الجمعة، 4 أغسطس 2017

⟽⟽⟽ الجزء الأول - الربع الثالث - الأحكام الفقهية


وردت بعض النصوص الشرعية التي قد يُفهم منها أن من شروط من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مؤتمراً به ومنتهياً عنه ، ومن ذلك :
1) قول الله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
2) وقوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ  .
3) ما ورد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ :
أَيْ فُلاَنُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟
قَالَ:
كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ) رواه البخاري (3267) ، ومسلم (2989).

4) وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ.
فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟
قَالَ:
هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) رواه الإمام أحمد (13515)  وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (291).
فهذه النصوص الشرعية قد يفهم بعض الناس منها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يكن الآمر والناهي على قدرٍ من الاستقامة والطاعة أو ملتزماً بما يأمر به وينهى عنه على الأقل
والجواب عن ذلك :
أن المقصود من هذه النصوص ذم من يترك فعل المعروف الذي يأمر به ، وذم من يرتكب المنكر الذي ينهى عنه ، وليس فيها ذمه على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر
فهي ذمٌ له على تركه فعلَ ما يأمر به ، لا على أمره بما لا يفعله ، وفرق ظاهر بين الأمرين!

قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)  : " اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّوْبِيخَ فِي الْآيَةِ بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ الْبِرِّ ، لَا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ " انتهى من "تفسير القرطبي" (1/366) .
وقال الحافظ ابن كثير : " وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ ، حَيْثُ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ : ذَمُّهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْبِرِّ مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ ، بَلْ عَلَى تَرْكِهِمْ لَهُ .

فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفٌ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ وَالْأَوْلَى بِالْعَالِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ أَمْرِهِمْ بِهِ ، وَلَا يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ ، كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

فَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَفِعْلِهِ : وَاجِبٌ ، لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِتَرْكِ الْآخَرِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعَاصِي لَا يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهَا ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ تَمَسُّكُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَالِمَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنِ ارْتَكَبَهُ .
قَالَ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ : سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ لَهُ : لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ ، مَا أَمَرَ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ
قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ ، مَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؟

قُلْتُ :
وَلَكِنَّهُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مَذْمُومٌ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِهِ الْمَعْصِيَةَ ، لِعِلْمِهِ بِهَا وَمُخَالَفَتِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ ؛ وَلِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ" انتهى من "تفسير القرآن العظيم" (1/248).
وقال أبو بكر ابن العربي : " إنَّمَا وَقَعَ الذَّمُّ هَاهُنَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ ، لَا عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ" انتهى من "أحكام القرآن" (1/349) .
وقال الشيخ خالد السبت
وقع الذم في تلك النصوص والوعيد على ارتكاب ما نَهى عنه الناهي عن المنكر ، ولم يقع الذم على نفس النهي عن المنكر ، بل هذا يُحمد ولا يذم ، فهو طاعة لله عز وجل وقربة ، ولا شك أن وقوع المنكر ممن ينهى عنه أقبح من وقوعه ممن لا يعلم أنه منكر أو علم ولم يدع إلى تركه ، وهذا لا يعني إعفاءه من الأمر والنهي ". انتهى من " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه " (ص 165).
والحاصل :
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الإسلام الظاهرة ، وهي لا تسقط عن الإنسان بسبب تقصيره وإخلاله ببعض الواجبات وارتكابه بعض الذنوب .

ولا شك أن أنفع الناس في أمره ونهيه وأحسنهم في دعوته : من كان ممتثلاً ما يأمر به ، مجتنباً ما ينهى عنه كما هي حال المرسلين ، قال شعيب عليه السلام :
(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).

وفي هذا يقول أبو الأسود الدؤلي :
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
والله أعلم
****************************************************
من خلال قول الله تعالى  ( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) يتسنى لنا هل شرع من قبلنا شرع لنا 
  قال شيخ الإسلام رحمه الله : فصل في توحد الملة و تعدد الشرائع و تنوعها 
أما الشرائع فإنها تختلف ، فكل نبي إنما تعبده الله بشريعة خاصة به

و هنا  يأتي السؤال : هل شرع من قبلنا شرع لنا أو لا ؟
الجواب : شر ع من قبلنا على أنواع و لكل نوع حكم خاص به من جهة الحجية و عدمها

النوع الأول :ما ثبت أنه شرع لمن كان قبلنا و جاء في الكتاب و السنة أنه شرع لنا فهذا شرع لنا بالإجماع
 و ذلك كقوله تعالى (  يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)  فالصيام شرع لمن كان قبلنا و هو شرع لنا كذلك و كالقصاص في قوله تعالى (و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ...و بين سبحانه أنه شرع لنا بقوله (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى و بالأنثى)

النوع الثاني :ما ثبت أنه شرع لمن كان قبلنا و جاء في الكتاب و السنة ما يدل على نسخه فهذا ليس شرعا لنا بالإجماع
كقوله تعالى في تحية أهل يوسف عليه السلام ( و خروا له سجدا ) فهذا منسوخ في بدليل قوله ( ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد ، و لو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد |لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما عظم الله عليها من حقه).
 و كذلك ما كان من التشديد على من كان قبلنا ، فقد وضعه الله على هذه الأمة تخفيفا و رحمة ، فقد إستجاب الله قول المؤمنين
(ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) ووصف الله النبي بقوله  (و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت
 عليهم)

النوع الثالث : أحكام لم يرد لها ذكر في الكتاب و لا في السنة كالأحكام المأخوذة من الإسرائيليات فهذا ليس شرعا لنا بالإجماع كما في حديث أبي هريرة  
 كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية و يفسرونها بالعربية لأهل الإسلام  فقال  لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم
 و قولوا
{ آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل إليكم } و قال إبن عباس  كيف تسألون أهل الكتاب عن شيئ و كتابكم الذي أنزل على رسول الله  أحدث ، تقرأونه لم يشب ، و قد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله و غيروه و كتبوا بأيديهم الكتاب و قالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا و الله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم

النوع الرابع : أحكام جاءت في نصوص الكتاب و السنة و لم يأت دليل على إعتبار هذا الحكم شرعا لنا أو ليس شرعا لنا 
فهذا هو محل النزاع و موضع الخلاف بين العلماء ، هل يعد من أدلة التشريع أو لا ؟ 
و إختلفوا في ذلك على قولين مشهورين 
القول الأول : أنه شرع لنا من حيث إنه وارد في كتابنا و سنة نينا  لا من حيث إنه كان شرعا لمن كان قبلنا و هو مذهب الحنفية و المالكية و بعض الشافعية و الأصح عن الإمام أحمد 
القول الثاني :أنه ليس شرعا لنا إلا بنص يدل على أنه مشروع لنا و هو قول أكثر الشافعية و رواية عن الإمام أحمد و إليه ذهب الأشاعرة و المعتزلة

و الراجح في المسألة و الله أعلم هو القول الأول للأدلة التالية
الدليل الأول
:قوله تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)  و هذا أمر للنبي
وهو أمر لأمته ما لم يدل دليل على الخصوصية و الهدى يعمالأمور العلمية و الأمور العملية لما ثبت عن مجاهد أنه سأل إبن عباس  من أين أخذت سجدة ص فقال : أوما تقرأ ( ومن ذريته داود و سليمان) ... إلى قوله (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) ...فكان داود ممن أمر نبيكم  أن يقتدي به ، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله 

الدليل الثاني :أن النبي  قضى في قصة الربيع بالقصاص في السن و قال  كتاب الله القصاص  و ليس في كتاب الله نعالى السن بالسن إلا ما حكى عن التوراة في قوله تعالى و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص

الدليل الثالث : أن النبي صلى الله عليه و سلم إحتج بشرع من قبلنا فقد روى البخاري و مسلم و اللفظ له عن أنس إبن مالك قال ، قال رسول الله  إذا رقد أحدكم عن الصلاة ، أو غفل عنها ، فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول { و أقم الصلاة لذكري } فهذا قول الله شريعة لموسى 
الدليل الرابع : أن القرآن إذا قص علينا حكما شرعيا سابقا بدون نص على نسخه أفاد ضمنا أنه تشريع لنا 
ومن العماء من ذهب إلى أن الخلاف في المسألة لفظي فقط ، لأن القائلين بشرع من قبلنا لا يعتبرونه دليلا مستقلا و إنما هو راجع إلى الكتاب و السنة إذا ذكر فيهما من غير إنكار ، و من لا يرى حجيته يعمل به لوروده في الكتاب و السنة لا أنه تشريع لنا 
والله أعلم و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق