السبت، 5 أغسطس 2017

⟽⟽⟽ الجزء الأول - الربع السادس - الأحكام الفقهية



التداوي بالسحر والعرافة


إن السحر قديم الوجود في الحياة البشرية، ولا يكاد يخلو عصر ولا مكان منه إلا من رحم الله، وبصمات السحرة في الإفساد والإيذاء ظاهرة جلية، 
قال تعالى (كذلِك ما أتى الّذِين مِن قبْلِهِمْ مِن رّسُولٍ إِلّا قالُوا ساحِرٌ أوْ مجْنُونٌ )، وهذا يدل على أن كل الأمم السابقة قد عايشت السحر وعرفته

ومن أقدم الأمم التي فشا فيها السحرُ وذاع (أهل بابل)، وهي مدينة عراقية أهلها الكلدانيون من النبط والسريانيون، وهم قوم صابئون يعبدون الكواكب السبعة، ويسمونها آلهة، ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا لها أوثانًا على أسمائها، ولكل واحد منهم هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وكانت علومهم في النجوم، ويستعملون سائر وجوه السحر، وينسبونها إلى فعل الكواكب؛ لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم
وظل السحر سمة فارقة ومميزة لأهل بابل في العراق على مر العصور، قال كعب الأحبار لعمر بن الخطاب لما أراد أن يخرج للعراق: لا تخْرُجْ إِليْها يا أمِير المُؤْمِنِين؛ فإِن بِها تِسْعة أعْشارٍ السِّحْرِ، وبِها فسقةُ الجِنِّ، وبِها الداءُ العُضالُ. رواه الإمام مالك

ثم بعد قصة هاروت وماروت جاء عصر أول الرسل نوح عليه السلام؛
 قال ابن حجر: "وقصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره"،
 ويدل عموم قوله تعالى: { كذلِك ما أتى الّذِين مِنْ قبْلِهِمْ مِنْ رسُولٍ إِلّا قالُوا ساحِرٌ أوْ مجْنُونٌ } أن كل الأقوام زعموا أن نبيهم الذي جاءهم ساحر، ولا شك أن قوم نوح قالوا هذه المقالة وواجهوا بها نبي الله نوحًا عليه السلام، وهذا يدل على وجود السحر في عصرهم، قال تعالى
 { إِنْ هُو إِلّا رجُلٌ بِهِ جِنّةٌ فتربّصُوا بِهِ حتّى حِينٍ}.

وقوم فرعون وهم القبط، قد ذكرهم الله في كتابه وأرسل إليهم موسى وهارون عليهما السلام وكان السحر من أعمال القبط، وقد جاءهم موسى وهارون بما يناسب ذلك من آيات بينات

واليهود بلغ فيهم الأمر إلى ترك الشرعة المنزلة واتباع السحر؛ قال الله فيهم في سورة البقرة: { ولمّآ جآءهُمْ رسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصدِّقٌ لِما معهُمْ نبذ فرِيقٌ مِّن الّذِين أُوتُواْ الْكِتاب كِتاب اللّهِ ورآء ظُهُورِهِمْ كأنّهُمْ لا يعْلمُون واتّبعُواْ ما تتْلُواْ الشّياطِينُ على مُلْكِ سُليْمان }، بل إن اليهود وكما ذكر القرآن نسبت السحر إلى نبي الله سليمان عليه السلام، وتنكر أن يكون سليمان نبيا مرسلا، بل يزعمون أنه ساحر انقادت له الجن والإنس والطير والريح بأخذه للسحر، فنزلت تبرئته من هذه الفرية في القرآن الكريم؛ قال تعالى: { وما كفر سُليْمانُ ولكِنّ الشّياطِين كفرُوا يُعلِّمُون النّاس السِّحْر

تعربف السحرُ 
لغةً: الأُخْذةُ، وكلُّ ما لطُف مأْخذُه ودقّ فهو سِحْرٌ، والـجمع أسحار وسُحُورٌ، وأصل السِّحْر: صرْفُ الشيء عن حقـيقته إِلـى غيره، فكأنّ الساحر لـما أرى الباطل فـي صورة الـحق وخيّل الشيء علـى غير حقـيقته قد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه، وقال الفراء فـي قوله تعالـى:(فأنّى تُسْحرُون) ، معناه فأنّى تُصْرفون؛ 
وقال يونس: تقول العرب للرجل: ما سحرك عن وجه كذا وكذا؟ أي ما صرفك عنه؟

واصطلاحًا:
اختلفت تعريفات السحر اصطلاحًا بناء على اختلاف العلماء فيه من حيث: هل هو حقيقة لها تأثير؟ أو أنه مجرد خيالات لا حقيقة لها؟ فتباينت التعريفات وافترقت بناء على هذا الخلاف
عرفه ابن قدامة بما هو حقيقة فقال: هو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة؛ فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يحبب بين اثنين.
فقصر السحر على ذكر نوع منه.
وعرفه الرازي بما هو تخييل فقال: "اعلم أن لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر خفي سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخدع؛
 قال تعالى: (سحروا أعين الناس)".

وعرفه أحد العلماء المعاصرين تعريفًا جمع فيه القسمين فقال: "هو عبارة عن أمور دقيقة موغلة في الخفاء، يمكن اكتسابها بالتعلم، تشبه الخارق للعادة وليس فيها تحد، أو تجري مجرى التمويه والخداع تصدر من نفس شريرة تؤثر في عالم العناصر بغير مباشرة أو بمباشرة".
والصواب أن السحر يشمل الأمرين معًا؛ فمنه ما هو حقيقة وله تأثير حسي على الأبدان والمحسوسات، ومنه ما هو تخييل.
************************************************************
الفرع الأول: حكم تعلم السحر


والسحر أيا كان سبب تعاطيه فهو حرام لا خلاف بين أهل العلم في ذلك، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات.
يقول النووي: "علم السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرًا، ومنه ما لا يكون كفرًا، بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر، وإلا فلا".

قال ابن المنذر: وإذا أقرّ الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرًا وجب قتله إن لم يتُب، وكذلك لو ثبتت به عليه بيّنة ووصفت البينة كلامًا يكون كفرًا. وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتُصّ منه إن كان عمد ذلك؛ وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دِية ذلك

ومنه ما يكون كفرا ومخرجا لفاعله عن ملة الإسلام، وهو الذي يكون بالاستعانة بشياطين الجن، والتقرب إليهم بأنواع العبادات والطاعات، والانقياد لمطالبهم الشركية، والتي هي من لوازم إعانتهم له في تنفيذ شروره، ومكائده.
وهذا القسم قد اتفق العلماء على كفر فاعله وعلى وجوب قتله لصحة الآثار المنقولة عن الصحابة في ذلك كقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): اقتلوا كل ساحر، وكما صح عن أم المؤمنين حفصة (رضي الله عنها) أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فاعترفت فقتلت
وكما ثبت عن جندب الخير رضي الله عنه أنه قتل ساحرا كان يلعب بين يدي الوليد بن عقبة وقرأ: {أفتأْتُون السِّحْر وأنْتُمْ تُبْصِرُون}.

والأدلة على ذلك من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والإجماع:

أما الأدلة من القرآن الكريم 
فقوله تعالى: { ولوْ أنّهُمْ آمنُوا واتّقوْا لمثُوبةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خيْرٌ لوْ كانُوا يعْلمُون }.

وجه الدلالة: أن الآية تدل على نفي الإيمان عن السحرة، قال ابن كثير: وقد استدل بقوله: { ولوْ أنّهُمْ آمنُوا واتّقوْا } من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف، وقال تعالى: { ولقدْ علِمُوا لمنِ اشْتراهُ ما لهُ فِي الْآخِرةِ مِنْ خلاقٍ }، أي من استبدل بدينه السحر فماله من نصيب، قال الحسن: ليس له دين، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من تعلم شيئًا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله}.

.ومنه قول الله تعالى: { ولا يُفْلِحُ السّاحِرُ حيْثُ أتى }.

 وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى نفى الفلاح عن الساحر نفيًا عامًا حيث توجه وسلك، وذلك دليل كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفيًا عامًا إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ذلك أنه قد عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظه "لا يفلح" يراد بها الكافر؛ كقوله تعالى: { قُلْ إِنّ الّذِين يفْترُون على اللّهِ الْكذِب لا يُفْلِحُون متاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمّ إِليْنا مرْجِعُهُمْ ثُمّ نُذِيقُهُمُ الْعذاب الشّدِيد بِما كانُوا يكْفُرُون }.

وأيضا ما يدل على تحريم السحر في القرآن أن الله تعالى سماه الله، فقال تعالى:
ولٰكِنّ الشّياطِين كفرُوا يُعلِّمُون النّاس السِّحْر وما أُنزِل على الْملكيْنِ بِبابِل هارُوت ومارُوت ۚ وما يُعلِّمانِ مِنْ أحدٍ حتّىٰ يقُولا إِنّما نحْنُ فِتْنةٌ فلا تكْفُرْ ۖ} .

قال ابن كثير:
 "قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن قيس بن عباد، عن ابن عباس، قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر".

وجاء في مفاتيح الغيب "......قوله: { ولكن الشياطين كفرُواْ يُعلّمُون الناس السحر } يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل .

 الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى،

 الرابع: أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام: { ما جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنّ الله سيُبْطِلُهُ }".

وجاء في معارج القبول: " فبين تعالى أنه بمجرد تعلمه يكفر سواء عمل به وعلمه أو لا ".

وأما الأدلة من السنة النبوية المطهرة وأقتصر على بعضها:
فمنها ما رواه الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: {منْ عقد عُقْدةً ثُمّ نفث فِيها فقدْ سحر، ومنْ سحر فقدْ أشْرك، ومنْ تعلّق شيْئًا وُكِل إليْهِ }.
ومنها أيضا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم

ففي هذه الأحاديث الشريفة النهي عن إتيان العرافين والكهنة والسحرة وأمثالهم وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك، كما أن في هذه الأحاديث دليلاً على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصدهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه، والمصدق لهم في دعواهم على الغيب يكون مثلهم، وكل من تلقى هذه الأمور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمونه علاجاً كنمنمتهم بالطلاسم، أو صب الرصاص، ونحو ذلك من الخرافات التي يعملونها، فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم، كما لا يجوز أيضا لأحد من المسلمين أن يذهب إليهم ليسألهم عمن سيتزوج ابنه أو قريبه، أو عما يكون بين الزوجين وأسرتيهما من المحبة والوفاء، أو العداوة والفراق ونحو ذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
************************************************************

الفرع الثاني: فك السحر بالسحر

اختلف الفقهاء في مسألة فك السحر عن المسحور بالسحر على قولين:
والراجح منهما أنه لا يجوز فك السحر بالسحر، وهو قول عامة أهل العلم كما نقله عنهم الحافظ ابن حجر، و ابن تيمية، وابن أبي العز الحنفي وغيرهم.
واستدلوا على ذلك بأدلة من القرآن والسنة

أما الأدلة من القرآن:
فقول الله تعالى: { ويتعلّمُون ما يضُرُّهُمْ ولا ينفعُهُمْ ولقدْ علِمُوا لمنِ اشْتراهُ ما لهُ فِي الْآخِرةِ مِنْ خلاقٍ }.
وجه الاستدلال: هو عموم التحريم في النص الكريم، وهي عامة في حال التداوي، أو النشرة، أو قصد الأذية، ومن فرق بينها فقد فرق بين ما جمع الله بينه وخص العموم، وهذا لا يجوز بدون مسوغ، والقاعدة عند العلماء أن ما حرم فعله حرم طلبه.
وقد كانوا يعتقدون أن السحر نفع لما يتعجلون به من بلوغ الغرض، وحقيقته مضرة؛ لما فيه من عظيم سوء العاقبة، وحقيقة الضرر عند أهل السنة: كل ألم لا نفع يوازيه، وحقيقة النفع: كل لذة لا يعقبها عقاب ولا تلحق فيه ندامة، والضرر وعدم المنفعة في السحر متحققة .
 ومنها قول الله تعالى: { ولبِئْس ما شروْا بِهِ أنْفُسهُمْ لوْ كانُوا يعْلمُون }.
 وقال تعالى: { يأْمُرُهُمْ بِالْمعْرُوفِ وينْهاهُمْ عنْ الْمُنكرِ ويُحِلُّ لهُمْ الطّيِّباتِ ويُحرِّمُ عليْهِمْ الْخبائِث }.
وجه الاستدلال قوله: {ويحرم عليهم الخبائث}، والسحر لما يحويه من الكفر هو أولى بالتحريم، وهو أعلى درجات الخبائث لما فيه من الكفر والشرك.

وأما استدلالاهم من السنة المطهرة:
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله ما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنـات}.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: {من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا يؤمن بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}.
ووجه كون تصديقهم بما يقولون كفرا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، أن الله تعالى أخبر في كتابه بأنه لا يعلم الغيب إلا هو سبحانه، كما في قوله: {قُلْ لا يعْلمُ منْ فِي السّماواتِ والْأرْضِ الْغيْب إِلّا اللّهُ}، وقوله: {وعِنْدهُ مفاتِحُ الْغيْبِ لا يعْلمُها إِلّا هُو}.
فمن أتى هؤلاء وصدقهم بما يقولونه ويدعونه من علم الغيب، صار مكذبا بما جاء في القرآن العظيم من أن الله تعالى هو المتفرد بعلم الغيب وحده، وبه يكون كافرا بالقرآن، خارجا عن ملة الإسلام

قال شيخ الإسلام ابن تيمية" "والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال؛ لأن ذلك محرم في كل حال، وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه، فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه، ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر".

ومما قاله أيضا:
 " وأما الاستعانة عليهم – أي الجن – بما يقال ويكتب، مما لا يعرف معناه، فلا يشرع، لا سيما إن كان فيه شرك، فإن ذلك محرم، وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك . وقد يقرأون مع ذلك شيئاً من القرآن ويظهرونه، ويكتمون ما يقولونه من الشرك، وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله .

 والمسلمون، وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات، كالميتة والخنزير، فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال، لأن ذلك محرم في كل حال ... ".
ويمكن أن يستدل لهم  كذلك بما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: {نهى عن الدواء الخبيث}
،وقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم}.

فهذه النصوص ونحوها صريحة في تحريم فك السحر بالسحر أو جعل السحر علاجا، وتدل على أن متعاطيها يعد متعديا لحدود ما شرعه الله له من التداوي بالأدوية المشروعة والمباحة.

وأيضا: عملا بالقاعدة الفقهية "إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر". ونصوص الكتاب والسنة حرمت السحر، وحرمت إتيان السحرة والكهان، وسؤالهم وتصديقهم، ووصفتهم كما وصفت من صدقهم بالكفر، وهو وإن لم يكن مخرجاً من الملة، فإنه يدل على التشديد والتغليظ في النهي، وأنه من الكبائر، كما هو ظاهر.

ولو فرض أن من أباح النشرة بالسحر معه أدلة شرعية، فنقول غاية ما هنالك تعارض دليل إباحة مع دليل حظر فقدم الحظر على الإباحة.

وأيضا:
إن السحر يحوي شيئا من أنواع الشرك، أو عملا شيطانيا، أو طلاسم وخزعبلات مجهولة، أو غير ذلك من الطرق والأفعال والأقوال المحظورة، فإن كانت كذلك، فهي داخلة في عموم ما نهى الشرع ومنع من التداوي به وبغيره من المحرمات، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {ولا تداووا بحرام}.

وكذلك: عملا بالقاعدة الفقهية "درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة"
ومعلوم قطعاً، فالمفسدة في تعلم السحر أعظم من المصلحة المظنون تحققها، وفي إباحة النشرة بالسحر من المفاسد العظيمة في الدين والدنيا الكثير والكثير، منها: تسلط الشياطين والفسدة من الخلق على المؤمنين، ومنها تكثير سواد السحرة المفسدين، ومنها تعطيل لإقامة الحدود على السحرة، إلى غير ذلك من المفاسد الظاهرة المتحققة.

وأما المصلحة المرجوة من ذلك فهي غير متحققة، بل هي أوهام عند التحقيق؛ وغالبا ما يكون المريض غير مسحورٍ، فيوهمه الساحر بأنه مسحور لينال منه أكبر قدر من المنافع الدنيوية.

وربما كان الساحر هو الذي قام بسحر ذلك المسحور أو أعان على ذلك، فيحتال عليــه بأنواع الحيل، كما هو معلوم، فيظل المسحور رهينة في يد الساحر، يوجهه حيث شاء
ومما يؤكد هذا كلام ابن القيم رحمه الله عن النهي عن التداوي بالحرام، فقال، بعد أن سرد الأحاديث في ذلك " المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلاً و شرعاً , أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث و غيرها , وأما العقل , فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه , فإنه لم يحرِّم على هذه الأمة طيباً عقوبة لها , كما حرمه على بني إسرائيل بقوله: { فبِظُلْمٍ مِّن الّذِين هادُوا حرّمْنا عليْهِمْ طيِّباتٍ أُحِلّتْ لهُمْ }، وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه , وتحريمه له حمية لهم , وصيانة عن تناوله , فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام و العلل , فإنه و إن أثـّر في إزالتها, لكنه يُعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه , فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب.

وأيضاً: فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق, وفي اتخاذه دواءً حض على الترغيب فيه وملابسته , وهذا ضد مقصود الشارع, وأيضاً, فإنه داء, كما نص عليه صاحب الشريعة, فلا يجوز أن يتخذ دواء.
وأيضاً, فإنه يكسب الطبيعة و الروح صفة الخبث؛ لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالاً بيناً ..."
وبهذا كله يتبين لنا أن القول الصحيح في هذه المسألة هو القول الأول الذي يرى أن إتيان السحرة وسؤالهم حل السحر عن المسحور، أو التداوي بأدويتهم ونشرهم، حرام لا يجوز، وأنه من كبائر الذنوب

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا }
كانت اليهود تأتي النبي صلى الله عليه وسلم فتقول : يا أبا القاسم ، راعنا ، توهم أنها تريد الدعاء ، من المراعاة ، وهي تقصد به فاعلا من الرعونة .

وروي أن المسلمين كانوا يقولون : راعنا ، من الرعي ، فسمعتهم اليهود ، فقالوا : يا راعنا كما تقدم ، فنهى الله تعالى المسلمين عن ذلك ، لئلا يقتدي بهم اليهود في اللفظ ويقصدوا المعنى الفاسد منه .
وهذا دليل على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعرض للتنقيص والغض ، ويخرج منه فهم التعريض بالقذف وغيره .

وقال المالكية: بأنه ملزم للحد ، خلافا للشافعي  وأبي حنيفة  حيث قالا : إنه قول محتمل للقذف وغيره ، والحد مما يسقط بالشبهة .

ودليل المالكية أنه قول يفهم منه القذف ، فوجب فيه الحد كالتصريح .
وقد يكون في بعض المواضع أبلغ من التصريح في الدلالة على المراد ، وإنكار ذلك عناد ، وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق