الاثنين، 1 يناير 2018

الجزء الثامن - الربع السادس - الأحكام الفقهية




{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}

مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ القولُ عَلى اللهِ تَعالى بِغَيرِ عِلمٍ
القَوْلُ عَلى اللهِ تَعالى بِغَيرِ عِلمٍ أعظم المحرمات على الإطلاق

ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أصول المحرمات فبدأ بأقلها حرمة 
فقال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ وهذه تشمل الزنا واللواط وما شابهها من الفواحش، ثم ارتقى الخطاب درجة إلى ما هو أشد خطراً وأعظم ضرراً وهو وأقبح أثراً، وهو الإثم والظلم ﴿ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ وذلك لأن ضرر البغي متعد إلى الغير وأثره أعظم من أثر الفواحش، ثم ارتقى الخطاب درجة إلى ما هو أشد خطرا وأعظم ضررا وأقبح أثرا، وهو الشرك بالله تعالى ﴿ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا ﴾ ثم ارتقى الخطاب درجة إلى ما هو أشد خطرا وأعظم ضررا وأقبح أثراً، وهو القول على الله تعالى بغير علم ﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فالقول على الله تعالى بغير علم أخطر من الشرك بالله تعالى وذلك لأن مفسدة القول على الله تعالى بغير علم أعظم من مفسدة الشرك بالله تعالى فإن الشرك ضرره قاصر على صاحبه أما القول على الله تعالى بغير علم فإن ضرره متعد وإن شئت فانظر إلى ما أحدثه مسيلمة الكذاب من الفتنة عندما ادعى النبوة فضل بقوله فئام عظيمة من الناس، ولا شك أن من ضل في نفسه أقل شراً وأثراً وإثماً ممن ضل في نفسه وأضل غيره، وقد بين ذلك القرآن أعظم بيان قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾ فحصر التحريم في هذه الأربعة فإنها محرمة في كل ملة لا تباح بحال إلا عند الضرورة وبدأ بالأخف تحريما ثم بما هو أشد منه فإن تحريم الميتة دون تحريم الدم فإنه أخبث منها ولحم الخنزير أخبث منها وما أهل به لغير الله أخبث الأربعة.


ونظير هذا قوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ فبدأ بالأسهل تحريمًا ثم ما هو أشد منه إلى أن ختم بأغلظ المحرمات وهو القول عليه بلا علم فما أهل به لغير الله في الدرجة الرابعة من المحرمات.

قال الإمام عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ عامٌّ في تحريم القول في الدين من غير يقين.

وقد أفاض العلماء في الكلام على خطورة القول الله بغير علم، وفي النكير على من يتجرأ عليه،
 جاء في مدارج السالكين لابن القيم: وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريما، وأعظمها إثما، ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تباح بحال، بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير، الذي يباح في حال دون حال، فإن المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال، ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت، قال الله تعالى في المحرم لذاته: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن {الأعراف: 33} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه، فقال: والإثم والبغي بغير الحق {الأعراف: 33} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه، فقال: وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا {الأعراف: 33} ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه، فقال: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {الأعراف: 33} فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما، فإنه يتضمن الكذب على الله، ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه، ولا أشد إثما، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.

والإمام ابن القيم يعتبر جنس القول على الله بلا علم أشد من جنس الشرك، لا أن أفراد القول على الله بلا علم، أكبر من كل أفراد الشرك، فيقول في مدارج السالكين: فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه, ولا أشد منه, ولا أشد إثمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم. اهـ

ففرق بين الأفراد، وبين الجنس، كما يقال: البدعة شر من المعصية، ولا يعني هذا أن صغائر البدع أكبر من الزنا وشرب الخمر، ولكن الجنس أكبر من الجنس، فالقول على الله بغير علم في بعض المواضع شرك، وفي بعضها أكبر من الشرك الأصغر، وفي بعضها أقل منه، وإنما يقال فيه إنه حرام وهكذا، لا أن كل قول على الله بغير علم شر من الشرك الأكبر وبهذا، يتبين الجواب عما ذكرته، فمن أفراد القول على الله بلا علم ما لا يصل لحد الشرك، وبالتالي، يدخل فيما دون ذلك مما هو في المشيئة، كالقول بأن الله شرع بدعة المولد، أو شرع صلاة الرغائب، ونحو ذلك، ومنه ما يدخل في الشرك ويزيد عليه، كالقول على الله بلا علم، ووصفه بالرذائل، كقول اليهود: إن الله فقير، أو أن الله بكى على الأرض بعد الطوفان، أو أن لله شريكا تُصرف له العبادة كما تصرف لله، فهذا من القول على الله بلا علم الذي هو أكبر من جنس الشرك، ويوجب عدم المغفرة.
*****************************************************************
قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ

الإسراف في المباحات

أ - الإسراف في الطّعام والشّراب‏:‏
 - الأكل والشّرب بقدر ما يندفع به الهلاك فرضٌ، وهو بقدر الشّبع مباحٌ، فإذا نوى بالشّبع ازدياد قوّة البدن على الطّاعة وأداء الواجبات فهو مندوبٌ، وما زاد على الشّبع فهو مكروهٌ أو محظورٌ، على الخلاف بين الفقهاء، إلاّ إذا قصد به التّقوّي على صوم الغد، أو لئلاّ يستحي الضّيف‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏‏.‏

فالإنسان مأمورٌ بأن يأكل ويشرب بحيث يتقوّى على أداء المطلوب، ولا يتعدّى إلى الحرام، ولا يكثر الإنفاق المستقبح، ولا يتناول مقداراً كثيراً يضرّه ولا يحتاج إليه، فإن تعدّى ذلك إلى ما يمنعه القيام بالواجب حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه، ولأنّه إضاعة المال وإمراض النّفس‏.‏ وقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنٍ، بحسب ابن آدم أكلاتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه»‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ من السّرف أن تأكل كلّ ما اشتهيت»‏.

وقد نقل القرطبيّ في الحضّ على تقليل الطّعام ما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه «قال لأبي جحيفة حينما أتاه يتجشّأ‏:‏ اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة، فإنّ أكثر النّاس شبعاً في الدّنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة»‏.‏ وهذا القدر ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يطلب تخفيف المعدة بتقليل الطّعام والشّراب على قدرٍ لا يترتّب عليه ضررٌ ولا كسلٌ عن عبادةٍ، فقد يكون للشّبع سبباً في عبادةٍ فيجب، وقد يترتّب عليه ترك واجبٍ فيحرم، أو ترك مستحبٍّ فيكره‏.‏ وقال الغزاليّ‏:‏ صرف المال إلى الأطعمة النّفيسة الّتي لا يليق بحاله تبذيرٌ‏.‏ فيكون سبباً للحجر كما سيأتي‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ إنّ هذا هو أحد القولين عند الشّافعيّة، والقول الثّاني عندهم أنّه لا يعتبر تبذيراً ما لم يصرف في محرّمٍ، فيعتبر عندئذٍ إسرافاً وتبذيراً إجماعاً‏.‏

وصرف الحنابلة أنّ أكل المتخوم، أو الأكل المفضي إلى تخمةٍ سببٌ لمرضه وإفساد بدنه، وهو تضييع المال في غير فائدةٍ‏.‏ وقالوا‏:‏ لا بأس بالشّبع، لكن يكره الإسراف، والإسراف في المباحات هو مجاوزة الحدّ، وهو من العدوان المحرّم‏.‏

ب - الإسراف في الملبس والزّينة‏:‏
- الإسراف في الملبس والزّينة  ممنوعٌ، لما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «البسوا ما لم يخالطه إسرافٌ أو مخيلةٌ»‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ يلبس بين الخسيس والنّفيس، إذ خير الأمور أوسطها، وللنّهي عن الشّهرتين، وهو ما كان في نهاية النّفاسة أو الخساسة‏.‏ ويندب لبس الثّوب الجميل للتّزيّن في الأعياد والجمع ومجامع النّاس، لحديث ابن مسعودٍ مرفوعاً‏:‏ «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه ذرّةٌ من كبرٍ، قال رجلٌ‏:‏ إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال‏:‏ إنّ اللّه جميلٌ يحبّ الجمال، الكبر بطر الحقّ وغمط النّاس»‏.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق