قول الله تعالى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.
لم يخرج هارون تبعا لموسى وبقي على الرغم من عبادة بني إسرائيل للعجل خشية إن فارقهم أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضًا، فيقول له موسى: أوقعت الفرقة فيما بينهم ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ لم تحفظ وصيتي في حسن الخلافة عليهم، فحافظ هارون على جماعتهم على الرغم من كفر بعضهم خشية اقتتالهم وتفرقهم، حتى إذا رجع موسى استطاع أن يحملهم على الإسلام مرة أخرى، وفعل هارون عليه السلام ونص الآية دليل على قاعدة فقهية عظيمة وهي:
"إذا تعارض مفسدتان رُوعي أعظمُهما ضررًا بارتكاب أخفهما"
معنى القاعدة: إن الأمر إذا دار بين ضررين أحدهما أشد من الآخر، فيحمل بأيتهما شاء، وإن اختلفا يختار أهونهما؛ لأن مباشرة الحرام لا تجوز إلا للضرورة، ولا ضرورة في حق الزياد؛ لأن الضرورة تتقدر بقدرها
وهذه القاعدة المذكورة، وكذلك قاعدة: "إذا اجتمع الضرران أسقط الأكبر للأصغر"، و"الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، و"يختار أخفَّ الضررين"، و"يختار أهونَ الشرين" متحدة المعنى، ليس بينها فرق إلا في صياغة القاعدة.
دليلها:
عن أنس، أن أعرابيًّا بال في المسجد، فوثب إليه بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُزْرِموه، ثم دعا بدَلْوٍ من ماء، فصُبَّ عليه).
ومثله ترك النبي صلي الله عليه وسلم قتل المنافقين خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه فيُصد الناس عن الدخول في الإسلام، فصبر علي أذى المنافقين درءًا للمفسدة الأعلى!
- قال صاحب مراقي السعود:
"وارتكب الأخف من ضرين وخيرن لدى استوا هذين"
قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- في شرحه: "يعني أنه من أصول مذهب مالك ارتكاب أخف الضررين إذا وجدا، وكان أحدهما أخف ضررًا من الآخر، وينبني على ذلك جبر المحتكر على البيع عند احتياج الناس إلى ذلك، وأهل السفينة إذا خاف ركابها الغرق فإنهم يجبرون على رمي ما ثقل من المتاع، وتوزع قيمة ما رمي على ما معهم ارتكابًا لأخف الضررين" (نثر الورود 1/ 184).
الأمثلة:
- رجل عليه جرح، لو سجد سال عليه الجرح، وإن لم يسجد لم يسِلْ؛ فإنه يومئ إيماءً، لا يسجد؛ لأن الصلاة مع الحدث أشد، ولأن السجدة تتغير إلى بدل، ولا يوجد للطهارة بدل في الصلاة؛ لأن ترك السجدة جائزة للمريض، أما الطهارة فلا يجوز تركها لهذا المريض.
- شيخ لا يقدِر على القراءة قائمًا، ويستطيع القراءة قاعدًا فيقعد؛ لأن القعود في النفل جائز.
- لو اضطر المحرم وعنده صيد، وميتة، أكل الصيد دون الميتة؛ لأن ضررَه أخف.
ضوابط العمل بالقاعدة:
الاستدلال بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، فهذا يكون وفق الضوابط والشروط التالية:
1- الوقوع عن غير قصد أو تصميم مسبق في ظروف الإكراه والاضطرار المبرر لارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين؛ بحيث يُكره المرء على الوقوع في محظورين لا بد له من أحدهما، فهنا يُعمل القاعدة الآنفة الذكر ويختار أقلهما ضرراً ومخالفةً للشرع، ومتى يُرفع عنه الإكراه أو الاضطرار لا يجوز له اقتراف هذا المحظور، أو الاستمرار به، للقاعدة الفقهية التي تقول:" ما جاز لعذر بطل بزواله ".
وكلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم الذي يستدل به المخالفون ويضعونه في غير موضعه، كله من هذا القبيل.
2- أن تكون المصلحة المرجوة من الوقوع في المحظور أكبر من ذات المفسدة المرتكبة. وعليه فأي مصلحة يرجونها - المخالفون - وهم يمارسون أم المفاسد وأعظمها ألا وهو الكفر والشرك!
3- ألا يكون هناك سبيل آخر مشروع لدفع هذه المفسدة، أو تحقيـق تلك المصلحة!
4- الضرورات تقدر بقدرها؛ فلا يجوز التوسع في المحـظورات أكثر مما تستدعيه الضرورة، والقاعدة تقول:" إذا اتسعت ضاقت".
5- إذا استوت المفاسد مع المصالح، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق