السبت، 31 مارس 2018

الجزء العاشر - الربع الثاني - الأحكام الفقهية


أحكام السلم

قال تعالي
﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ الأنفال: 61

من منطلق السلم والسلام كانت معاهداتُ المسلمين مع غيرهم، والَّتي بها ومن خلالها يصير الفريقان -المسلمون مع غيرهم - في مرحلة سلمٍ، أو مهادنة وموادعة. «وإذا كان الأصل في العَلاقة هو السلم، فالمعاهدات تكون إمَّا لإنهاء حربٍ عارضة والعود إلى حال السلم الدائم، أو أنها تقريرٌ للسلم وتثبيت لدعائمه، لكيلا يكون من بعد ذلك العهد احتمال اعتداء، إلاَّ أنْ يكونَ نقضًا للعهد».

وعبر عصور طويلة مارست الدول الإسلامية توقيعَ الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول غير الإسلامية، وتضمنت تلك الاتفاقيات التزامات وقواعدَ وشروطًا ومبادئ عديدة، بشكل يُمَثِّلُ تَطَوُّرًا في القانون الدَّولي الإسلاميِّ. تعريف المعاهدات والاتفاقيات المعاهدات هي تلك الاتفاقات أو العهود أو المواثيق الَّتي تعقدها الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، وتُسَمَّى المعاهدة في الحالة الأخيرة موادعة أو مصالحة أو مسالمة، ويُقَرَّرُ بمقتضاها الصلحُ على تَرْكِ الحرب،
لقوله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْـمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفال:61]

نماذج من المعاهدات الإسلامية
معاهدةُ النبي مع يهود المدينة
ما عاهد عليه رسول الله يهود المدينة عند قُدُومِهِ إليها،
 وجاء في هذا العهد: «إن اليهود يُنْفِقُون مع المؤمنين، ما داموا محاربين، وإنَّ يهودَ بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلاَّ مَنْ ظَلَمَ وأَثِمَ، فإنه لا يُوتِغُ (يُوتِغُ: أي يُهْلك، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة وتغ 8/458.) إلاَّ نفسَه وأهلَ بيته، وإن ليهود بني النجار، وبني الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإنَّ بطانة يَهُودَ كأنفسهم، وإنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على مَنْ حارب هذه الصحيفة، وإنَّ بينهم النصح والنصيحة والبِرُّ دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإنَّ النَّصْرَ للمظلوم، وإنَّ الجارَ كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم، وإنَّ اللهَ على أتْقَى ما في هذه الصحيفة وأَبَرّه، وإنَّ بينهم النصر على مَنْ دَهَمَ يثرب، وإذا دُعُوا إلى صلحٍ فإنهم يُصَالِحون، وإذا دُعُوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلاَّ مَنْ حارب في الدين على كل أناس حِصَّتَهم من جانبهم الَّذي قِبَلَهُمْ، وإنَّه لا يَحُولُ هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثمٍ، وإنَّ اللهَ جارٌ لمَنْ بَرَّ واتَّقَى ».

ويتبين من هذا العهد أنَّه كان لتقرير حالة السِّلْمِ بين اليهود والمسلمين، كما أنَّه أمانٌ بينهم لضمان عدم وقوع الحروب، كما يظهر من هذه المعاهدة أنها كانت «لحُسْنِ الجِوَارِ، ولتثبيت دعائم العدل، ويلاحظ أنَّ فيها نصًّا صريحًا على نصر المظلوم، فهو عهد عادل لإقامة السلم وتثبيته بالعدل ونصر الضَّعيفِ».

معاهدة النبي مع نصارى نجران
المعاهدة الَّتي عقدها رسول الله مع نصارى نجران، والَّتي جاء فيها: «وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَتَبَعِهِمْ... وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ..».

معاهدة النبي مع بني ضمرة 
وكان على رأسهم آنذاك مخشي بن عمرو الضمري، وأيضًا عاهد رسول الله بني مدلج، الَّذين يعيشون في منطقة ينبع، وذلك في جُمَادى الأُولَى من السنة الثانية من الهجرة (انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 3/143)، وفعل نفس الشيء أيضًا مع قبائل جهينة، وهي قبائل كبيرة تسكن في الشمال الغربي للمدينة المنورة (ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/272)

العهدة العمرية
ومن المعاهدات الإسلامية أيضًا عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء (بيت المقدس)، والَّتي سُمِّيَتْ بالعهدة العمرية. 

وبالنظر إلى هذه المعاهدات وغيرها نجد أنَّ المسلمين إنما يحاولون العيشَ في جَوٍّ هادئٍ مسالِمٍ مع مَنْ يجاورونهم، وأنهم لم يَسْعَوْا لقتالٍ قَطُّ، بل كانوا دائمًا مؤْثِرين السلم على الحرب، والوفاق على الشقاق.

ضوابط وشروط المعاهدات في الإسلام 
هذا وقد أنشأ الإسلام ضوابطَ وشروطًا للمعاهدات تَضْمَنُ لها أنْ تكونَ مُوافِقَةً للشَّريعةِ, وللهدفِ الَّذي مِنْ أَجْلِهِ أُجِيزَت. يقول الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: والإسلام حينما يترك للمسلمين الحقَّ في إنشاءِ المعاهدات - لِمَا يَرَوْنَ من أغراض - 

يشترط في صحَّة المعاهدة ثلاثة شروط:
أوَّلاً: ألاَّ تمسَّ قانونه الأساسي وشريعته العامَّة، الَّتي بها قِوَامُ الشخصية الإسلامية، وقد جاء في ذلك قوله: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»، ومعناه أنَّ كتابَ الله يرفضه ويأباه. ومن خلال هذا الشرط لا يَعْتَرِفُ الإسلامُ بشرعية معاهدةٍ تُسْتَبَاحُ بها الشخصية الإسلامية، وتفتحُ للأعداء بابًا يُمَكِّنُهم من الإغارةِ على جهات إسلامية، أو يُضْعِف من شأن المسلمين، بتفريقِ صفوفِهم، وتمزيقِ وَحْدَتهم.

 ثانيًا: أنْ تكونَ مبنيةً على التَّراضي من الجانبين، ومن هنا لا يرى الإسلام قيمة لمعاهدة تنشأ على أساسٍ من القهر والغلبة وأزيز (النفاثات)، وهذا شرط تُمْلِيهِ طبيعة العقد، فإذا كان عقد التبادل في سلعة ما - بيعًا وشراءً - لابُدَّ فيه من عُنْصُرِ الرِّضا:
{ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فكيف بالمعاهدة، وهي للأُمَّة عقدُ حياةٍ أو موتٍ.

 ثالثًا: أنْ تكونَ المعاهدة بيِّنةَ الأهدافِ، واضحةَ المعالمِ، تُحَدِّدُ الالتزامات والحقوق تحديدًا لا يَدَعُ مجالاً للتأويلِ والتَّخريجِ واللَّعِبِ بالألفاظ، وما أُصِيبت معاهدات الدول المتحضِّرة - الَّتي تزعم أنها تسعى إلى السلم وحقوق الإنسان - بالإخفاقِ والفشلِ، وكان سببًا في النَّكباتِ العالميَّةِ المتتابعة، إلاَّ عن هذا الطريق، طريق الغموض والالتواء في صَوْغِ المعاهداتِ وتحديدِ أهدافها، وفي التحذير من هذه المعاهدات يقول الله تعالى: { وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ } [النحل:94]، والدَّخَلُ هو الغش الخفيُّ يدخل في الشيء فيفسده (توفيق علي وهبة: المعاهدات في الإسلام ص 101،100).

وجوب الوفاء بالعهد وقد أَكَّدَتِ الآياتُ القرآنية وأحاديثُ الرَّسولِ على وجوب الوفاء بالعهد، 
ومن ذلك قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]،
وقوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا } [الأنعام:152]،
 وأيضًا: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء:34]،
 وغيرها الكثير من الآيات الَّتي تشير إلى هذا المعنى العظيم.
 وأمَّا ما جاء في أحاديثِ الرَّسولِ فمنه ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: « أَرْبَعُ خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا » .

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: « لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ، وثبت عنه أنَّه قال: « مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَهْدًا، وَلاَ يَشُدَّنَّهُ، حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ »، وفي سنن أبي داود عن رسول الله قَالَ: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ».

والفقهاء - وهم يَرَوْنَ أنَّ الجهادَ يكون مع الأمير الصالح والفاسق - يذهب أكثرُهم إلى أنَّ الجهادَ لا يكون مع الأمير الَّذي لا يلتزم الوفاءَ بالعهود، وعلى خلاف القانون الدولي في الحضارة المعاصرة فإنَّ تَغَيُّرَ الظُّروفِ لا يُبَرِّرُ نكث العهد، وحتَّى إذا عجز المسلمون في ظروفٍ مُعَيَّنَةٍ عن الوفاء بالتزاماتهم يجب عليهم مراعاة التزامات الطرف الثاني، ومن هذا الباب القصة المشهورة عندما استولى القائد المسلم أبو عبيدة بن الجراح على حمص، وأخذ من أهلها الجزية، ثم اضطر إلى الانسحاب منها فردَّ الجزية الَّتي أخذها من السكَّان، وقال: «إنما رَدَدْنا عليكم أموالَكم، لأنَّه بلغنا ما جُمِعَ لنا من الجموعِ، وأنَّكم قد اشترطتم علينا أنْ نمنعَكم، وإنا لا نقدر على ذلك.. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشَّرْطِ وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم» (أبو يوسف: الخراج ص 81).

والأمثلة كثيرة من هذا النوع في التاريخ الإسلامي، فتغيُّر الظروف والمصلحة القومية لا تبرِّر في الإسلام نقض العهد، كما لا يُبرِّره أن يرى المسلمون أنفسَهم في مركز القوة تجاه الطَّرف الثاني، وقد ورد النَّصُّ الصَّريحُ في القرآن يؤكِّد ذلك،
فقال تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [النحل:91]،
 مع الأخذ في الاعتبار بأنَّ ذلك التَّشديدَ على المسلمين بالوفاء بالعهد كان في وقتٍ وفي بيئةٍ لم تَكُنِ القاعدةُ فيهما الوفاء بالعهود.

هذا هو حُكْمُ الإسلام في المعاهدات الَّتي تُوَقِّعُها الدولةُ الإسلاميَّةُ مع الدول الأخرى لحفظ السلام، فنحن مطالَبُون بالوفاء بها، والمحافظة عليها، وعدم نقضها، إلاَّ إذا نقضها العدُوُّ، أمَّا إذا لم ينقضها، ولم يُظَاهِرْ على عداء المسلمين، فعلى المسلمين الوفاء لهم
لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4].
يقول الشيخ محمود شلتوت: «إنَّ الوفاءَ بالمعاهدةِ واجبٌ دينيٌّ، يُسأل عنه المسلم فيما بينه وبين الله، ويكونُ الإخلالُ بها غدرًا وخيانةً» (محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة ص457).

وبهذا يكون الإسلام قد سبق كل الأمم الأخرى بتشريعاتها في مجال تقنين المعاهدات الدولية, بل وتميَّزَ عنها في عدالته وسماحته مع أعدائه, والأهمُّ أنَّ ذلك السبق كان عمليًّا ولم يكن مجرَّد تنظير، ويدلُّ على ذلك ما وَقَّعَه المسلمون من معاهداتٍ مع أعدائهم بداية من عصر الرَّسولِ مرورًا بعصر الخلفاء الرَّاشدين, ثُمَّ من بعدهم من عصور إسلامية.

تأمين الرسل في الإسلام
أمَّا في تأمين الرُّسُلِ فقد جاء التشريع الإسلامي غاية في الوضوح في هذا الأمر،
ودلَّتِ النُّصوصُ الصَّريحةُ والأفعال الَّتي قام بها النبي على عدم جواز قتل الرسل بأي حال من الأحوال، وقد ألزم فقهاء الشريعة الإسلامية إمام المسلمين بتوفير الحماية لشخص الرسول، وضمان تمتُّعه بحُرِّيَّةِ العقيدة وأداءِ أعماله بحُرِّيَّةٍ تامَّةٍ (انظر: ابن حزم: المحلى 4/307).

ويترتَّب على ضمان حماية شخص الرسول عدم جواز القبض عليه كأسير، كما لا يجوز تسليمُه لدولته إذا طلبته ورفض هو ذلك، حتَّى وإنْ هُدِّدت دارُ الإسلام بالحرب، لأنَّ تسليمه يُعَدُّ غدرًا به، ولأنَّه يتمتَّع بالحماية في دار الإسلام (عبد الكريم زيدان: الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام ص169).

 ولمهمَّة الرسول دورٌ كبيرٌ في عقد الصلح أو التحالف أو منع حدوث حرب، ولهذا فإنه ينبغي أنْ تتوافرَ له السُّبُلُ والمستلزماتُ كافَّة، لا لشخصه، وإنما من أَجْلِ أداء مُهِمَّتِه المكلَّف بها، فهو يُعَبِّر عن مُرْسِلِهِ، وإن كان له رأي آخر ما دام قد قَبِلَ أداء هذه المهمَّة، وعلى المُرْسَل إليه مراعاة هذه الحالة. فقد روى أبو رافع فقال: بعثتني قُرَيْشٌ إلى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، فلمَّا رأيتُه وقع في قلبي الإسلامُ، فقلتُ: يا رسول الله، والله لا أرجع إليهم أبدًا، فقال: «إِنِّي لا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ وَارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِيهِ الآنَ فَارْجِعْ ».

وقد أورد الهيثمي في كتابه (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) مجموعة من الأحاديث تحت باب سمَّاه (باب النهي عن قتل الرسل)، منها: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حين قتل ابن النواحة‏:‏ إن هذا وابن أثال كانا أَتَيَا النبي رسولين لمسيلمة الكذاب فقال لهما رسول الله‏:‏ ‏«أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ‏؟‏‏ »‏‏،‏ فقالا‏:‏ نشهد أن مسيلمة رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏«‏لَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاً لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا‏».

قال الهيثمي‏:‏ فَجَرَتِ السُنَّة‏ أنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ (الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 5/378). وبذلك تكون الحضارة الإسلامية قد سبقت المجتمعات الغربية بأكثر من 1400 سنة في وضع القواعد الإنسانية الحضارية للرُّسُلِ، تلك المجتمعات الَّتي لم تَعْتَرِفْ بهذه القاعدة حتَّى وقت قريب.
*******************************************************************
أحكام الأسرى

قال عز و جل
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}  (الأنفال: 67).

الأسرى:  هم الرجال المقاتِلون من الكفار إذا ظفِر المسلمون بأَسْرهم أحياءً.
مشروعية الأسر.

الدليل على مشروعية الأَسر في الإسلام هو قوله تعالى: ﴿ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، وفي قوله تعالى: ﴿ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ﴾ [محمد: 4]، وهذا كناية عن الأَسر.

أولا: معاملة الأسرى في الإسلام، ومعاملة غير المسلمين للأسرى:

المحور الأول: كيف عامَل الإسلام الأسرى؟
من القرآن، والسنَّة، وفعل الخلفاء وقادة المسلمين.

أولاًّ: من القرآن الكريم:
إن القرآن وضَع للمسلمين منهجًا قويمًا حتى في الحروب، ووضَع لهم فيها ضوابطَ يسيرون عليها، ونهاهم عن تعدِّي هذه الضوابط، ولم يُجِزْ لهم ما يسمى: "الغاية تبرر الوسيلة"، وإلا لأصبحنا ميكافيللين؛ ولهذا كان للإسلام منهجٌ رحيمٌ حتى في الحرب،

قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، وهذا منهج عام، أما ما يتعلق بالأسرى، فقال – تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8].

ثانيًا: السنة النبوية:
لقد مضت السنَّة على هذا النهج، وذلك في عدة حوادثَ ووقائع، وأذكر منها:

1-قال أبو عزيز بن عمير: مرَّ بي أخي مصعبُ بن عمير ورجلٌ من الأنصار يأسرُني، فقال له: شدَّ يديك به؛ فإن أمَّه ذات متاع، قال: وكنتُ في رهطٍ من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم خصُّوني بالخبز، وأكلوا التمرَ؛ لوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم بنا، ما يقع في يد رجلٍ منهم كسرةٌ من الخبز إلا نفحني بها.

ففي هذا الحديث تحذف الإحسان لهذا الأسير، وتقديم أفضل الطعام له، فالخبز كان طعامَه، والصحابة يأكلون التمر، ومعلوم أن الخبز كان طعامًا عزيزًا، أما التمر، فهو متوفِّرٌ بكثرةٍ عندهم.

2-قصة ثمامة بن أثال:
وهذه هي القصة الثانية:
عندما خرجت خيلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسرتْ رجلاً من بني حنيفة، ولا يعلمون من هو، وجاؤوا به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: ((أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسِنوا إساره))، ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله فقال: ((اجمعوا ما كان عندكم من طعامٍ فابعثوا به إليه، وأمر بلِقْحتِه أن يُغْدى عليه بها ويراحَ.

3-فعل صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين:
لَمَّا أَسر صلاحُ الدين الأيوبي عددًا من جنود الجيش الصليبي، وكان لا يوجد عنده ما يكفيهم من الطعام - أطلق سراحَهم لئلا يموتوا جوعًا، ورأى أن يقتلَهم محاربين أفضلَ من أن يقتلَهم في الأَسر جائعين.

المحور الثاني: صورٌ من معاملة غير المسلمين للأسرى:
ذكر أبو زهرة في كتابه (العلاقات الدولية) عن أحد الفلاسفة الغربيين - وهو الفرنسي جوستاف لوبون - قصةً يوازن فيها بين أفعال قادة الجيوش الصليبيةِ، وفعل صلاح الدين الأيوبي، فيقول: "كان أولُ ما بدأ به ريكارد أنه قتَل صبْرًا أمام معسكر المسلمين ثلاثةَ آلاف أسيرٍ مسلمٍ سلَّموا أنفسهم إليه بعد أن أعطاهم عهدًا بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العِنان باقتراف القتل والسلبِ، وليس من السهل أن يتمثَّل المرء درجةَ تأثير هذه الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحِم نصارى القدس، فلم يمسَّهم بأذى، والذي أمدَّ فيلب وقلبَ الأسد بالمرطبات والأزواد أثناء مرضهما.
*********************************
ثانيا: مصير الأسرى في الإسلام:

المحور الأول: أقوال فقهاء الإسلام:
بعد هذا العرض الموجز، وبالنظر إلى صُوَر معاملة المسلمين لأَسراهم مقارنةً مع غير المسلمين، يتبيَّن لنا مدى إحسان المعاملة عند المسلمين، وأَعرض في هذا المحور مصيرَ الأسرى في الإسلام، ونحن نعلم يقينًا أن الإسلامَ أحسنَ المعاملةَ مع الأسرى، ولكن هذا لا يمنع من اتخاذ إجراءات فيهم، وتقرير مصيرهم، واختلفت الفقهاء في تقرير مصيرهم؛ مستندين إلى أدلة شرعيةٍ، ووقائعَ نبوية، أصدروا أحكامَهم بناءً عليها، وهنا أَعرض آراءهم، ثم أناقش أدلتهم:
اختلفت الحلول المتَّخَذة في حق الأسرى؛ فمن الفقهاء مَن قال بقتلهم، ومنهم من قال بأنهم يصبحون رقيقًا، ومنهم من قال: لا يُقتلون، بل يُفادون بالمال، أو بالاستبدال بأسرى، ومنهم من جعل الخيارَ للإمام، فهو الذي يقرِّر المصير، وبعضهم قال بعدم جواز قتل الأسرى.

وأمام هذه الآراء المختلفة والمتباينة النتائج، نعرض آراء كلِّ فريق، ثم أذكر أدلتهم، وأبيِّن سبب الاختلاف بين الفقهاء في هذه المسألة.

1-مذهب الحنفية: أن الإمام أو نائبَه في الجهاد مخيَّر بين أمرين: إما القتل وإما الاسترقاق، وليس له أن يمنَّ عليهم بدون مقابل أو بمقابل.

2-مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل: أن الإمامَ مخيَّرٌ في الأسرى بين أحد أربعة أمور: إما القتل، وإما الاسترقاق، وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما أن يمنَّ عليهم.

3-مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أن الإمام مخيَّر فيهم بخمسة أمور: القتل، أو الفداء، أو الاسترقاق، أو الجزية، أو المن.

4-مذهب بعض التابعين - كالحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير: عدم جواز القتل، وأن الإمام مخيَّر بين المنِّ والفداء.

المحور الثاني: أدلة كل فريق:
1-الحنفية: قال الماوردي: وقال أبو حنيفة: يكون الإمام مخيرًا بين شيئين: القتل أو الاسترقاق، وليس له المنُّ ولا المفاداةُ بالمال.

وذكر محمد بن الحسن الشيباني في شرح السير الكبير: أن الإمام بالخيارِ في الرجال من أُسارى المشركين بين أن يقتلَهم وبين أن يسترقَّهم.

واستدلوا على القتل بالأدلة التالية:
أ- من القرآن: يقول تعالى: ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ ﴾ [الأنفال: 12]، وهذه الحالة - أي: الضرب فوق الأعناق - لا يتمكَّن منها الضارب إلا إذا كان المضروبُ متمكَّنًا منه حتى يظهر المفصلُ.

ب- من السنة: أن النبي أمر بقتل عقبةَ بن أبي مُعَيْط، والنضر بن الحارث يوم بدر.

ج- من السيرة النبوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل يهود بني قريظة بعد أن أسرهم؛ فاستدلوا على هذا بفعل النبي.

د- دليل عقلي؛ ذكره محمد بن الحسن الشيباني في شرح السير، قال: إن الأمنَ من القتل إنما يثبت بالأمان أو الإيمان، وبالأسر لا يثبت شيءٌ من ذلك، فحرمةُ الأسير منتهَكة إلا إذا آمن بالإسلام أو بالأمان، وهذا الأسير خرج لقتال المسلمين، وواجبٌ قتلُه؛ لأنه خرج مقاتلاً.

واستدلوا على جواز الاسترقاق بأن هؤلاء الأسرى يُعتبرون غنيمة حصل عليها المسلمون عَنوة وقهرًا بإيجافالخيلِ والرِّكاب.

2-أدلة الشافعي وأحمد بن حنبل:
قال الماوردي: فذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - إلى أن الإمام، أو من استنابه الإمامُ عليهم في أمر الجهاد - مخيَّرٌ فيهم - إذا أقاموا على كفرهم - في الأصلح من أحد أربعة أشياء: إما القتلُ، وإما الاسترقاق، وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما المنُّ عليهم بغير فداءٍ.

وقال المرداوي الحنبلي: ويخير الأمير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمنِّ والفداء بمسلِمٍ أو بمال.

أدلتهم على جواز القتل:
أ- من القرآن: قال – تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ [التوبة: 5]، وهذا دليل عامٌّ على جواز القتل في الحرب أو الأسر.

ب- من السنة: أن النبيَّ قتل النضرَ بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، وهما من أسرى بدر.

أدلتهم على جواز المنِّ بدون مقابل:
ما رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أنس بن مالك أن ثمانين رجلاً من أهل مكَّةَ هبطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر، فأخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - سلمًا فأعتقهم؛ 
فأنزل الله - عز وجل: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ ﴾ [الفتح: 24].

أدلتهم على جواز المفاداة بمالٍ:
استدلوا بِما أخرجه أبو داود فيما رواه ابن عباس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: "جعل فداءَ أهل الجاهلية يومَ بدر أربعمائة درهم"؛ رواه أبو داود، ج 2، ص 10.

أدلتهم على جواز المفاداة بأسرى مسلمين:
استدلوا بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم عن عمران بن حصينٍ أن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم: ((فدى رجلينِ من المسلمين برجلٍ من المشركين من بني عَقيل)).

3-أدلة المالكية:
قال الحطاب: كالنظر في الأسرى بقتلٍ، أو مَنٍّ، أو فداء، أو جزية، أو استرقاق.

• أدلتهم على القتل والمنِّ والفداء هي كالأدلة التي استدل بها أصحابُ المذاهب السابقة.
• أدلتهم على الاسترقاق من قوله – تعالى: ﴿ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ ﴾ [محمد: 4]، ففهموا من هذا دلالةً على الاسترقاق، ومن باب المعاملة بالمثل، أما الجزية فمن باب أنه سيتركهم أحرارًا في بلد المسلمين، وأن الذمةَ ستنعقد لهم، واستدلوا على ذلك بفعل عمرَ في أهل السواد.

4-أدلة الحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير.
قالوا بعدم جواز قتل الأسير؛ وإنما يخيَّر الإمام بين المنِّ والفداء فقط، ولم يجيزوا القتلَ والأمور الأخرى التي قالها الفقهاء الآخرون.

• استدلوا بقوله – تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ... ﴾ [محمد: 4].

فقالوا: بأن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والمعنى: فضرْبَ الرقابِ حتى تضع الحربُ أوزارها فإذا أثخنتموهم، فشدُّوا الوثاق، وليس للإمام أن يقتل الأسيرَ، وقالوا: بأن هذه الآيةَ فقط هي التي تبيِّن حُكم الأسرى، وهو المنُّ أو الفداء، أما الاسترقاق فلم يرِد فيه دليلٌ، وعلَّلوا فعل الرسول بقتْل الأسرى أنه كان لأسباب.

• واستدلوا على المنِّ بفعل الرسول في أسارى فتح مكة، والأدلة السابقة الذكر التي فيها المنُّ على الأسرى؛ كقوله – تعالى: ﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ﴾ بمحمد: 4]، والفداء بالأسرى كما فعل عندما استبدل سعدُ بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بأسير قريشٍ؛ وذلك في سرية عبدالله بن جحش.

• ويجوز عندهم الفداءُ بمال، واستدلوا على ذلك بأنَّ الرسول أخذ من رجلٍ يُكنى بأبي عزيز أربعةَ آلاف درهم فداءً له في بدر.

المحور الثالث: سبب الخلاف والترجيح:
إن سبب الخلاف بين الفقهاء في تحديد مصير الأسرى إنما يعود إلى تعدُّد الأحاديث التي تبيِّن لنا مصيرَ الأسرى، وبسبب تعدُّد الوقائع التي وقعتْ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمرة قَتل الأسرى، ومرة منَّ عليهم، ومرة أطلق سراحَهم مقابل مال، ومرة مقابل فكِّ أسرى مسلمين كانوا قد وقعوا في أسرِ الأعداء.

فكل فريقٍ من الفقهاء استدل لمذهبه بحادثة أو بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حادثةٍ ما، ولكن من خلال النظر إلى تعدُّد هذه الوقائع المختلفة النتائج، نستنتج أن مصير الأَسرى مرتبطٌ بواقعهم الذي حدثت فيه تلك الوقائع، فبالنظر إلى واقعهم يتبيَّن لنا سببُ هذا المصير الذي لحق بهم.

وأيضًا من خلال النظر إلى واقع المسلمين من حيث القوة والضعف، أو من خلال تقديم الأولويات من قِبَل ولي أمر المسلمين، فهو الذي يقرر إما أن يقتلَ الأسرى، وإما أن يمنَّ عليهم، وإما أن يبادلَهم بمال، أو أسرى مسلمين وقعوا في قبضة الأعداء.

وإن ما أرجِّحه هو أن الإمام مخير في الأسرى، بما يعود على الأمة بالخير؛ وذلك بالنظر إلى حال الأسير ووضعه، والأمر الثاني بالنظر إلى حال المسلمين ووضعهم، وهذا المعنى نستنتجه من الوقائع النبوية، وتحليل مضمونها من خلال النظر إلى خفاياها.

فمثلاً القتل الذي حلَّ بيهود بني قريظة، لا لأنهم أسرى قُتلوا فقط أو لأنهم يهود؛ وإنما هناك أمور أخرى، وهي أنهم نقضوا العهدَ، وخانوا الرسول، ومعلوم أن مصير الخائنِ القتلُ حتى عند أصحاب القوانين الوضعية، ونُقل عن مالك والأوزاعي والحنابلة والشافعي في أحد قوليه أنَّ من نقض العهد يقتل.

وكذلك ما حصل مع عقبة بن أبي مُعيط والنضر بن الحارث يوم بدر، فهؤلاء غدروا وخانوا، وزيادة على هذا أن هؤلاء كانوا محرِّضين على الإسلام، فهم يشكِّلون الجهاز الإعلامي المناهض للإسلام، ولهم خطرٌ كبير على الإسلام، وليسوا أناسًا عاديين يُؤمن شرُّهم.

أما موضوع الاسترقاق والتخيير بينه وبين القتل، مثل ما حصل من فرات بن حيان، وكان النبي قد أمر بقتلِه وكان ذميًّا وعينًا لأبي سفيان، وحليفًا لرجل من الأنصار، فمر بحلقةٍ من الأنصار، فقال: إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، إنه يقول: إنه مسلمٌ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: ((إن منكم رجالاً نكِلُهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيان))؛ رواه الإمام أحمد في مسنده، فالرسولُ كان مخيَّرًا فيه، ولربما لو كان له خطرٌ لَما تركه؛ كما فعل مع عقبة والنضر بن الحارث يوم بدر.

وأما ما حصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنِّ على أهل مكة يوم الفتح، فمن خلال النظر إلى حال المسلمين من القوة، وحال المشركين من الضعف، وربما نظر النبيُّ إلى أبعدَ مما ننظر ونتطلَّع إليه من أن يسلموا، فالإسلام ما جاء لإبادة البشر، فهو دين دعوة، وما حصل من ثمامة بن أثال هو خيرُ دليل على هذا، وليس ببعيدٍ عنا.

وعندما أطلق سراح الأسرى بأسرى مسلمين، فذلك من أجل تحقيق مصلحةٍ، وهي تحرير المسلمين من قبضة العدو، مثل ما حصل في سَرية عبدالله بن جحش، فالحِفاظ على حياة الأسرى الكفار لاستبدالهم بأسرى مسلمين كان لمصلحةٍ، وكذلك المنُّ بدون مقابل أيضًا.

فكل واقعة كانت مرتبطةً بحدثٍ ما، يجب ألاَّ نَغفُل عنه، ونأخذَ في الحُكم بمصير الأسرى بناءً على حادثةٍ بعينها؛ وإنما ننظر لأبعادها، وألا نضيِّق ولا نقبَل الرأي الآخر؛ فقد يكون صوابًا في حادثة ولا يكون كذلك في حادثة أخرى؛ فبالنظر إلى مجموع النصوص الواردة في تقرير مصير الأسرى وأبعادها ونتائجها، نُصدر الحكم.

بقي أمرٌ أخير، وهو قول الحسن البصري وعطاء وسعيد القائلين بعدم جواز القتل للأسرى؛ فهذا رأي تنقضه الآياتُ العامة والوقائع التي فيها قتلٌ لبعض الكفَّار، حتى وإن كانوا أسرى، وأيضًا فعلُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمنعُ القتل مطلقًا ليس برأي مسلَّمٍ به على إطلاقه؛ لإمكان تحقيق مصالح من وراء هذا الفعل، وهو القتل للبعض بالنظر إلى أحوالهم.

الترجيح:
إن ما أرجِّحه من خلال وجود أدلة ووقائع متعددة النتائج، وهي صحيحة وثابتة، منها ما فيه القتل، ومنها ما فيه المنُّ، ما فيه الفداءُ... إلخ، تلك النتائج التي حلَّتْ وقرَّرتْ مصير الأسرى - أن الجمعَ بين النصوص هو الأَولى من الأخذ بنص دون آخر؛ وذلك من خلال النظر إلى أحوال الأسير، وبالنظر إلى أحوال المسلمين من حيث القوة والضعف، وأثر الأسير على الإسلام والمسلمين.

وباختصار أقول: إن وليَّ الأمر أو من ينوب عنه من قادة الجيوش ينظر: فما كان فيه تحقيق مصلحة للإسلام والمسلمين، قدَّمه على غيره، وما كان فيه تحقيق مصلحةٍ أَولى من الأخرى قدَّمه.

قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: وأنا أقول: الأمرُ في الأسرى إلى الإمام، فإن كان أصلحَ للإسلام وأهلِه عنده قتلُ الأسرى، قَتل، وإن كانت المفاداةُ بهم أصلحَ، فادى بهم بعضَ أُسارى المسلمين.

قلت: وهذا ما يُزيل الخلافَ بين الفقهاء؛ أي: بالنظر للأصلح، فما كان فيه المصلحة - بل الأَولى - قدَّمه.
*********************************
ثالثا: حكم تبادل الأسرى - الأموات والأحياء :-
تبادُل الأسرى بين المسلمين والأعداء أمرٌ مشروع، ودلت عليه وقائعُ من سيرته - عليه الصلاة والسلام - سواء كانوا أحياءً أم أمواتًا، ولولي الأمر أو من ينوب عنه، أن يبادل الأسرى بما فيه الأصلحُ والأنسب، فإما بمال أو بأسرى مسلمين أو بشيء آخر.

ففي مبادلة الأسرى الأموات، ما حصل يوم الخندق، وذلك إن رغب العدو؛ روى ابن إسحاق أن نوفل بن عبدالله بن المغيرة كان اقتحم الخندق فتورَّط فقتل، فغُلب المسلمون على جسده، فعرَض المشركون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف درهم مقابل الحصول على جثته، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم: ((لا حاجة لنا في جسده ولا بثمنه)).

ففي هذه الحادثة دليلٌ على جواز مبادلة الأسير بمال أو نحوه، ولا يوجد دليلٌ على منعه.

أما الدليل على جواز المبادلة بمال أو أسرى أو غير ذلك:
فهو أنه قد أخذ من رجل يكنى بأبي عزيز أربعةَ آلاف درهم فداءً له في بدر.
وأيضًا ما جاء في شأن أسرى غزوة بني المصطلق، وكان من بينهم جويرية بنت الحارث، فأبوها جاء إلى المدينة ومعه كثير من الإبل ليفدي بها ابنتَه.
*********************************
رابعا: عدل الإسلام في الأسرى.
بعد هذا العرض الموجز لمصير الأسرى في الإسلام وعرض أدلة الفقهاء في مصيرهم، يتبيَّن لنا أن الإسلامَ هو أعدلُ الأديان وأحكمُها وأرحمها، وذلك من خلال النظر إلى أحكامه ومقاصده، ويتضح ذلك جليًّا من خلال النظر لمعاملة المسلمين لأسراهم، وذلك مقارنةً مع معاملة غير المسلمين للأسرى، وأذكر هنا قول ذلك الفرنسي المستشرق - وهو جوستاف لوبون - إذ يقول: "والحق أنَّ الأمم لم تعرف فاتحين رحماءَ متسامحين مثلَ العرب، وإذا حدث أنِ انتحل بعضُ الشعوبِ النصرانية الإسلامَ، واتخذوا العربيةَ لغةً لهم، فذلك لِما كان يتصف به العربُ من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهدٌ بمثله"، فالمسلمون حتى في أحْلك الظروف وأشدِّها تظهرُ آثار رحمتِهم على الناس، ويتحلَّوْن بمبادئ الحق والعدل.

وهنا أختم وأقول: بأن الأسرى ما كانوا أسرى؛ لأنَّ المسلمين أرادوا لهم أن يكونوا كذلك، ولكنهم هم أرادوا هذا بعد رفضِهم لدعوة الحق، فالمسلمون أرادوا أن يوجِّهوهم إلى عبادة الله وحده، ولكنهم أبَوْا ففرُّوا من رقِّ الله إلى أَسر المسلمين، وهذه الحالة -أي: الأسر- ما هي إلا أثرٌ من آثار الحروب، والحرب ذاتها أمرٌ مستكرَه عند المسلمين ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]،
 فالحرب نفسُها أمرٌ لا يرغبه المسلمون، ولكن إن وقعت فهُم لها، وهم بإسلامهم لله لن يظلموا الأسرى، ويكفي أن يقال: إنهم سيقيمون فيهم أمرَ الله تعالى.

الجزء العاشر - الربع الثاني - الاعجاز العلمي




لم نجد في ربعنا الحالي اشارات علمية واضحة علي لون من الاعجاز العلمي المحقق أو يرقى لنقطة بحث مستقبلية.

الجزء العاشر - الربع الثاني - الاعجاز البياني



مع الاعجاز البياني للشيخ/ صلاح شبانة

الجزء العاشر - الربع الثاني - أسباب النزول








الجزء العاشر - الربع الثاني - التجويد و القراءات



مع الأخطاء الشائعة


******************************************************
مع القراءات المتواترة







الجزء العاشر - الربع الثاني - التفسير و المعاني






( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
الأنفال (61)

وإن مالوا إلى ترك الحرب ورغبوا في مسالمتكم فمِلْ إلى ذلك -أيها النبي- وفَوِّضْ أمرك إلى الله، وثق به. إنه هو السميع لأقوالهم، العليم بنيَّاتهم.

السؤال : ما فوائد السلم على المسلمين إذا طلبه الكفار، وتوفرت شروطه؟
فإن في ذلك فوائد كثيرة، منها: أن طلب العافية مطلوب كل وقت، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك كان أولى لإجابتهم، ومنها: أن في ذلك إجماماً لقواكم، واستعداداً منكم لقتالهم في وقت آخر إن احتيج لذلك، ومنها: أنكم إذا اصطلحتم وأَمِنَ بعضُكم بعضاً، وتمكن كلٌ من معرفة ما عليه الآخر، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان.
(السعدي:325.)
******************************************************************
( وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ )
الأنفال (62)

وإن أراد الذين عاهدوك المكر بك فإن الله سيكفيك خداعهم؛ إنه هو الذي أنزل عليك نصره وقوَّاك بالمؤمنين من المهاجرين والأنصار، وجَمَع بين قلوبهم بعد التفرق، لو أنفقت مال الدنيا على جمع قلوبهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ولكن الله جمع بينها على الإيمان فأصبحوا إخوانًا متحابين، إنه عزيز في مُلْكه، حكيم في أمره وتدبيره.
******************************************************************
( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )
الأنفال (63)

وإن أراد الذين عاهدوك المكر بك فإن الله سيكفيك خداعهم؛ إنه هو الذي أنزل عليك نصره وقوَّاك بالمؤمنين من المهاجرين والأنصار، وجَمَع بين قلوبهم بعد التفرق، لو أنفقت مال الدنيا على جمع قلوبهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ولكن الله جمع بينها على الإيمان فأصبحوا إخوانًا متحابين، إنه عزيز في مُلْكه، حكيم في أمره وتدبيره.

السؤال : الإيمان الصادق له علامات على الجماعة، بيِّنها؟
أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج، وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة، فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بالإيمان بينهم؛ حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين.
(القرطبي:10/67.)
******************************************************************
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
الأنفال (64)

يا أيها النبي إن الله كافيك، وكافي الذين معك من المؤمنين شرَّ أعدائكم.
******************************************************************
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ )
الأنفال (65)

يا أيها النبي حُثَّ المؤمنين بك على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون عند لقاء العدو يغلبوا مائتين منهم، فإن يكن منكم مائة مجاهدة صابرة يغلبوا ألفًا من الكفار؛ لأنهم قوم لا عِلْم ولا فهم عندهم لما أعدَّ الله للمجاهدين في سبيله، فهم يقاتلون من أجل العلو في الأرض والفساد فيها.

السؤال : ذكرت هذه الآية شرطاً محكماً للغلبة لا يتخلّف فما هو؟
(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) أي : يقاتلون على غير دين ولا بصيرة فلا يثبتون.
(ابن جزي:1/ 348.)
******************************************************************
( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )
الأنفال (66)

الآن خفف الله عنكم أيها المؤمنون لما فيكم من الضعف، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الكافرين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين منهم بإذن الله تعالى. والله مع الصابرين بتأييده ونصره.
******************************************************************
( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )
الأنفال (67)

لا ينبغي لنبي أن يكون له أسرى مِن أعدائه حتى يبالغ في القتل؛ لإدخال الرعب في قلوبهم ويوطد دعائم الدين، تريدون -يا معشر المسلمين- بأخذكم الفداء من أسرى "بدر" متاع الدنيا، والله يريد إظهار دينه الذي به تدرك الآخرة. والله عزيز لا يُقْهر، حكيم في شرعه.

السؤال : ما (عرض الدنيا)؟ ولماذا سمي بهذا الاسم؟
(عرض الدنيا): هو المال؛ وإنما سمي عرضا لأن الانتفاع به قليل اللبث، فأشبه الشيء العارض؛ إذ العروض مرور الشيء وعدم مكثه؛ لأنه يعرض للماشين بدون تهيؤ.
(ابن عاشور:10/76.)
******************************************************************
( لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )
الأنفال (68)

لولا كتاب من الله سبق به القضاء والقدر بإباحة الغنيمة وفداء الأسرى لهذه الأمة، لنالكم عذاب عظيم بسبب أخْذكم الغنيمة والفداء قبل أن ينزل بشأنهما تشريع.
******************************************************************
( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
الأنفال (69)

فكلوا من الغنائم وفداء الأسرى فهو حلال طيب، وحافظوا على أحكام دين الله وتشريعاته. إن الله غفور لعباده، رحيم بهم.
******************************************************************
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
الأنفال (70)

يا أيها النبي قل لمن أسرتموهم في "بدر": لا تأسوا على الفداء الذي أخذ منكم، إن يعلم الله تعالى في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أُخذ منكم من المال بأن يُيَسِّر لكم من فضله خيرًا كثيرًا -وقد أنجز الله وعده للعباس رضي الله عنه وغيره-، ويغفر لكم ذنوبكم. والله سبحانه غفور لذنوب عباده إذا تابوا، رحيم بهم.
******************************************************************
( وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
الأنفال (71)

وإن يرد الذين أَطْلَقْتَ سراحهم -أيها النبي- من الأسرى الغدر بك مرة أخرى فلا تَيْئسْ، فقد خانوا الله من قبل وحاربوك، فنصرك الله عليهم. والله عليم بما تنطوي عليه الصدور، حكيم في تدبير شؤون عباده.
******************************************************************
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )
الأنفال (72)

إن الذين صدَّقوا الله، ورسوله وعملوا بشرعه، وهاجروا إلى دار الإسلام، أو بلد يتمكنون فيه من عبادة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله بالمال والنفس، والذين أنزلوا المهاجرين في دورهم، وواسوهم بأموالهم، ونصروا دين الله، أولئك بعضهم نصراء بعض.

أما الذين آمنوا ولم يهاجروا من دار الكفر فلستم مكلفين بحمايتهم ونصرتهم حتى يهاجروا، وإن وقع عليهم ظلم من الكفار فطلبوا نصرتكم فاستجيبوا لهم، إلا على قوم بينكم وبينهم عهد مؤكد لم ينقضوه. 

والله بصير بأعمالكم، بجزي كلا على قدر نيته وعمله.

السؤال : بين واجبنا الشرعي تجاه أسارى المسلمين المستضعفين.
ابن العربي: إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين؛ فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة حتى لا تبقى منا عين تطرف، حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم؛ كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في ترك إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والقدرة، والعدد، والقوة، والجلد.
(القرطبي:10/347.)

السؤال : ما فائدة ختم الآية الكريمة بقوله تعالى: (والله بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ)؟
وقوله: (والله بما تعملون بصير) تحذير للمسلمين؛ لئلا يحملهم العطف على المسلمين على أن يقاتلوا قوما بينهم وبينهم ميثاق.
وفي هذا التحذير تنويه بشأن الوفاء بالعهد، وأنه لا ينقضه إلا أمر صريح في مخالفته.
(ابن عاشور:10/87.)
******************************************************************
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )
الأنفال (73)

والذين كفروا بعضهم نصراء بعض، وإن لم تكونوا -أيها المؤمنون- نصراء بعض تكن في الأرض فتنة للمؤمنين عن دين الله، وفساد عريض بالصد عن سبيل الله وتقوية دعائم الكفر.

السؤال : ما خطورة زوال الولاء والبراء من حياة المسلمين؟
قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين، فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض.
(القرطبي:10/87.)

السؤال : على أي شيء يتفق الكفار ويوالي بعضهم بعضاً، رغم اختلاف أنواعهم؟
يعني أن في كل من الكفار قوة الموالاة للآخر عليكم والميل العظيم الحاث لهم على المسارعة في ذلك وإن اشتدت عداوة بعضهم لبعض لأنكم حزب وهم حزب، يجمعهم داعي الشيطان بوصف الكفران كما يجمعكم داعي الرحمن بوصف الإيمان.
(البقاعي:3/252.)

السؤال : مثل لبعض أنواع الفتنة الحاصلة بعدم معاداة الكافرين؟
(إِلا تَفْعَلُوهُ) أي: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ...
(تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ): فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل، والمؤمن بالكافر، وعدم كثير من العبادات الكبار؛ كالجهاد والهجرة، وغير ذلك من مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض.
(السعدي:328.)
******************************************************************
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )
الأنفال (74)

والذين آمنوا بالله ورسوله، وتركوا ديارهم قاصدين دار الإسلام أو بلدًا يتمكنون فيه من عبادة ربهم، وجاهدوا لإعلاء كلمة الله، والذين نصروا إخوانهم المهاجرين وآووهم وواسوهم بالمال والتأييد، أولئك هم المؤمنون الصادقون حقًا، لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم واسع في جنات النعيم.

السؤال : ما صفات المؤمنين حقاً؟
 هم المؤمنون حقاً؛ لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة، والنصرة، والموالاة بعضهم لبعض، وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين.
(السعدي:328.)
******************************************************************
( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
الأنفال (75)

والذين آمنوا مِن بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار، وهاجروا وجاهدوا معكم في سبيل الله، فأولئك منكم -أيها المؤمنون- لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وأولو القرابة بعضهم أولى ببعض في التوارث في حكم الله من عامة المسلمين. إن الله بكل شيء عليم يعلم ما يصلح عباده مِن توريث بعضهم من بعض في القرابة والنسب دون التوارث بالحِلْف، وغير ذلك مما كان في أول الإسلام.
******************************************************************
السؤال : اذكر صورةً كانت في أول الإسلام تدل على أهمية الموالاة بين المؤمنين؟
فهذه الموالاة الإيمانية لها وقع كبير، وشأن عظيم، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- آخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة غير الأخوة الإيمانية العامة، وحتى كانوا يتوارثون بها،
فأنزل الله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله): فلا يرثه إلا أقاربه.
(السعدي:328.)
******************************************************************
مع بعض التوجيهات







******************************************************************
مع التفسير للدكتور/ ابراهيم الشربيني











السبت، 10 مارس 2018

الجزء العاشر - الربع الأول - ترجمة المعاني






الجزء العاشر - الربع الأول - الأحكام الفقهية




الآية الأولى:

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41].

المسألة الأولى تعريف الغنيمة وبيان حكمها:

الغنائم: جمع غنيمة، وهي في اللغة ما يناله الإنسان بسعي.

وفي الشرع: هي المال المأخوذ من أعداء الإسلام عن طريق الحرب والقتال.

وتسمى الأنفال - جمع نفل - لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكانت قبائل العرب في الجاهلية قبل الإسلام إذا حاربت وانتصر بعضها على بعض أخذت الغنيمة ووزعتها على المحاربين، وجعلت منها نصيبا كبيرا للرئيس:
أشار إليه أحد الشعراء فقال: لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول إحلالها لهذه الأمة دون غيرها:
وقد أحل الله الغنائم لهذه الأمة: 
فيرشد الله سبحانه إلى حل أخذ هذه الأموال بقوله: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم}.

ويشير الحديث الصحيح إلى أن هذا خاص بالأمة المسلمة، فإن الأمم السابقة لم يكن يحل لها شيء من ذلك.

روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصل. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لاحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وبعثت إلى الناس عامة).

وسبب ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فلم تحل الغنائم لاحد من قبلنا. ذلك لأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا» أي أحلها لنا.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يسهم لأكثر من فرس واحد، لأنه أكثر غناء وأعظم منفعة.

ويعطى الفرس المستعار والمستأجر، وكذلك المغصوب وسهمه لصاحبه.
*****************************************************************
المسألة الثانية: كيفية تقسيم الغنائم:
بين الله سبحانه وتعالى كيفية تقسيم الغنائم، فقال: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير}.

فالآية الكريمة نصت على الخمس يصرف على المصارف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، وهي: الله ورسوله، وذو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وذكر الله هنا تبركا.

فسهم الله ورسوله مصرفه مصرف الفي، فينفق منه على الفقراء، وفي السلاح، والجهاد، ونحو ذلك من المصالح العامة.

روى أبو داود، والنسائي، عن عمرو بن عبسة قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، ولما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: لا يحل لي من غنائكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم» أي ينفق منه على الفقراء، وفي السلاح، والجهاد.

أما نفقات الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت مما أفاء الله عليه من أموال بني النضير.
روى مسلم عن عمر، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.

فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.
وسهم ذي القربى: أي أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، الذين آزروا النبي صلى الله عليه وسلم وناصروه، دون أقربائه الذين خذلوه وعاندوه.

روى البخاري وأحمد عن جبير بن مطعم، قال: لما كان يوم خيبر، قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب.

فأتيت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله: أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه ويأخذ منهم الغني والفقير والقريب والبعيد، والذكر والأنثى للذكر مثل حظ الانثيين» وهذا مذهب الشافعي، وأحمد.

وروي عن ابن عباس، وزين العابدين، والباقر: أنه يسوى في العطاء بين غنيهم وفقيرهم، ذكورهم وإناثهم، صغارهم وكبارهم، لأن اسم القرابة يشملهم، ولأنهم عوضوه لما حرمت عليهم الزكاة، ولان الله جعل ذلك لهم، وقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على البعض.

واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة فأشبه الميراث.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عمه العباس وهو غني - ويعطي عمته صفية.
وأما سهم اليتامى، وهم أطفال المسلمين، فقيل: يختص به الفقراء وقيل: يعم الاغنياء والفقراء، لأنهم ضعفاء وإن كانوا أغنياء.

روى البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو معترض فرسا، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ قال: «لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش".

قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم.

وفي الحديث: «وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم".
وأما الأربعة الاخماس الباقية، فتعطى للجيش.

ويختص بها: الذكور، الأحرار، البالغون، العقلاء.

أما النساء، والعبيد، والصغار، والمجانين، فإنه لا يسهم لهم.

لأن الذكورة، والحرية، والبلوغ، والعقل، شرط في الإسهام.

ويستوي في العطاء القوي، والضعيف، ومن قاتل، ومن لم يقاتل.

روى أحمد، عن سعد بن مالك، قال: «قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، ويكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم".

وفي كتاب حجة الله البالغة: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش، كالبريد، والطليعة، والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الواقعة، كما كان لعثمان يوم بدر، فقد تغيب عنها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل مرض زوجته، رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه» رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وتقسم الغنيمة على أساس أن يكون للراجل سهم، وللفارس ثلاثة: وقد جاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل سهما.

وإنما كان ذلك كذلك لزيادة مئونة الفرس واحتياجه إلى سايس وقد يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل.

ولا يسهم لغير الخيل، لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لغير الخيل، وكان معه سبعون بعيرا يوم بدر، ولم تخل غزوة من غزواته من الإبل وهي غالب دوابهم، ولو أسهم لها لنقل الينا، وكذلك أصحابه من بعده لم يسهموا للإبل.

ولا يسهم لأكثر من فرس واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه ولا عن أصحابه أنهم أسهموا لأكثر من فرس، ولان العدو لا يقاتل إلا على فرس واحد.
*****************************************************************

المسألة الثالثة: النفل من الغنيمة:
يجوز للإمام أن يزيد بعض المقاتلين عن نصيبه بمقدار الثلث، أو الربع.
وأن تكون هذه الزيادة من الغنيمة نفسها، إذا أظهر من النكاية في العدو ما يستحق به هذه الزيادة، وهذا مذهب أحمد وأبو عبيد.

وحجة ذلك، حديث حبيب بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة، وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة» رواه أبو داود، والترمذي.

وجمع لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم لعظم عنائه في تلك الغزوة.
*****************************************************************

المسألة الرابعة: السلب للقاتل:
السلب هو ما وجد على المقتول من السلاح وعدة الحرب، وكذلك ما يتزين به للحرب.
أما ما كان معه من جواهر ونقود ونحوها، فليس من السلب، وإنما هو غنيمة.

وأحيانا يرغب القائد في القتال، فيغري المقاتلين بأخذ سلب المقتولين، وإيثارهم به دون بقية الجيش

وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبل للقاتل، ولم يخمسه رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي، وخالد بن الوليد.

وروى ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك: أن البراء بن مالك مر على مرزبان يوم الدارة، فطعنه طعنة على قربوص سرجه فقتله، فبلغ سلبه ثلاثين ألفا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا. ولا أراني إلا خمسته.

قال: قال ابن سيرين: فحدثني أنس بن مالك: إنه أول سلب خمس في الإسلام.
عن سلمة بن الاكوع قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين، وهو في سفر، فجلس مع أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اطلبوه، فاقتلوه» قال: فقتلته، فنفلني سلبه.

*****************************************************************
المسألة الخامسة: الغلول:
تحريم الغلول: يحرم الغلول، وهو السرقة من الغنيمة، إذ أن الغلول يكسر قلوب المسلمين، ويسبب اختلاف كلمتهم، ويشغلهم بالانتهاب عن القتال، وكل ذلك يفضي إلى الهزيمة، ولهذا كان الغلول من كبائر الاثم بإجماع المسلمين.

يقول الله تعالى: {وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة الغال وحرق متاعه وضربه، زجرا للناس وكبحا لهم أن يفعلوا مثل ذلك.

فقد روى أبو داود، والترمذي، عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه).

قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسألنا سالما عنه؟ فقال: بعه وتصدق بثمنه.

وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، حرقوا متاع الغال وضربوه.

وقد رويت أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يأمر بحرق متاع الغال، ولا ضربه، ففهم من هذا أن للحاكم أن يتصرف حسب ما يرى من المصلحة، فإن كانت المصلحة تقتضي التحريق والضرب حرق وضرب، وإن كانت المصلحة غير ذلك فعل ما فيه المصلحة.

وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو في النار»، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها.

وروى أبو داود: «أن رجلا مات يوم خيبر من الاصحاب، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله» ففتشوا متاعه، فوجدوا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين.

*****************************************************************
المسألة السادسة: الانتفاع بالطعام قبل قسمة الغنائم:

ويستثنى من ذلك الطعام، وعلف الدواب، فإنه يباح للمقاتلين أن ينتفعوا بها ما داموا في أرض العدو، ولو لم تقسم عليهم.

روى البخاري، ومسلم، عن عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسم.

وأخرج أبو داود، والحاكم، والبيهقي، عن ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعام يوم خيبر، وكان الرجل يجئ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينطلق.

وروى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه.

وفي بعض رواية الحديث عند أبي داود: فلم يؤخذ منهما الخمس.

قال مالك في الموطأ: لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم، ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع في المقاسم.

وقال: أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام، يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون الطعام.

وقال: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش.
قال: فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدخر بعد ذلك شيئا يرجع به إلى أهله.

المسلم يجد ماله عند العدو يكون له: إذا استرد المقاتلون أموالا للمسلمين كانت بأيدي الاعداء، فأربابها أحق بها، وليس للمقاتلين منها شيء، لأنها ليست من الغنائم.
عن ابن عمر أنه غار له فرس، فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون، فردت عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن عمران بن حصين قال: أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة، قامت المرأة، وقد ناموا، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء، فأتت ناقة ذلولا، فركبتها، ثم توجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: «بئس ما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية».
وكذلك إذا أسلم الحربي وبيده مال مسلم، فإنه يرد إلى صاحبه.

*****************************************************************
الآية الثانية

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال:15، 16].

وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45].

لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الثبات في الجهاد، وتحريم الفرار؛ للآيات السابقة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. وذكر منها: وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ) متفق عليه.

إلا أنه يستثنى من ذلك ثلاثة مواضع:

الأول: أن يكون الفرار تحرُّفا لقتال، ويأتي بيان التحرّف.

الثاني: أن يكون الفرار تحيزا إلى فئة من المسلمين، ولو بَعُدَت.

الثالث: أن يزيد عدد الكفار على ضعف المسلمين، فيجوز الفرار حينئذ .
وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة، واستدل الجمهور بقوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 66].

فلا يجوز لعشرة أن يفروا من عشرين، ولا لمائة أن يفروا من مائتين، فإن زاد الكفار عن الضعف جاز الفرار.

وهذا تخفيف من الله تعالى، وهو نسخ لوجوب مصابرة العشرين للمائتين، والمائة للألف، الوارد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65].

وقول السائل: إنه لا يجوز أن نشارك في الحرب حينئذ، غير صحيح، ففرق بين قولنا: يجوز الفرار، وقولنا: يجب الفرار أو يحرم القتال، فلو أن المسلمين ثبتوا مع أضعافهم جاز ذلك، وهذا ما كان عليه حال المسلمين في أكثر معاركهم، لا سيما المعارك العظيمة الفاصلة كالقادسية واليرموك.

وينبغي التنبه إلى أنه إن هجم العدو على بلاد المسلمين، وجب الدفع، ولو كان الكفار أضعاف المسلمين، ولا يجوز الفرار حينئذ إلا للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقتال الدفع: مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلّفون من المسلمين . فههنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَموا، ونظيرها: أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتِلة أقل من النصف، فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع، لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب " انتهى من "الاختيارات الفقهية" ص 258.

وإليك كلاما نافعا لابن قدامة رحمه الله، يبين هذه المسألة، ويوضح معنى التحرّف والتحيز، قال رحمه الله: "إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات، وحرم الفرار، بدليل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار﴾ الآية .

وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون﴾ 

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف، فعده من الكبائر ...

وإنما يجب الثبات بشرطين: أحدهما: أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين، فإن زادوا عليه جاز الفرار، لقول الله تعالى: ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين﴾ .
وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر، فهو أمر ... قال ابن عباس: نزلت: ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين﴾، فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء تخفيف فقال: ﴿الآن خفف الله عنكم﴾ إلى قوله: ﴿يغلبوا مائتين﴾ فلما خفف الله عنهم من العدد، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد. رواه أبو داود .

وقال ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر.

الثاني: أن لا يقصد بفراره التحيّز إلى فئة، ولا التحرف لقتال، فإن قصد أحد هذين: فهو مباح له ؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة﴾ .

 ومعنى التحرّف للقتال: أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما، أو من نزلة إلى علو، أو من معطشة إلى موضع ماء، أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم، أو تنفرد خيلهم من رجالتهم، أو ليجد فيهم فرصة، أو ليستند إلى جبل، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب ...

وأما التحيز إلى فئة: فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم، فيقوى بهم على عدوهم، وسواء بعدت المسافة أو قربت . قال القاضي: لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز، جاز التحيز إليها، ونحوه ذكر الشافعي، لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني فئة لكم، وكانوا بمكان بعيد منه، وقال عمر: أنا فئة كل مسلم، وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان . رواهما سعيد.

وقال عمر: رحم الله أبا عبيدة لو كان تحيز إلي لكنت له فئة".

ثم قال ابن قدامة رحمه الله: "وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين، فغلب على ظن المسلمين الظفر، فالأولى لهم الثبات؛ لما في ذلك من المصلحة، وإن انصرفوا جاز؛ لأنهم لا يأمنون العطب، والحكم عُلق على مظنته، وهو كونهم أقل من نصف عددهم، ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وإن غلب على ظنهم الهلاك فيه.

ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر؛ لما فيه من المصلحة.

وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة، والنجاة في الانصراف، فالأولى لهم الانصراف، وإن ثبتوا جاز، لأن لهم غرضا في الشهادة، ويجوز أن يغلبوا أيضا" انتهى من "المغني(9/254) ..

وكلامه الأخير واضح في جواز القتال مع القلّة، بل ومع غلبة الظن بحصول الهلاك، خلافا لما ظنه السائل.