قال تعالي:
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
ومعنى هذه الآيات: أن هذه براءة من الله ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاهدين: أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم، آمنين من المؤمنين، وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم، ولا ميثاق.
وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدّر، أو مقدّر بأربعة أشهر فأقل، أما من كان له عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر، فقد أمر الله بأن الله يتم لهم عهدهم إلى المدة المتفق عليها، ما لم يخف منه خيانة، ولم يبدأ بنقض العهد.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "حَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَاهَدُوا رَسُولَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُمَا شَاءُوا، وَأَجَّلَ أَجَلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ، انسلاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى انْسِلَاخِ الْمُحَرَّمِ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ لَيْلَةً، فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فَيمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ".
وروى البخاري - واللفظ له -، ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ - أي التي أمَّر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج في السنة التاسعة قبل حجة الوداع بسنة - فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ، نُؤَذِّنُ بِمِنًى: (أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ).
قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ: (لاَ يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ).
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا: " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ "بَرَاءَةَ" فقرأها عَلَى النَّاسِ، يُؤَجِّلُ الْمُشْرِكِينَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، أجَّل الْمُشْرِكِينَ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمِ، وَصَفَرٍ، وَشَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعَشْرًا مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقَالَ: لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ ".
ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة، ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال: (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)، بل أنتم في قبضته، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) في الدنيا بالقتل والأسر، والجلاء، وفي الآخرة، بالنار، وبئس القرار.
ثم قال تعالى: ( إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ).
أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين، إلا الذين عاهدتم منهم واستمروا على عهدهم، ولم يجر منهم ما يوجب النقض، فلا نقصوكم شيئا، ولا عاونوا عليكم أحدا، فهؤلاء أتموا لهم عهدهم إلى مدتهم، قَلَّتْ، أو كثرت، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء.
فإذا انسلخ الأشهر الحرم التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين، وهي أشهر التسيير الأربعة، وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها، فقد برئت منهم الذمة:
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في أي مكان وزمان،
(وَخُذُوهُمْ) أسرى (وَاحْصُرُوهُمْ) أي: ضيقوا عليهم، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد الله وأرضه، فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها، لأن الأرض أرض الله، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله، المحاربون الذين يريدون أن يخلو الأرض من دينه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
(وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي: اقعدوا لهم على كل ثنية وموضع يمرون عليه، ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك، ولا تزالوا على هذا الأمر حتى يتوبوا من شركهم.
ولهذا قال: (فَإِنْ تَابُوا) من شركهم (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) أي: أدوها بحقوقها (وَآتُوا الزَّكَاةَ) لمستحقيها (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي: اتركوهم، وليكونوا مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر الشرك فما دونه، للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة، ثم قبولها منهم.
***************************************************************
قال تعالي :
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هذه الآية يطلق عليها العلماء " آية السيف.
قال ابن كثير رحمه الله.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هِيَ آيَةُ السَّيْفِ " انتهى من "تفسير ابن كثير (4/99).
ونزلت - في قول الجمهور - ناسخة لجميع الآيات التي فيها الصفح والكف عن المشركين، آمرة بقتالهم.
وقال بعض أهل العلم: ليست آية السيف ناسخة لتلك الآيات، ولكن الأحوال تختلف؛ فإذا قوي المسلمون وصارت لهم قوة استعملوا آية السيف، وما جاء في معناها، وقاتلوا جميع الكفار، وإذا ضعف المسلمون ولم يقووا على قتال الجميع: فلا بأس أن يقاتلوا بحسب قدرتهم، ويكفوا عمن كف عنهم، فيكون الأمر بحسب المصلحة والنظر في العواقب، وهذا القول هو الراجح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين، وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين، وبقتال المشركين كافة، وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمرهم بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية، وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي، يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه.
وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عهده خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة ؛ لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق، ينصرون الله ورسوله النصر التام.
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف: فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله، من الذين أوتوا الكتاب والمشركين .
وأما أهل القوة: فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون." انتهى من "الصارم المسلول 221".
أولا : الأشهر الحرم أربعة أشهر،
وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وقد أشار إليها القرآن الكريم وذلك في قول الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) التوبة/36.
وورى البخاري (3197) ومسلم (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خطب الناس يوم النحر في حجة الوداع، فكان مما قال: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ، شَهْرُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ).
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره (ص336):
(مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) وهي: رجب الفرد، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وسميت حرما لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها.
(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا، وأن اللّه تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تعمر بطاعته، ويشكر اللّه تعالى على مِنَّتِهِ بها، وتقييضها لمصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها.
ومن ذلك النهي عن القتال فيها، على قول من قال: إن القتال في الأشهر الحرام لم ينسخ تحريمه، عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها" انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله :
"قوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) على قول ابن عباس راجع إلى جميع الشهور.
وعلى قول بعضهم إلى الأشهر الحرم خاصة، لأنه إليها أقرب، ولها مزية في تعظيم الظلم، لقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)[ البقرة: 197 ] لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز على ما نبينه.
ثم قيل: في الظلم قولان: أحدهما: لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور.
الثاني: لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب" انتهى من "تفسير القرطبي: 8/134.
وقال الألوسي:
" والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيهن منسوخة، وأن الظلم مؤول بارتكاب المعاصي، وتخصيصها بالنهي عن ارتكاب ذلك فيها، مع أن الارتكاب منهي عنه مطلقا لتعظيمها، ولله سبحانه أن يميز بعض الأوقات على بعض، فارتكاب المعصية فيهن أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام" انتهى من "روح المعاني 10/91
ثانيا: القتال في الأشهر الحرم له حالان:
الأولى: أن يكون قتال دفع، بمعنى أن يبتدئ المعتدون القتال في الأشهر الحرم، فيجوز للمسلمين قتال هؤلاء المعتدين باتفاق العلماء.
قال ابن مفلح رحمه الله: " وَيَجُوزُ القتال في الشهر الحرام دفعا، إجماعا " انتهى من "الفروع" (10/ 47) . وانظر: "زاد المعاد 3/301.
الحال الثانية: أن يكون قتال ابتداء، بمعنى أن يبتدئ المسلمون القتال في الأشهر الحرم: فذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم بدء القتال في الأشهر الحرم: منسوخ .
وذهب آخرون إلى أنه غير منسوخ ؛ لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ) المائدة/ 2، ولما رواه أحمد (14583) عَنْ جَابِرٍ،
قَالَ: ( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى - أَوْ يُغْزَوْا - فَإِذَا حَضَرَ ذَاكَ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ) وصححه محققو المسند.
قال ابن كثير رحمه الله: "اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا -وَهُوَ الْأَشْهَرُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) وَأَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ أَمْرًا عَامًّا، فَلَوْ كان محرما فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلَاخِهَا؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ -وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ -كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: (أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ فِي شَوَّالَ، فَلَمَّا كَسَرَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهم، فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ -عَمد إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا) فَثَبَتَ أَنَّهُ حَاصَرَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ تَحْرِيمَ الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) وَقَالَ: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) الْآيَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَالتَّحْضِيضِ، أَيْ: كَمَا يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبِكُمْ إِذَا حَارَبُوكُمْ، فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ أَيْضًا لَهُمْ إِذَا حَارَبْتُمُوهُمْ، وَقَاتِلُوهُمْ بِنَظِيرِ مَا يَفْعَلُونَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ للمؤمنين بقتال الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا كَانَتِ الْبُدَاءَةُ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) الْآيَةَ.
وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حِصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ، وَاسْتِصْحَابِهِ الْحِصَارَ إِلَى أَنْ دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ، فَإِنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ قِتَالِ هَوَازِنَ وَأَحْلَافِهَا مِنْ ثَقِيفٍ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَءُوا الْقِتَالَ، وَجَمَعُوا الرِّجَالَ، وَدَعَوْا إِلَى الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ، فَعِنْدَها قَصَدَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا تَحَصَّنُوا بِالطَّائِفِ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ، فَنَالُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ بِالْمَجَانِيقِ وَغَيْرِهَا قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ، وَدَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ، فَاسْتَمَرَّ فِيهِ أَيَّامًا، ثُمَّ قَفَلَ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الدَّوَامِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا هُوَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ، وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ " انتهى من "تفسير ابن كثير 4/149.
قال ابن القيم رحمه الله: "وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ).
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ؛ فَهَاتَانِ آيَتَانِ مَدَنِيَّتَانِ بَيْنَهُمَا فِي النُّزُولِ نَحْوُ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ نَاسِخٌ لِحُكْمِهِمَا، وَلَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى نَسْخِهِ .
وَمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى نَسْخِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُمُومَاتِ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى النَّسْخِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أبا عامر، فِي سِرِّيَّةٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ تَمَامِ الْغَزْوَةِ الَّتِي بَدَأَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ بِالْقِتَالِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْتِدَاءً مِنْهُ لِقِتَالِهِمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ " انتهى من "زاد المعاد 3/301.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " اختلف العلماء هل حرمة القتال فيها باقية أو نسخت؟ على قولين: الجمهور على أنها نسخت وأن تحريم القتال فيها نسخ، وقول آخر: أنها باقية ولم تنسخ، وأن التحريم فيها باقي ولا يزال، وهذا القول أظهر من جهة الدليل " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز 18/433.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "القول الراجح من أقوال العلماء: أنه لا يجوز القتال فيها، إلا ما كان دفاعاً، أو كان قد انعقدت أسبابه من قبل، بمعنى: أنه لا يجوز أن نبدأ قتال الكفار في هذه الأشهر الحرم، إلا إذا كان دفاعاً، بمعنى أنهم هم الذين بدءونا في القتال، أو كان ذلك امتداداً لقتال سابق على هذه الأشهر " انتهى من "اللقاء الشهري" (27/ 3) بترقيم الشاملة.
ثانيا: على القول بنسخ القتال في الأشهر الحرم، فالمنسوخ هو القتال فقط، أما تعظيمها وتعظيم الذنوب فيها فهو باق، وقد ورد في حديث رواه أبو داود استحباب الصيام فيها، إلا أن إسناده ضعيف.
**********************************************************************
قال تعالي :
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6)
يتردد مصطلح الأمان كثيرا في أبواب الفقه وعلى ألسنة الفقهاء، والأمان في اللغة اسم من أمن، يأمن، أمنا، وهو: عدم توقع مكروه في الزمن الآتي، يقال: استأمنه، إذا طلب منه الأمان، واستأمن إليه، دخل في أمانه، والمأمن: موضع الأمن، والأمن بكسر الميم هو المستجير ليأمن على نفسه.
قال الراغب الأصفهاني: "أصل الأَمْن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأَمْنُ والأَمَانَةُ والأَمَانُ في الأصل مصادر، ويجعل الأمان تارة اسما للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسما لما يؤمن عليه الإنسان، نحو قوله تعالى: {وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ} [الأنفال/ 27] ،
أي: ما ائتمنتم عليه، وقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}[الأحزاب/ 72]
قيل: هي كلمة التوحيد، وقيل: العدالة ، وقيل: حروف التهجي، وقيل: العقل، وهو صحيح فإنّ العقل هو الذي بحصوله يتحصل معرفة التوحيد، وتجري العدالة وتعلم حروف التهجي، بل بحصوله تعلّم كل ما في طوق البشر تعلّمه، وفعل ما في طوقهم من الجميل فعله، وبه فضّل على كثير ممّن خلقه".
وفي الاصطلاح: رفع استباحة دم الحربي ورقه وماله حين قتاله، أو العزم عليه مع استقراره تحت حكم الإسلام مدة ما.
وعقد الأمان يكون من مسلم لكافر، ليكف بموجبه المسلم عن قتل هذا الكافر، أو استبعاده أو أسره، أو استحلال ماله، فإن زال هذا العقد حل للمسلم كل ذلك. والأصل فيه هو الإباحة، وقد يكون حراما أو مكروها إذا كان يؤدي إلى ضرر أو إخلال بواجب أو مندوب. وحكم الأمان هو ثبوت الأمن للكفرة عن القتل والسبي وغنم أموالهم، فيحرم على المسلمين قتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم واغتنام أموالهم.
قال ابن قدامة رحمه الله: "ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله، ويعرف شرائع الإسلام وجب أن يعطاه، ثم يرد إلى مأمنه.
لا نعلم في هذا خلافا وكتب عمر بن عبد العزيز بذلك إلى الناس؛ وذلك لقول الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [التوبة: 6] .
قال الأوزاعي: هي إلى يوم القيامة. ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمن رسل المشركين. ولما جاءه رسولا مسيلمة، قال: «لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما»؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإننا لو قتلنا رسلهم، لقتلوا رسلنا، فتفوت مصلحة المراسلة.
ويجوز عقد الأمان لكل واحد منهما مطلقا ومقيدا بمدة، سواء كانت طويلة أو قصيرة.
إذا طلب الأمان أي فرد من الاعداء المحاربين قبل منه، وصار بذلك آمنا، لا يجوز الاعتداء عليه بأي وجه من الوجوه.
من له هذا الحق؟
وهذا الحق ثابت للرجال والنساء، والأحرار والعبيد، فمن حق أي فرد من هؤلاء أن يؤمن أي فرد من الاعداء يطلب الأمان، ولا يمنع من هذا الحق أحد من المسلمين إلا الصبيان والمجانين، فإذا أمن صبي أو مجنون أحدا من الأعداء فإنه لا يصح أمان واحد منهما.
روى أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، عن علي كرم الله وجهه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم".
وروى البخاري، وأبو داود والترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله. زعم ابن أم علي أنه قاتل رجلا قد أجرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"
نتيجة الأمان:
ومهما تقرر الأمان بالعبارة أو الاشارة، فإنه لا يجوز الاعتداء على المؤمن، لأنه بإعطاء الأمان له عصم نفسه من أن تزهق ورقبته من أن تسترق.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه بلغه أن بعض المجاهدين قال لمحارب من الفرس: لا تخف، ثم قتله فكتب رضي الله عنه إلى قائد الجيش: إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج.
حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، يقول له: لا تخف فإذا أدركه قتله! وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا قطعت عنقه.
وروى البخاري في التاريخ، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من أمن رجلا على دمه فقتله، فأنا برئ من القاتل وإن كان المقتول كافرا» وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة".
متى يتقرر هذا الحق:
ويتقرر حق الأمان بمجرد إعطائه، ويعتبر نافذا من وقت صدوره إلا أنه لا يقر نهائيا إلا بإقرار الحاكم، أو قائد الجيش.
وإذا تقرر الأمان، وأقر من الحاكم أو الجيش، صار المؤمن من أهل الذمة، وأصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.
ولا يجوز إلغاء أمانه إلا إذا ثبت أنه أراد أن يستغل هذا الحق في إيقاع الضرر بالمسلمين، كأن يكون جاسوسا لقومه، وعينا على المسلمين.
عقد الأمان لجهة ما:
إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا أمن واحدا أو اثنين فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم فلا يصح إلا من الإمام على سبيل الاجتهاد، وتحري المصلحة كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لأحاد الناس صار ذريعة إلى إبطال الجهاد الرسول حكمه حكم المؤمن والرسول مثل المؤمن، سواء أكان يحمل الرسائل أو يمشي بين الفريقين المتقاتلين بالصلخ، أو يحاول وقف القتال لفترة يتيسر فيها نقل الجرحى والقتلى.
يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة: «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما. أخرجه أحمد، وأبود داود من حديث نعيم بن مسعود.
وأوفدت قريش أبا رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع الايمان في قلبه، فقال: يا رسول الله لا أرجع إليهم، وأبقى معكم مسلما.
فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد فارجع إليهم آمنا، فإن وجدت بعد ذلك في قلبك ما فيه الان، فارجع إلينا".
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن حبان وصححه.
وفي كتاب الخراج لابي يوسف والسير الكبير لمحمد: أنه إن اشترط للرسول شروط وجب على المسلمين أن يوفوا بها، ولا يصح لهم أن يغدروا برسل العدو، حتى ولو قتل الكفار رهائن المسلمين عندهم، فلا نقتل رسلهم لقول نبينا: «وفاء بغدر خير من غدر بغدر".
أحكام المستأمن:
المستأمن هو الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان دون نية الاستيطان بها والإقامة فيها بصفة مستمرة، بل يكون قصده إقامة مدة معلومة، لا تزيد على سنة، فإن تجاوزها، وقصد الإقامة بصفة دائمة، فإنه يتحول إلى ذمي ويكون له حكم الذمي في تبعيته للدولة الإسلامية، ويتبع المستأمن في الأمان، ويلحق به زوجته وأبناؤه الذكور القاصرون، والبنات جميعا، والأم، والجدات، والخدم، ماداموا عائشين مع الحربي الذي أعطي الأمان.
وأصل هذا قول الله سبحانه وتعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنة}.
حقوقه.
وإذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان، كان له حق المحافظة على نفسه وماله وسائر حقوقه ومصالحه، مادام مستمسكا بعقد الأمان، ولم ينحرف عنه.
ولا يحل تقييد حريته، ولا القبض عليه مطلقا، سواء قصد به الاسر، أو قصد به الاعتقال، لمجرد أنهم رعايا الاعداء أو لمجرد قيام حالة الحرب بيننا وبينهم.
قال السرخسي: أموالهم صارت مضمونة بحكم الأمان، فلا يمكن أخذها بحكم الاباحة.
وحتى إذا عاد إلى دار الحرب فإنه يبطل الأمان بالنسبة لنفسه، ويبقى بالنسبة لماله.
قال في المغني: إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان، فأودع ماله مسلما أو ذميا، أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، نظرنا، فإن دخل تاجرا، أو رسولا، أو متنزها، أو لحاجة يقضيها، ثم يعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه في نفسه، وماله، لأنه لم يخرج بذلك عن نية الإقامة في دار الإسلام، فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل دار الحرب مستوطنا، بطل الأمان في نفسه، وبقي في ماله، لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان، ثبت الأمان لماله، فإذا بطل الأمان في نفسه بدخوله دار الحرب، بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه، فيختص البطلان فيه.
الواجب عليه:
وعليه المحافظة على الأمن والنظام العام، وعدم الخروج عليهما، بأن يكون عينا، أو جاسوسا، فإن تجسس على المسلمين لحساب الاعداء حل قتله إذ ذاك.
تطبيق حكم الإسلام عليه:
تطبق على المستأمن القوانين الإسلامية بالنسبة للمعاملات المالية، فيعقد عقد البيع وغيره من العقود حسب النظام الإسلامي، ويمنع من التعامل بالربا، لأن ذلك محرم في الإسلام.
وأما بالنسبة للعقوبات، فإنه يعاقب بمقتضى الشريعة الإسلامية إذا اعتدى على حق مسلم.
وكذلك إذا كان الاعتداء على ذمي، أو مستأمن مثله لأن إنصاف المظلوم من الظالم وإقامة العدل من الواجبات التي لا يحل التساهل فيها.
وإذا كان الاعتداء على حق من حقوق الله مثل اقتراف جريمة الزنا فإنه يعاقب كما يعاقب المسلم، لأن هذه جريمة من الجرائم التي تفسد المجتمع الإسلامي.
مصادرة ماله:
ومال المستأمن لا يصادر إلا إذا حارب المسلمين، فأسر واسترق وصار عبدا، فإنه في هذه الحال تزول عنه ملكية ماله، لأنه صار غير أهل للملكية. ولا يستحق الورثة، ولو كانوا في دار الإسلام شيئا، لأن استحقاقهم يكون بالخلافة عنه، وهي لا تكون إلا بعد موته، وهو لم يمت، وماله في هذه الحال يؤول إلى بيت مال المسلمين، على أنه من الغنائم.
وإذا كان له دين على بعض المسلمين أو الذميين، يسقط عن المدين لعدم وجود من يطالب به.
ميراثه: إذا مات المستأمن في دار الإسلام، أو في دار الحرب فإن ملكيته لماله لا تذهب عنه، وتنتقل إلى ورثته عند الجمهور، خلافا للشافعي.
وعلى الدولة الإسلامية أن تنقل ماله إلى ورثته، وترسله إليهم، فإن لم يكن له ورثة، كان ذلك المال فيئا للمسلمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق