر - الربع الثالث - الأحكام الفقهية



قال تعالى: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)

حكم تمني الموت

قد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) رواه البخاري ومسلم .

وقال أنس رضي الله عنه [ لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال :( لا يتمنين أحدكم الموت ) لتمنيته ] رواه مسلم .

وعن قيس بن أبي حازم قال دخلنا على خباب - رضي الله عنه - وقد اكتوى سبع كيات في بطنه فقال :[ لو ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به ] رواه مسلم .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلاَ يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إِنَّهُ إِذَا مَات أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ عَنْهُ وَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلاَّ خَيْرًا) رواه مسلم .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (َلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ) رواه البخاري.

وقد قال جماعة من أهل العلم إن النهي عن تمني الموت خاص بما كان سببه الأمور الدنيوية كالفقر والمرض وفقد عزيز ونحو ذلك .

وأما إذا تمنى الإنسان الموت خوفا من فتنة في دينه فيجوز ذلك .
فأخرج أحمد في المسند ٣/٤٩٤ أن عبسا الغفاري قال : يا طاعون خذني إليك ‘ فقال له عليم لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يتمنى أحدكم الموت ؛ فإنه عند انقطاع عمله لا يرد فيستعتب )

فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( بادروا بالموت ستا : إمرة السفهاء ‘ وكثرة الشرط ‘ وبيع الحكم ‘ واستخفاف بالدم ‘ وقطيعة الرحم ' ونشئا يتخذون القرآن مزامير يقدمونه يغنيهم ‘ وإن كان أقل منهم فقها) والحديث حسن

وقول أبي هريرة - رضي الله عنه - أعوذ بالله أن تدركني سنة الستين . قيل له : وما سنة الستين ؟ قال : إمرة الغلمان.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : [ وحكمة النهي عن ذلك أن في طلب الموت قبل حلوله نوع اعتراض ومراغمة للقدر وإن كانت الآجال لا تزيد ولا تنقص , فإن تمني الموت لا يؤثر في زيادتها ولا نقصها , ولكنه أمر قد غيب عنه.

وقد جاء في "كتاب الفتن" ما يدل علي ذم ذلك في حديث أبي هريرة ( لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل يقول يا ليتني مكانه ) وليس به الدين إلا البلاء

قال الإمام النووي :[ قوله صلى الله عليه وسلم -:( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ) في الحديث التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من فاقة أو محنة بعدو ونحوه من مشاق الدنيا فأما إذا خاف ضررا أو فتنة في دينه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث , وقد فعله خلائق من السلف بذلك وفيه أن من خالف فلم يصبر على الضر وتمنى الموت لضر نزل به فليقل الدعاء المذكور .

قال ابن حجر : ظاهر الحديث المنع مطلقا والاقتصار على الدعاء مطلقا , لكن الذي قاله الشيخ لا بأس به لمن وقع منه التمني ليكون عونا على ترك التمني ] فتح الباري 13/272-273.

وقال العلامة ملا علي القاري :[ وقد أفتى النووي أنه لا يكره تمني الموت لخوف فتنة دينية ... ونقل عن الشافعي وعمر بن عبد العزيز أنه مندوب .

وكذا يندب تمني الشهادة في سبيل الله لأنه صح عن عمر وغيره بل صح عن معاذ أنه تمناه في طاعون عمواس‘ وفي صحيح مسلم :( من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه)

ويندب أيضا تمني الموت ببلد شريف لما في البخاري
أن عمر - رضي الله عنه - قال : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي ببلد رسولك فقالت ابنته حفصة : أنى يكون هذا ؟ فقال يأتي به الله إذا شاء . أي : وقد فعل فإن قاتله كافر مجوسي
مرقاة المفاتيح شرح
مشكاة المصابيح 4/67.

فتمني الموت إذاً يكون في حالات:
الأولى: عند خوف الفتنة
 كما قال تعالى: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) [ مريم:23]
قال القرطبي : تمنت الموت لوجهين:
أحدهما : أنها خافت أن يظن بها السوء في دينها وتعير فيفتنها ذلك.
الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والزور والتهمة إلى الزنا وذلك مهلك لهم.
الثانية : تمني الشهادة: كما قال صلى الله عليه وسلم : (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) رواه مسلم

[شبهه والرد عليها]

أما قوله تعالى: ﴿ توفني مسلما وألحقني بالصالحين﴾ فإن المراد منه أن يثبته على الإسلام ' وأن يتوفاه عليه .

وفي آخر هذا المبحث أذكر بعض الفوائد في الأحاديث السابقه:
1- حسن الشريعة العظيمة حيث لم تنه عن شئ إلا جاءت بخير منه
2- ينبغي الإلتجاء إلى الله ودعاؤه في كل الأمور فهو سبحانه يعلم عاقبتها
3- على المسلم أن يغتنم حياته بالأعمال الصالحة
4- السنة لمن أراد أن يتمنى الموت أن يقول الدعاء المذكور ففيه التفويض إلى الله .
5- فضيلة الصبر ؛ والثواب معلق بالصبر ‘وأما الرضا فهو منزلة فوق الصبر قاله ابن تيمية .
6- الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر. وهي مطلوبة شرعا‘ ومندوب ٱليها إجماعا قال تعالى﴿ ولقد أخذنهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ﴾ المؤمنون ٧٦
وقال تعالى :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم﴾ الأنعام ٤٣
7- كذلك ذكر وجع ظاهر للمخلوق أو للحاجة مع الرضى بقضاء الله لم يكن ذلك جزعا قال صلى الله عليه وسلم
(أوعك كما يوعك رجلان منكم) رواه البخاري ومسلم
وإذا كانت مما يمكن كتمانه ‘ فكتمانه من الأعمال الخفية لله تعالى
*****************************************************************
الآية الثانية

"وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا"

حكم الهجر وضوابطه الشرعية

الهجر في الشرع: هو مقاطعة الإنسان غيره.
وقال ابن رجب الحنبلي: "والهجران: مأخوذ من أن يولّي الرجل صاحبه دبره ويعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع".

ومن مفردات الهجر: عدم المجالسة، والمكالمة، وبسط الوجه للمهجور.

الأحاديث الواردة في عدم جواز الهجر وبيان عقوبته:
من الأحاديث الواردة في الهجر ما يلي:
1. حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام».

2. حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».

3. حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا»، ومن طريق آخر عند مسلم: «إلا المتهاجرين».

4. حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمؤمنٍ أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث، فإن مرّت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم».

5. حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار».

6. حديث هشام بن عامر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لمسلمٍ أن يهجر مسلماً فوق ثلاث ليال، فان كان تصادرا فوق ثلاث، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، وأولهما فيا فسبقه بالفيء كفارته، فان سلم عليه فلم يرد عليه ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان، فان ماتا على صرامهما لم يجتمعا في الجنة أبدا».

أنواع الهجر:
للهجر نوعان وهما:
1. الهجر ديانة، أي الهجر لحق الله تعالى، وذلك في هجر السيئة، وهجر فاعلها. وقد ورد في ذلك قوله تعالى: ﴿والرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5]،
 وقوله تعالى: ﴿واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: 10]. 
وقوله تعالى: ﴿وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِين َ﴾[الأنعام: 68].
 وقد نقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير هذه الآية: "دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة". وكذلك قوله تعالى: ﴿وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140].

والهجر لحق الله تعالى يكون بترك المنكرات، وهجر من يظهر المنكرات عقوبةً له.

وقد نصّ على ذلك ابن تيمية، فقال: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها فالأول هو المذكور في قوله تعالى:
﴿وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِين َ﴾ [الأنعام: 68]...
 فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال حاضر المنكر كفاعله... النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها".

2. الهجر لاستصلاح أمر دنيوي، أي الهجر لحق العبد، وفيه جاءت أحاديث الهجر بما دون ثلاث ليال، وقد تقدم ذكرها.

حكم الهجر:
الأصل في هجر المسلم أن يكون لتحقيق مصلحةٍ دينية، كما قال المناوي: "ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه في الإسلام فوق ثلاث من الأيام، إلا لمصلحة دينية، كما دلت عليه أخبار وآثار"، وهذا هو الأصل، ولكن إذا كان الهجر لأمر دنيوي، فلا يخلو من أن يكون في الثلاثة الأيام أو أن يزيد عليها.

فإن كان الهجر دون ثلاث ليال، فهذا جائز، وقد دلَّ عليه مفهوم الأحاديث السابقة، وكذلك نصوص أهل العلم المتواترة، ومن ذلك ما قاله ابن حجر: "فالمعتمد أنّ المرخّص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضى ثلاثة أيام بلياليها ملفقة إذا ابتدأت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء ويحتمل أن يلغى الكسر ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة والأول أحوط".

وقال النووي: "قال العلماء: في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال وإباحتها في الثلاث، الأول: بنص الحديث، والثاني: بمفهومه، قالوا: وإنما عفي عنها في الثلاث؛ لأن الآدمي مجبولٌ على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي عن الهجرة في الثلاثة؛ ليذهب ذلك العارض. وقيل: إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجرة في الثلاثة، وهذا على مذهب من يقول لا يحتج بالمفهوم". والأول أولى.

وقال ابن الأمير الصنعاني: "ودلّ مفهومه على جوازه ثلاثة أيام، وحكمة جواز ذلك هذه المدة أن الإنسان مجبولٌ على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعفي له هجر أخيه ثلاثة أيام؛ ليذهب العارض تخفيفاً على الإنسان ودفعاً للإضرار به، ففي اليوم الأول: يسكن غضبه، وفي الثاني: يراجع نفسه، وفي الثالث: يعتذر، وما زاد على ذلك كان قطعاً لحقوق الأخوّة".

وإن كان الهجر بين المسلمين فوق ثلاث بدون مبرِّرٍ شرعيّ-كما سيأتي في الضوابط الشرعية- فهو حرامٌ؛ لما دلّ عليه منطوق الأحاديث المتقدمة، ومن هذه الأحاديث: «ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام». وفي بعض ما تقدم من الأحاديث الوعيد بالنار لمن زاد في هجر أخيه المسلم على الثلاث، كحديث: «... فمن هجر فوق ثلاثٍ فمات دخل النار».

ومما يؤيد كذلك تحريم الهجر للمسلم فوق ثلاث بدون عذر شرعي، ما نقله ابن عبد البر من إجماع العلماء على عدم جواز الهجر فوق ثلاث، إلا لعذر شرعي كالإضرار بالدين، فقال ما نصه: "وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه فإن كان ذلك فقد رخص له في مجانبته وبعده ورب صرم جميل خير من مخالطة مؤذية".
وقال الشيرازي: "لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".


وإن كان الهجر فوق ثلاث مع وجود عذرٍ شرعي مع مراعاة الضوابط التي سيأتي ذكرها، فقد أجازه أهل العلم، ومن الأدلة على جوازه حديث عبد الله بن مغفل -رضي اله عنه- أنه رأى رجلاً يخذف، فقال له: لا تخذف «فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف وقال: إنه لا يصاد به صيد، ولا ينكأ به عدو، ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين» ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف أو كره الخذف وأنت تخذف، لا أكلمك كذا وكذا".

وقد وردت أقوال كثيرة للصحابة والتابعين ومن بعدهم في عدم مجالسة أهل الأهواء نظراً لانتفاء المصلحة من مجالستهم، وعِظم الضّرر الذي قد يحصل منهم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب".
وقال أبو قلابة: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبِّسوا عليكم في الدّين بعض ما لُبّس عليهم".

وقال الحسن البصري: "لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم".
وقال الشاطبي في معرض ذكره لأحكام أهل البدع: "الهجران وترك الكلام والسلام، حسبما تقدم عن جملةٍ من السلف في هجرانهم لمن تلبَّس ببدعة، وما جاء عن عمر - رضي الله عنه- من قصة صبيغ العراقي".

وقال ابن تيميه: "فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات ويهجر قرناء السوء الذين تضر صحبتهم، إلا لحاجةٍ، أو مصلحةٍ راجحة".

وقال الغزالي: "الهجر فوق ثلاث جائز في موضعين:
أحدهما: أن يرى فيه إصلاحاً للمهجور في الزيادة.
الثاني: أن يرى لنفسه سلامة فيه".
وقد بوَّبَ النووي فقال: باب تحريم الهجران بين المسلمين فوق ثلاثة أيام، إلا لبدعةٍ في المهجور أو تظاهرٍ بفسقٍ أو نحو ذلك.

وقال ابن رجب الحنبلي، مبينا جواز الزيادة في الهجر عن ثلاثة أيام في الهجر لأجل الدين، ما نصُّه: "فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاثة، نص عليه الإمام أحمد واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجرانهم، لما خاف منهم النفاق وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء".

الضوابط الشرعية للهجر
إذا زاد هجر المسلم عن ثلاثة أيام بغير سبب شرعي فهو منهيٌ عنه في الإسلام، وله أضرار سلبية على الفرد والمجتمع، والذي يدفع إلى الهجر بدون مبرر شرعي هو اتباع أهواء النفوس، واتباع وساوس الشيطان الذي يغوي بها أتباعه حتى يسوقهم إلى التنافر والتقاطع، ويجر إلى البغضاء والعداء بين المسلمين، لكن هنالك ضوابط شرعية ذكرها العلماء لجواز هجر المسلم فوق ثلاث، وهي ضوابط دقيقة يحتاج إلى التنبه الشديد لها، فهي ضوابط تجعل الهجر بعيداً عن غلوّ الغالين وتراخي الجافين، حيث انقسم الناس قديماً وحديثا إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، فقسم غالى في تطبيق أحكام الهجر من غير فقهٍ ونظرٍ إلى المصالح والمفاسد، وقسم تجافى عن العمل بهذه العقوبة الشرعية في كل الأحوال، وقسم ثالث وهم الوسط أخذوا بهذه العقوبة لكن بضوابطها الشرعية.

ومن هذه الضوابط الشرعية لهجر المسلم فوق ثلاثٍ، ما يلي:
1. مراقبة الله تعالى في الهجر، فهو الذي يعلم السر وأخفى. قال تقي الدين أبي بكر بن محمد الشافعي: "وهجران المسلم حرام فوق ثلاثة أيام، وهذا إذا كان الهجر لحظوظ النفس، وتعقُّبات أهل الدنيا".

2. وجود سبب الهجر وانتفاء المانع، فيجوز هجر من يظهر المنكرات وهجر صاحب البدعة كذلك، والهجر في حق صاحب البدعة يعتبر عقوبة له، والشرع قد أجاز ذلك لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، قال عبد الرحمن بن محمد البغدادي المالكي: "ولا يهجر مسلم مسلما فوق ثلاثٍ، إلا لبدعة". وقال تقي الدين أبي بكر بن محمد الشافعي: "فإن كان عذرٌ بأن كان المهجور مذموم الحال، لبدعةٍ، أو فسقٍ، أو نحوهما، أو كان فيه صلاحٌ لدين الهاجر أو المهجور، فلا يحرم، وعلى هذا يحمل ما ثبت من هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه، ونهيه عليه الصلاة والسلام الصحابة عن كلامهم، وكذا ما جاء من هجران السلف بعضهم بعضا".


إلا أنّ هذه العقوبة، وهي الهجر فوق ثلاث، لا تحلّ إلا بتحقق سببها الموجب لإيقاعها، وإلا أصبحت عدواناً وظلماً، والسبب الموجب لهجر المبتدع ما يلي:
أ‌- التأكد من وجود البدعة، فلا يكتفى بمجرد الشائعات، بل لابد من التأكد بسماع قوله أو رؤية فعله أو كتابته لاسيما في زماننا هذا الذي قلَّ فيه الورع، وندرت فيه الثقة، وكثر فيه التنافس وسهل فيه الرمي بالابتداع.

ب‌- أن تكون البدعة مما اتفق عليها، فلا يهجر في المسائل التي اختلفت آراء العلماء فيها بين البدعية وعدمها، ولا التي قد يشكل على العالم دليلها ومأخذها، ولا مما يعدُّ من مسائل الاجتهاد لمن توفرت فيه شروط الاجتهاد.

ج‌- ولا يكفي النظر إلى وجود سبب الهجر، بل لا بد من تحقق ارتفاع المانع عن المبتدع وذلك ببلوغ الحجة وفهمه لها حتى يزول مانع الجهل، ويرتفع الاشتباه الذي يكون به التأول، وهذا يحتاج إلى حكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ، ومجادلةٍ بالتي هي أحسن.


3. ومن الضوابط الشرعية للهجر، أن يكون الهجر محققاً للغايات الشرعية، وهي حفظ الشريعة، والتنفير من البدعة، وزجر المبتدع، وتحذير الناس من البدعة، فإن كان الهجر محققاً هذه المقاصد فهو هجر شرعي، وإن لم يحققها، فالتأليف أنفع من الهجر، وتحقيق الهجر لهذه الغايات يختلف باختلاف الهاجر والمهجور من حيث القوة والضعف والقلة والكثرة، وباختلاف انتشار البدعة من عدم انتشارها، وتحقيق المصلحة من عدمها، وفي ذلك يقول ابن تيمية: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فان كان المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبي يتألف قوما ويهجر آخرين".


ومن التطبيقات لهذه القاعدة ما رواه ابن القيم عن شيخه ابن تيمية في شأن التّتار الذين مرَّ بهم وكانوا يشربون الخمر، فنهى عن الإنكار عليهم، وذلك لما يترتّب على تركهم شرب الخمر من مفاسد هي أعظم من شربهم الخمر، فقال: "إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم".

وبناء على ذلك: فهجر صاحب المعصية والبدعة، إنما يكون بحسب المصلحة، إذ قد تكون المصلحة في مخالطته ونصحه والاستمرار معه؛ وذلك لأن كثيراً من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر غالباً إلاّ مكابرة وتمادياً في معصيتهم، فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم، وقد تكون المصلحة في هجره مما يضطره للعودة لجادة الصواب، إذ الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وعند عدمه فلا.

4. ومن ضوابط الهجر مراعات المصلحة والمفسدة المترتبة على الهجر؛ لأن الشريعة جاءت كلها لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد وجب ترجيح الراجح منهما، وإذا تزاحمت المصالح فلابد من تحقيق أعظم المصلحتين، وتفويت أدناهما، وإذا تزاحمت المفاسد فلابد من دفع أعظم المفسدتين، والأخذ بأدناهما، وأحوال الهجر لا تخلو عن ثلاث حالات:
أ‌- إما أن تترجح مصلحة الهجر فيكون مطلوباً..
ب‌- وإما أن تترجح مفسدة الهجر فيكون منهيا عنه.
ج‌- وإما أن لا تترجح هذه ولا هذه، فالأقرب عدم الهجر، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام».


5. ومن ضوابط الهجر كذلك: مراعاة حال المبتدع من حيث دعوته إلى بدعته وعدمها، ومن حيث إظهارها أو الاستتار بها، ومن حيث الجهل والتقليد، والإصرار وعدمه، وذلك لأنّ أهل البدع ليسوا في حكم الهجر سواء، بل يختلف الحكم باختلاف الأحوال.

6. ومن الضوابط الشرعية للهجر: مراعات درجات البدعة ومراتبها، ذلك لأن البدعة ليست على مرتبةٍ واحدة، فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو بمنزلة الكبائر، ومنها ما هو من الصغائر، ومنها ما هو واقعٌ في أمرٍ كلّي، ومنها ما هو واقعٌ في أمرٍ جزئي، ومنها ما هي بدعٌ حقيقية، وأخرى إضافية.

قال الشاطبي وهو يتكلم في حالات الإنكار على أصحاب البدع وأن كلا من ذلك بحسبه فقال: "إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكار، هو بحسب حال البدعة في نفسها، من كونها عظيمة المفسدة في الدّين أم لا، وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا، وداعياً إليها أو لا، ومستطيراً بالأتباع وخارجاً عن الناس أو لا، وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا، وكل من هذه الأقسام له حكم اجتهاديٌّ يخصّه".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق