السبت، 21 أكتوبر 2017

الجزء الرابع - الربع الأول - الأحكام الفقهية


فضل البيت الحرام:

1- قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [96] فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [97]} [آل عمران:96- 97].

2- وقال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [97]} [المائدة:97].

3- وقال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [144]} [البقرة:144].

4- وقال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [125]} [البقرة:125].

5- وقال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [26]} [الحج:26].
**********************************************************
فضل المسجد الحرام:

1- قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [126]} [البقرة:126].

2- وقال الله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [1] وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [2]} [البلد:1- 2].

3- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ». متفق عليه.

4- وَعَنْ جَابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ وَصَلاَةٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ». أخرجه أحمد وابن ماجه
**********************************************************
حدود حرم مكة:
من الغرب: الشميسي وهو الحديبية، ويبعد عن الكعبة (22) كيلومتر تقريباً على طريق جدة.
ومن الشرق: من جهة الطائف ضفة وادي عرنة الغربية، ويبعد (15) كيلومتر تقريباً.
ومن جهة الجعرانة شرائع المجاهدين، ويبعد (16) كيلومتر تقريباً.
ومن الشمال: التنعيم، ويبعد (7) كيلومتر تقريباً.
ومن الجنوب: أضاة لين على طريق اليمن، وتبعد (12) كيلومتر تقريباً.
**********************************************************
حَدُّ الاستطاعة لأداء فريضة الحج

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الحج فريضة من أعظم فرائض الإسلام، وإحدى شعائره الكبرى، وقد ثبتت فرضيته بالقرآن والسنة.

أما القرآن، ففي قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]. ومعنى: (ومن كفر) أي من لم يحج، أو من أعرض عن الحج وقصد تركه، مع توفر الاستطاعة على أداء الحج، فإن الله غني عنه(1).

وأما الأحاديث فكثيرة، منها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»(2)، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتم»(3).

وعند النظر إلى فريضة الحج، نجد أنها عبادة بدنية ومالية؛ لأن الإنسان يخرج بنفسه فهو يتحمل المشقة، ومن ناحية أخرى يبذل المال، لينتقل من بلده إلى البلد الحرام، وليقوم بتأدية المناسك هناك.

ولما كانت فريضة الحج مشروطة بالاستطاعة بدليل الآية المتقدمة، وهذه الاستطاعة قد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها، كما سيأتي في هذا البحث، فيلزم من تحققت فيه الاستطاعة أن يبادر لأداء هذه الفريضة.

لكن ما هو حد الاستطاعة لأداء فريضة الحج، ومتى يكون المسلم مستطيعا لأداء هذه الفريضة، وهل يُلزم الشخص ببيع أمواله، لأداء هذه الفريضة، إن كانت له أموالٌ فاضلةٌ عن ما يحتاج إليه؟ هذا ما سأذكره في هذا البحث المتواضع، والذي هو بعنوان: (حد الاستطاعة لأداء فريضة الحج)، سائلا من الله تعالى التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل.

وسأذكر في هذا البحث ما يلي:

1- تعريف الاستطاعة، في اللغة والاصطلاح الشرعي.

2- الأحاديث الواردة في تفسير الاستطاعة.

3- مذاهب الفقهاء في المقصود بالاستطاعة.

4- القول الراجح في المقصود بالاستطاعة.

5- المقصود بالزاد والراحلة.

6- هل تتحقق الاستطاعة لمن بُذِل له زادٌ وراحلة؟

7- حكم بيع الشخص أمواله لأداء فريضة الحج.
**************************************************************
1. تعريف الاستطاعة:

أ. تعريف الاستطاعة في اللغة:

قال ابن منظور: «والاسْتِطاعةُ: الطَّاقةُ، قال ابن بري هو كما ذكر، إِلاَّ أَنّ الاستطاعة للإِنسان خاصّة، والإِطاقة عامة، تقول الجمل مطيق لحِمْله، ولا تقل مستطيع، فهذا الفرق ما بينهما»(4).

وقال الزبيدي، نقلا عن الراغب: "الاستطاعَةُ عندَ المُحَقِّقينَ: اسمٌ للمعاني التي بها يَتَمَكَّنُ الإنسانُ مِمّا يُريدُه من إحداثِ الفعلِ، وهي أَربعَةُ أَشياءَ: بِنْيَةٌ مَخصوصَةٌ للفاعِلِ، وتَصَوُّرٌ للفِعْلِ، ومادَّةٌ قابِلَةٌ لتأْثيرِهِ، وآلَةٌ إنْ كانَ الفِعْلُ آلِيّاً، كالكِتابَةِ، فإنَّ الكاتبَ يحتاجُ إلى هذه الأَربعَةِ في إيجادِه للكِتابَةِ، ولذلكَ يُقال: فلانٌ غيرُ مُستَطيعٍ للكتابَةِ: إذا فقدَ واحِداً من هذه الأَربَعَةِ فصاعِداً"(5).

وعرَّفها الفيومي في المصباح المنير، وكذلك ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر، بأنَّها-أي الاستطاعة-: الطاقة والقدرة على الشَّيء(6).

ب. تعريف الاستطاعة في الاصطلاح الشرعي:

جاء تفسير الاستطاعة في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها: «الزاد والراحلة»(7).

وقد عرَّف الكاساني الاستطاعة، بأنها: "استطاعة التكليف، وهي سلامة الأسباب والآلات، ومن جملة الأسباب، سلامة البدن عن الآفات المانعة عن القيام بما لا بد منه في سفر الحج؛ لأن الحج عبادة بدنية فلا بد من سلامة البدن"(8).

وعرَّفها الشافعي، بأن يكون الرجل مستطيعاً ببدنه، واجداً من ماله يبلغه الحج، فتكون استطاعته تامة(9)، وقال ابن قدامة: "والاستطاعة، أن يجد زاداً وراحلة بآلتهما مما يصلح لمثله، فاضلاً عما يحتاج إليه، لقضاء دينه، ومؤنة نفسه وعياله على الدوام"(10).

**************************************************************
2- الأحاديث الواردة في تفسير الاستطاعة في الحج:

1- عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قام رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من الحاجُّ يا رسول الله؟ قال: «الشعث(11) التفل(12)، فقام رجل آخر، فقال: أي الحج أفضل؟ قال العج(13) والثج(14)، فقام رجل آخر، فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد والراحلة»(15).

2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج؟ قال: «الزاد والراحلة»(16).

3- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال: «الزاد والراحلة» يعني قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾(17).

4- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ قال: الزاد والبعير(18).

5- وعن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ قال: من وجد زادا وراحلة فقد وجب عليه الحج(19).

**************************************************************
3- مذاهب الفقهاء في المقصود بالاستطاعة لأداء فريضة الحج:

- مذهب الحنفية:

ذهبت الحنفية، إلى أن الاستطاعة، هي ملك الزاد والراحلة، قال السرخسي: "ولم يكن الطريق في وقت أخوف مما كان يومئذ لغلبة أهل الشرك في ذلك الموضع ولم يشترط رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمن الطريق، فدَلَّ أنّ ذلك ليس من شرائط الوجوب، إنما شرط الوجوب ملك الزاد والراحلة للذهاب والمجيء، وملك نفقة من تلزمه نفقته من العيال كالزوجة والولد الصغير"(20). وقد ذكر الكاساني، أنّ ملك الزاد والراحلة، يعتبر من أسباب الإمكان لأداء الحج، فقال: "وإنّما فسّر النبي -صلى اللّه عليه وسلم- الاستطاعة بالزّاد والرّاحلة، لكونهما من الأسباب الموصلة إلى الحج، لا لاقتصار الاستطاعة عليهما، ألا ترى أنّه إذا كان بينه وبين مكّة بحرٌ زاخرٌ لا سفينة ثمّة، أو عدوٌّ حائلٌ يحول بينه وبين الوصول إلى البيت، لا يجب عليه الحجّ مع وجود الزّاد والرّاحلة، فثبت أنّ تخصيص الزّاد والرّاحلة ليس لاقتصار الشّرط عليهما، بل للتّنبيه على أسباب الإمكان، فكلما كان من أسباب الإمكان يدخل تحت تفسير الاستطاعة معنًى"(21).

- مذهب المالكية:

ذهبت المالكية، إلى أنه لا يشترط في الاستطاعة، القدرة على الزاد، لمن كان لديه صنعة يتكسب منها، أو لمن كانت عادته تكفّف الناس وسؤالهم، وغلب على ظنه أنهم يعطونه ما يوفر له الزاد، فهذا يكفي لتوفر الزاد، فيجب عليه الحج، وقالوا: إذا كان الرجل قادرًا على المشي إلى بيت الله الحرام، فهذا يغنيه عن الراحلة، ولا تشترط في حقه حينئذٍ؛ لأن قدرته على المشي تقوم مقام الراحلة.(22)

فقد جاء في فقه العبادات للمالكية ما نصه: "أمور لا تعتبر من الاستطاعة:

1- لا يشترط في الاستطاعة القدرة على الزاد، لمن لديه صنعة يتكسب منها ولا يزدرى صاحبها، وعلم أو ظن رواجها هناك، كبيطرةٍ، أو حلاقةٍ، أو خياطةٍ، أو خدمةٍ بالأجرة.

2- لا يشترط في الاستطاعة القدرة على الراحلة، بل يجب على المكلف الحج، إن كان قادرا على المشي منفردا أو مع جماعة، ولو كان وطنه بعيدا عن مكة بمقدار مسافة القصر أو أكثر، ولو كان المشي غير معتاد له، حتى ولو كان القادر على المشي أعمى يهتدي بنفسه أو بقائد، ولو بأجرة قدر عليها"(23).

ومعنى هذا أن المالكية اعتبروا أن الاستطاعة تتحقق بالقدرة على الوصول، من غير اشتراط للزاد والراحلة، قال القرافي، وهو يتكلم عن الحديث الذي فيه أن السبيل للحج هو الزاد والراحلة، قال: "وجوابه أنه خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، أو لعله حال مفهوم السائل، وظاهر قوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ يقتضي أن كل أحدٍ على حسب حاله، فإن الاستطاعة القدرة، لقوله تعالى: ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: 129]. ويؤكده أن من كان دون مسافة القصر لا تعتبر الراحلة في حقه إجماعا، فلو كانت شرطا في العبادة لعمَّت، وكذلك الزاد، قد يستغني عنه من قربت داره، فليسا مقصودين لأنفسهما، بل للقدرة على الوصول"(24). وقال الدسوقي: "الاستطاعة التي هي شرطٌ في الوجوب، عبارةٌ عن إمكان الوصول، من غير مشقّةٍ عظيمةٍ مع الأمن على النّفس والمال، ويزاد على ذلك في حقّ المرأة، أن تجد محرمًا من محارمها يسافر معها أو زوجًا "(25). وقال الخرشي: "وحيث فسَّر الاستطاعة، بإمكان الوصول، دخل فيه إمكان السير، وأمن الطريق"(26). وقد أيَّد هذا القول المهلَّب، فقال: "الاستطاعة لا تكون الزاد والراحلة؛ ألا ترى أن ما اعتذرت به هذه المرأة عن أبيها(27)، ليس بزادٍ ولا راحلة، وإنما كان ضعف جسمه، فثبت أن الاستطاعة شائعةٌ كيفما وقعت وتمكنت"(28).

وقد بيَّن ابن رشد، سبب هذا الخلاف بين الجمهور والمالكية، فقال: "والسبب في هذا الخلاف معارضة الأثر الوارد في تفسير الاستطاعة لعموم لفظها، وذلك أنه ورد أثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه سئل ما الاستطاعة؟ فقال: «الزاد والراحلة». فحمل أبو حنيفة والشافعي ذلك على كل مكلف، وحمله مالك على من لا يستطيع المشي ولا له قوة على الاكتساب في طريقه"(29). قال ابن عبد البر: "قال أشهب: قيل لمالك: الاستطاعة الزاد والراحلة؟ قال: لا والله وما ذاك إلا على قدر طاقة الناس، فرب رجل يجد زادا وراحلة، ولا يقدر على المسير، وآخر يقوى يمشي على راحلته وإنما هو كما قال الله -عز وجل-: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾"(30).

وقد اعتبرت المالكية من الزاد ما يكفي الحاج للذهاب فقط، ولم تعتبر ما يرجع به، إلا إن خشي الضياع، قال الخرشي: "يعتبر في الاستطاعة ما يصل به فقط، ولا يعتبر ما يرجع به، إلا إذا خشي إن بقي ضاع، فيعتبر حينئذ رجوعه إلى حيث ينتفي ذلك عنه" (31). وكذلك بيَّن القرافي، أن من وجد زاداً لذهابه فقط، فقد قيل بوجوب الحج عليه، إلا مع خشية الضياع، فلا يجب، حيث قال: "فإن وجد النفقة لذهابه فقط، قال بعض المتأخرين: يجب عليه، إلا أن يخشى الضياع هناك، فتراعى نفقة العود إلى أقرب المواضع، إلى موضع يعيش فيه"(32).

وذكرت المالكية، أنه لا يمنع من الاستطاعة، عدم ترك شيء لمن تلزم المكلف نفقتهم، إلا إن خشي ضياعهم. جاء في كتاب فقه العبادات للمالكية: "لا يمنع الاستطاعة عدم ترك شيء لمن تلزم المكلف نفقتهم، كولده، أو الخوف مما يؤول إليه أمره وأمر أولاده في المستقبل، من فقر أو احتياج إلى الصدقة من الناس، بل يجب عليه الحج، إلا إذا خشي ضياع أولاده، ولو لم يصل إلى حد الهلاك، فعندها يسقط وجوب الحج"(33). وقال العدوي المالكي: "وإن كان يترك ولده وزوجته لا مال لهم، أي فلا يراعي ما يؤول إليه أمره وأمر أهله وأولاده في المستقبل، وإن كان يصير فقيرًا لا يملك شيئا، أو يترك أولاده ونحوهم للصّدقة، إن لم يخش هلاكًا فيما ذكر أو شديد أذًى"(34).

ومما تقدم فيكون مجمل قول المالكية، هو أن المقصود بالاستطاعة لأداء فريضة الحج، إمكان الوصول، ولا يشترط الزاد والراحلة، إذ ليسا هما المقصودين في الاستطاعة، إلا أن ابن حبيب المالكي خالفهم، وقال: إن الاستطاعة الموجبة للحج، هي ملك الزاد والراحلة، كما هو قول الجمهور(35). قال القرافي نقلا عن ابن حبيب: "الاستطاعة: زاد ومركب"(36).

مذهب الشافعية:

ذهبت الشافعية إلى أن الاستطاعة لأداء فريضة الحج نوعان: استطاعة مباشرة، واستطاعة بإنابة الغير عنه، والمقصود بالاستطاعة المباشرة: البدن المال، والمقصود بالاستطاعة بإنابة الغير عنه: المال. قال أبو بكر الدمياطي: ثم إن الاستطاعة نوعان: أحدهما استطاعة مباشرة، وهذه يقال لها استطاعة بالبدن والمال، ولها أحد عشر شرطاً:

الأول: وجود مؤن السفر ذهابا وإيابا.

الثاني: وجود الراحلة.

الثالث: أمن الطريق.

الرابع: وجود الماء والزاد في المواضع التي يعتاد حملهما منها بثمن مثله.

الخامس: خروج زوج أو محرم مع المرأة.

السادس: أن يثبت على الراحلة بلا مشقة شديدة.

السابع: وجود ما مرَّ من الزاد وغيره وقت خروج الناس من بلده.

الثامن: أن يبقى بعد الاستطاعة زمنا يمكنه الوصول فيه إلى مكة باليسر المعتاد.

التاسع: أن يجد رفقة حيث لم يأمن وحده.

العاشر: أن يجد ما مر بمال حاصل عنده، أو بدَينٍ له حال على مليء.

الحادي عشر: أن يجد الأعمى قائدا يقوده ويهديه عند ركوبه ونزوله.

ثانيهما: استطاعة بإنابة الغير عنه، وهذه يقال لها استطاعة بالمال فقط، وإنما تكون في ميت ومعضوب(37). وقال أبو حامد الغزالي: "والاستطاعة تتعلق بأربعة أمور: الراحلة والزاد والطريق والبدن"(38). وقال النووي: إن الاستطاعة المباشرة " تتعلق بخمسة أمور: الراحلة والزاد والطريق والبدن وإمكان السير"(39).

فمن كان مستطيعاً ببدنه، وواجداً للمال الذي يبلغه إلى الحج، فحينئذٍ تكون الاستطاعة متحققة فيه، ولا يجزيه أن يؤديه عنه غيره. قال الشّافعيّ: إذا كان "الرّجل مستطيعًا ببدنه، واجدًا من ماله، ما يبلّغه الحجّ، فتكون استطاعته تامّةً، ويكون عليه فرض الحجّ، لا يجزيه ما كان بهذا الحال إلّا أن يؤدّيه عن نفسه"(40).

وفي حالة أن يكون الشخص مستطيعاً بماله، ثم يفتقر، فقد قرَّر الشافعية، أنه يلزمه التكسب والمشي بشرط أن يقدر على ذلك، ولا يلزمه أن يسأل الناس من أجل أن يعطوه. قال أبو بكر الدمياطي: "إذا استطاع، ثم افتقر لزمه التكسب والمشي إن قدر عليه، ولا يلزمه السؤال، خلافا للإحياء، والفرق أن أكثر النفوس تسمح بالتكسب، لاسيما عند الضرورة دون السؤال"(41).

مذهب الحنابلة:

ذهبت الحنابلة، إلى أن المقصود بالاستطاعة لأداء الحج، هو وجود الزاد والراحلة. قال ابن قدامة: "والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة، فيجب المصير إلى تفسيره"(42). وقال البهوتي: الاستطاعة: ملك زاد يحتاجه في سفره ذهابا وإيابا من مأكول ومشروب وكسوة، وملك راحلة في مسافة قصر عن مكة، ولا يعتبر ملك راحلة في دونها أي مسافة القصر عن مكة، للقدرة على المشي فيها غالبا، ولأن مشقتها يسيرة.(43).

ومعنى هذا أنَّ الحنابلة، اشترطوا وجود الراحلة، لمن كان بعيداً، أي بينه وبين مكة مسافة القصر، ولم يشترطوها لمن كان قريبا من مكة، إلا مع العجز عن المشي، فيشترط حينئذٍ وجود الراحلة. قال ابن قدامة: "فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر، فلا يشترط في حقه راحلة، ومتى قدر على الحج ماشياً لزمه؛ لأنه يمكنه ذلك من غير مشقةٍ شديدة"(44). وقال ابن مفلح: "وأما الراحلة، فلا تشترط إلا مع البعد، وهو من بينه وبين مكة مسافة القصر فقط، إلا مع عجزٍ كشيخٍ كبير لا يمكنه المشي"(45). وقال البهوتي: "وتعتبر الراحلة مع بعد المسافة فقط، ولو قدر على المشي، ولا تعتبر الراحلة، فيما دونها، فيلزمه المشي للقدرة على المشي فيها غالباً، ولأن مشقتها يسيرة إلا مع عجزٍ لِكِبرٍَ ونحوه، كمرض، فتعتبر الراحلة حتى فيما دون المسافة، للحاجة إليها"(46).

فمن ملك زاداً وراحلةً، لذهابه وعوده، أو ملك ما يقدر به على تحصيل الزاد والراحلة، من نقدٍ أو سلعةٍ، فقد وجب عليه الحج، وذلك لتحقق الاستطاعة فيه. قال البهوتي، وهو يتكلم عمن تحققت فيه الاستطاعة في الحج، ووجب عليه، قال: "أن يملك زادا وراحلة، لذهابه وعوده، أو يملك ما يقدر به على تحصيل ذلك، أي الزاد والراحلة، من نقد أو عرض"(47). وبمثله قال ابن ضويان، إلا أنه شرَطَ أن يكون الذي يقدر به على تحصيل الزاد والراحلة من النقدين أو العروض، فاضلاً عما يحتاجه من وجب عليه الحج، فقال: "أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك من النقدين أو العروض، بشرط كونه فاضلاً عما يحتاجه من كتبٍ ومسكنٍ وخادم؛ لأن هذه حوائج أصيلة"(48).

وقد اعتبرت الحنابلة، أموراً تدخل في الاستطاعة، مثل: وجود دليل لجاهل طريق مكة، وقائد للأعمى، وأمن الطريق، وسعة الوقت. قال السيوطي الرحيباني: ومن الاستطاعة: دليل لجاهل طريق مكة، ومنها: قائد للأعمى؛ لأن في إيجابه عليهما بلا دليل وقائد ضرراً عظيما، وهو منتف شرعا، ويلزم الجاهل والأعمى، أجرةً للدليل والقائد، فإن تبرعَّ الدليل والقائد، لم يلزم الجاهل والأعمى ذلك، لما فيه من المِنَّة(49).

مذهب الظاهرية:

ذهبت الظاهرية، إلى أن المقصود بالاستطاعة، لأداء فريضة الحج، هو صحة الجسم، وتوفر المال، وهذا القول هو موافق لقول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة. قال ابن حزم: "واستطاعة السّبيل الذي يجب به الحجّ، إمّا صحّة الجسم والطّاقة على المشي والتّكسّب من عملٍ أو تجارةٍ ما يبلغ به إلى الحجّ ويرجع إلى موضع عيشه أو أهله، وإما مالٌ يمكّنه منه ركوب البحر أو البرّ والعيش منه حتى يبلغ مكّة ويردّه إلى موضع عيشه أو أهله، وإن لم يكن صحيح الجسم إلاّ أنّه لا مشقّة عليه في السّفر برًّا أو بحرًا، وإما أن يكون له من يطيعه فيحجّ عنه ويعتمر بأجرةٍ أو بغير أجرةٍ إن كان هو لا يقدر على النّهوض لا راكبًا ولا راجلاً فأيّ هذه الوجوه أمكنت الإنسان المسلم العاقل البالغ فالحجّ والعمرة فرضٌ عليه"(50).
**************************************************************

4- القول الراجح في المقصود بالاستطاعة في الحج:

الذي يظهر -والله أعلم- أن القول الراجح هو قول الجمهور، من الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو قول ابن حبيب المالكي، بأن الاستطاعة، هي الزاد والراحلة، فلا يكفي في الاستطاعة القدرة على المشي إلى مكة لوجوب الحج عليه؛ لأن تكليف الناس بالحج مشيًا على الأقدام فيه حرج شديد، والحرج مرفوع بحكم الإسلام. وكذلك لا يكفي في الاستطاعة، جعل المعتاد على التسول مالكًا للزاد، وإيجاب الحج على من عادته التسول وسؤال الناس، إذا غلب على ظنه أنهم يعطونه؛ لأن سؤال الناس في الأصل لا يجوز في الشريعة الإسلامية، ولا يجوز إلا للضرورة. لحديث قبيصة بن مخارق الهلالي- رضي الله عنه- قال تحملت حَمالة¬(51) فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله فيها؟ فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال ثم قال يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا(52) من قومه، لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً»(53)، فالشرع إنما أمر بالحج بشرط الاستطاعة، وهي الزاد والراحلة، ولا تتأتى هذه الاستطاعة بسؤال الناس الممنوع شرعًا إلا للضرورة، وليس من معاني الضرورة الذهاب إلى الحج عن طريق سؤال الناس، وأما اشتراط الراحلة لوجوب الحج، فهي في حق من بعد مسكنه عن مكة، أو من تلحقه مشقة معتبرة، إن عدم الراحلة، أما أهل مكة ومن حولهم، فإن الحج يجب على القوي منهم القادر على المشي، مع توفر الزاد.

**************************************************************
5- المقصود بالزاد والراحلة، وما يشترط فيهما:

المقصود بالزاد: الطعام الذي يكفيه في ذهابه إلى الحج ورجوعه إلى أهله، أو أن يكون عنده من المال ما يشترى به ذلك.

والمقصود بالراحلة: هي الدابَّة، من بعير، أو حِصان، أو سيارةٍ في وقتنا الحاضر، وهي تعني واسطة النقل التي يحتاجها في ذهابه ورجوعه، وفي سائر تنقلاته لأداء شعائر الحج؛ سواء كانت واسطة النقل التي يحتاجها ملكًا له، أو يحصل عليها بأجرة، ونحو ذلك.

ويشترط أن يكون الزاد والراحلة، فاضلين عن نفقة من تلزمه نفقتهم مدة ذهابه وإيابه، على وجه لا إسراف فيه ولا تقتير، وأن يكونا فاضلين عن مسكنه اللائق به المستغرق لحاجته، وعن قضاء ديونه التي عليه؛ لأن هذه من الحوائج الأصلية للإنسان، التي لا بد منها، ومما يؤيد هذا المقصود، وهذه الشروط، من أقوال الفقهاء أئمة المذاهب، ما ذكروه من النصوص في كتبهم، عن المراد بالزاد والراحلة، والتي تتحقق بهما الاستطاعة، ومن هذه النصوص ما يلي:

من أقوال الحنفية في المقصود بالزاد والراحلة:

قال الكاساني: "أن يملك من المال مقدار ما يبلّغه إلى مكّة ذاهبًا وجائيًا راكبًا لا ماشيًا، بنفقةٍ وسطٍ لا إسراف فيها ولا تقتير"(57).

واشترط فقهاء الحنفية، أن يكون الزاد: "فاضلًا عن مسكنه، وخادمه، وفرسه، وسلاحه، وثيابه، وأثاثه، ونفقة عياله، وخدمه، وكسوتهم، وقضاء ديونه"(58).

وبيَّن الكاساني، أن الوقت الذي يملك به الزاد، ويكون الحج في حقه واجباً، هو وقت خروج أهل بلده لأداء الحج، فقال: "يعتبر وجود الزاد والراحلة وقت خروج أهل بلده حتى لو ملك الزّاد والرّاحلة في أوّل السّنة قبل أشهر الحجّ، وقبل أن يخرج أهل بلده إلى مكّة، فهو في سعةٍ من صرف ذلك إلى حيث أحبّ؛ لأنّه لا يلزمه التّأهّب للحجّ قبل خروج أهل بلده؛ لأنّه لم يجب عليه الحجّ قبله، ومن لا حجّ عليه لا يلزمه التّأهّب للحجّ فكان بسبيلٍ من التّصرّف في ماله كيف شاء، وإذا صرف ماله ثمّ خرج أهل بلده، لا يجب عليه الحجّ، فأمّا إذا جاء وقت الخروج والمال في يده، فليس له أن يصرفه إلى غيره على قول من يقول بالوجوب على الفور؛ لأنّه إذا جاء وقت خروج أهل بلده، فقد وجب عليه الحجّ، لوجود الاستطاعة، فيلزمه التّأهّب للحجّ، فلا يجوز له صرفه إلى غيره، كالمسافر إذا كان معه ماءٌ للطّهارة، وقد قرب الوقت، لا يجوز له استهلاكه في غير الطّهارة، فإن صرفه إلى غير الحجّ أثم، وعليه الحجّ"(59). وقال ابن نجيم: "والنّفقة تشمل: الطّعام، والكسوة، والسّكنى"(60).

من أقوال المالكية في المقصود بالزاد والراحلة:

تقدم قول المالكية، في تفسير الاستطاعة في الحج، حيث قالوا: إنه لا يلزم في الاستطاعة توفر الزاد والراحلة، لمن كان قادراً على المشي، ولمن عادته التسول وسؤال الناس، والعبرة هي بإمكان الوصول، وعلى قدر طاقة الناس، وعليه فإن المقصود بالزاد عندهم، هو الزاد المبلغ للحج، بأي أسلوب كان تحصيله. قال العدوي المالكي، وهو يتكلم عن المقصود بالزاد، فقال: "الزّاد المبلّغ، ويقوم مقامه حرفةٌ تقوم به لا تزري ويعلم أو يظنّ عدم كسادها"(61).

من أقوال الشافعية في المقصود بالزاد والراحلة:

قال الشربيني: من شروط الاستطاعة، أن يتوفر الزاد الذي يكفيه، وكلفة ذهابه لمكة ورجوعه منها إلى وطنه، وإن لم يكن فيه أهل وعشيرة، فلو لم يجد ما ذكر، ولكن كان يكتسب في سفره ما يفي بزاده وباقي مؤنته وسفره طويل مرحلتان فأكثر،لم يكلف النسك ولو كان يكسب في يوم كفاية أيام؛ لأنه قد ينقطع عن الكسب لعارض وبتقدير عدم الانقطاع فالجمع بين تعب السفر والكسب فيه مشقة عظيمة، وإن قصر سفره وكان يكتسب في يوم كفاية أيام الحج كلف الحج بأن يخرج له لقلة المشقة حينئذ، وكذلك من شروط الاستطاعة، وجود الراحلة الصالحة لمثله بشراء أو استئجار بثمن أو أجرة مثل لمن بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر قدر على المشي أم لا لكن يندب للقادر على المشي الحج خروجا من خلاف من أوجبه ومن بينه وبين مكة دون مرحلتين وهو قوي على المشي يلزمه الحج لعدم المشقة فلا يعتبر في حقه وجود الراحلة فإن ضعف عن المشي بأن عجز أو لحقه ضرر ظاهر كالبعيد عن مكة فيشترط في حقه وجود الراحلة.(62)

ومعنى هذا أن الشافعية، اشترطوا أن يكون الزاد، كافياً للذهاب إلى مكة والرجوع منها، كما تقدم عن الشربيني، لكن نقل أبو إسحاق الشيرازي، قولان في المذهب، لمن لم يكن له أهل في بلده، فقال: "وإن وجد الزاد والراحلة لذهابه ولم يجد لرجوعه نظرت، فإن كان له أهل في بلده لم يلزمه، وإن لم يكن له أهل، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لان البلاد كلها في حقه واحدة. والثاني: لا يلزمه؛ لأنه يستوحش بالانقطاع عن الوطن والمقام في الغربة فلم يلزمه"(63).

وقد اشترط فقهاء الشافعية، أن يكون الزاد والراحلة فاضلين عن دينه حالا كان أو مؤجلاً، وعن كلفة من عليه نفقتهم مدة ذهابه وإيابه، وعن مسكنه اللائق به المستغرق لحاجته، وعن عبد يليق به ويحتاج إليه لخدمته. قال النووي: "يشترط كون الزاد والراحلة، فاضلا عن نفقة من لزمه نفقتهم وكسوتهم مدة ذهابه ورجوعه، وفي اشتراط كونهما فاضلين عن مسكن وخادم يحتاج إلى خدمته لزمانته أو منصبه، وجهان: أصحهما عند الأكثرين، يشترط"(64).

من أقوال الحنابلة في المقصود بالزاد والراحلة:

قال ابن قدامة: "والزاد هو ما يحتاج إليه، من مأكولٍ، ومشروبٍ، وكسوةٍ، لذهابه ورجوعه، فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه، لم يلزمه الحج؛ لأن عليه في غربته ضرراً ومشقةً وغيبةً عن أهله ومعاشه، وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص، أو بزيادةٍ لا تجحف بماله لزمه... ويشترط وجدان راحلةٍ تصلح لمثله، بشراءٍ، أو كراءٍ، وما يحتاج إليها من آلتها الصالحة لمثله"(65).

وقد اشترط فقهاء الحنابلة، أن يكون الزاد الراحلة فاضلين عن ما يحتاجه، من الحوائج الأصلية. قال مرعي بن يوسف الحنبلي: "الاستطاعة، وهي ملك زاد وراحلة تصلح لمثله، أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك، بشرط كونه فاضلاً عما يحتاجه من كتبٍ ومسكنٍ وخادمٍ، وأن يكون فاضلاً عن مؤنته ومؤنة عياله على الدوام، فمن كملت له هذه الشروط، لزمه السعي فوراً، إن كان في الطريق أمنٌ"(66). وقال ابن قدامة: "ويكون ذلك (الزاد) فاضلاً عما يحتاج إليه، لقضاء دين حال ومؤجل، ونفقه عياله، إلى أن يعود، وما يحتاجون إليه من مسكنٍ وخادم؛ لأن هذا واجبٌ عليه يتعلق به حق آدمي، فكان أولى بالتقديم"(67)
**************************************************************
6- هل تتحقق الاستطاعة لمن بُذِل له زادٌ وراحلة؟

إذا بُذِل لشخصٍ مالٌ يكفيه للحج، فهل يعتبر هذا الشخص ممن تحققت فيه الاستطاعة، بسبب ما أعطي من المال، فيجب عليه الحج؟ بمعنى، هل تثبت الاستطاعة ببذل الزاد والراحلة؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
قول الأول: عدم ثبوت الاستطاعة في الحج ببذل الزاد والراحلة، سواء كان الباذل قريبًا أو أجنبيًا، وسواء بذل له الركوب والزاد، أو بذل له مالا، وبهذا القول قال الحنفية والمالكية والحنابلة. قال الكاساني الحنفي: "فلا يجب الحجّ بإباحة الزّاد والرّاحلة، سواءٌ كانت الإباحة ممّن له منّةٌ على المباح له، أو كانت ممّن لا منّة له عليه، كالأب"(68). وقال ابن نجيم الحنفي: "القدرة على الزّاد لا تثبت إلّا بالملك لا بالإباحة، والقدرة على الرّاحلة لا تثبت إلا بالملك أو الإجارة لا بالعاريّة والإباحة"(69). وقال القرافي المالكي: "وإذا لم يكن له مال وبذل له، لم يلزمه قبوله عند الجميع؛ لأن أسباب الوجوب لا يجب على أحد تحصيلها"(70). وقال ابن قدامة الحنبلي: "ومن لم يكن له مال، فبذل له ولده أو غيره مالا يحج به، لم يلزمه قبوله، وإن بذل له أن يحج عنه أو يحمله لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه فيه منة ومشقة فلم يلزمه قبوله، كما لو كان الباذل أجنبياً"(71).

ومعنى هذا أنَّ الحنفية والمالكية والحنابلة، نفوا تحقق الاستطاعة في الحج لمن بذل له مالٌ؛ لأنَّ البذل لا يتحقق به ملك الزاد والراحلة، ولا ملك ما يحصل به الزاد والراحلة، وذلك لأن الباذل يملك حق الرجوع فيما بذله، ويمنع المبذول له من التصرف في المبذول، وهذا يعني أن المبذول له لا يملك الاستطاعة المطلقة على الحج، وبالتالي لا يكون مستطيعًا، فلا يجب عليه الحج، لعدم تحقق شرط الاستطاعة فيه، ولأن البذل لا يخلو من المنة، ولو كان البذل حتى من الولد، ولا يلزم المسلم قبول ما فيه منة ولو كان البذل في القربات.

قول الثاني: إذا بذل الابن الطاعة، وهي أن يحج بنفسه عن والده، فيلزم الأب القبول لعدم المنة فيه. وهذا هو قول الشافعية. قال الغزالي: "وإن كان المبذول طاعة، والباذل هو الابن، وجب القبول إذ لا مِنَّة"(72). وقال الغمراوي: "ولو بذل الولد الطاعة، بأن يحج بنفسه وجب قبوله بالإذن له في ذلك، وكذا الأجنبي لو بذل الطاعة في الأصح"(73). ومعنى بذل الطاعة، أي أن يحج بنفسه عنه، ومعنى القبول في بذل الطاعة، القبول بالإذن له بالحج(74).

وأمّا إن كان المبذول مالاً، سواء كان من ولده أو من أجنبي، فلا يلزم قبوله في الأصح، عند الشافعية، وذلك لوجود المِنَّة فيه. قال النووي: "ولو بذل ولده أو أجنبي مالاً للأجرة، لم يجب قبوله في الأصح"(75). وقال الغزالي: "إن كان المبذول مالاً والباذل أجنبي، لم يجب لما فيه من المنة"(76). وقال الشيرازي: "وإن بذل له رجل راحلة، من غير عوضٍ، لم يلزمه قبولها؛ لأن عليه في قبول ذلك منة، وفي تحمل المنة مشقة، فلا يلزمه"(77). وقد ذكر الرملي خلاف الشافعية في هذا فقال: "فلو لم يجد أجرة، وبَذَل (بالمعجمة)، أي أعطى له ولده أو أجنبي مالاً للأجرة، لم يجب قبوله في الأصح، لما فيه من المنة. والثاني: يجب"(78)، وبمثله قال الغمراوي الشافعي(79). وقد نقل الكاساني عن الشافعي، أن البذل إذا كان من الولد للوالد، أو العكس، فيجب القبول لعدم المِنَّة فيه، بخلاف أن يكون البذل من أجنبي، فقال: "وقال الشّافعيّ: يجب الحجّ بإباحة الزّاد والرّاحلة إذا كانت الإباحة ممّن لا منّة له على المباح له كالوالد بذل الزّاد والرّاحلة لابنه، وله في الأجنبيّ قولان"(80).

وقد علَّلَ الرملي الأنصاري، سبب اللزوم في قبول بذل الطاعة، وعدم اللزوم في بذل المال، فقال: " والمنة في ذلك (أي في بذل الطاعة) ليست كالمنة في المال، ألا ترى أن الإنسان يستنكف عن الاستعانة بمال الغير، ولا يستنكف عن الاستعانة ببدنه في الأشغال"( 8) .

خلاصة المذهب الشافعي، في من بُذلت له الطاعة، أو المال لأداء الحج:

إذا بذل الابن الطاعة للأب، وهي الحج عن والده، فيلزم الأب القبول، قولا واحداً في المذهب، وإن بذل الابن، أو الأجنبي المال، فالأصح عدم اللزوم، لوجود المِنَّة في ذلك.
**************************************************************
7- حكم بيع الشخص أمواله لأداء فريضة الحج:

اتفق الفقهاء على أنه لا يلزم أن يبيع الشخص أمواله الضرورية، واحتياجاته الأصلية، التي لا غنى له عنها، إلا ما نُقل عن ابن القاسم من المالكية، كما سيأتي بيان قوله، وكذلك فقد اتفق الفقهاء على أنه يلزم الشخص أن يبيع ما زاد عن حاجته، لأداء فريضة الحج، فإن لم يفعل فهو آثم، وهذا القول إنما هو بناءً على وجوب الحج على الفور(82).

وعليه: فمن له عقار يحتاج إليه لسكنه، أو سكنى عياله، أو يحتاج إلى أجرته لنفقة نفسه أو نفقة عياله، أو كان يملك بضاعة متى نقصت اختلّ ربحها فلم يكفهم، أو كانت عنده مواشٍ من الإبل والبقر والغنم، يحتاج إليها لنفقته ونفقة عياله، لم يلزمه بيع شيء منها لأجل أن يحج به، وإذا كانت له دارٌ لا يسكنها، ولا ينتفع بها، ومتاعٌ لا يمتهنه، وعبدٌ لا يستخدمه، بمعنى أنه لا يحتاج إلى ما ذكر، لنفقة نفسه، أو نفقة عياله، وجب عليه أن يبيعه ويحجّ به.

من أقوال الحنفية، في بيع الأموال التي يمكن الاستغناء عنها من غير مشقة، لأداء فريضة الحج:

قال الكاساني نقلاً عن ابن شجاع: "إذا كانت له دارٌ لا يسكنها ولا يؤاجرها ومتاعٌ لا يمتهنه وعبدٌ لا يستخدمه، وجب عليه أن يبيعه ويحجّ به... فإن أمكنه بيع منـزله وأن يشتري بثمنه منـزلاً دونه ويحجّ بالفضل، فهو أفضل، لكن لا يجب عليه؛ لأنّه محتاجٌ إلى سكناه فلا يعتبر في الحاجة قدر ما لا بدّ منه كما لا يجب عليه بيع المنزل والاقتصار على السّكنى"(83). وذكر الكرخيّ أنّ أبا يوسف قال: "إذا لم يكن له مسكنٌ ولا خادمٌ ولا قوت عياله وعنده دراهم تبلّغه إلى الحجّ لا ينبغي أن يجعل ذلك في غير الحجّ فإن فعل أثم؛ لأنّه مستطيعٌ لملك الدّراهم فلا يعذر في التّرك ولا يتضرّر بترك شراء المسكن والخادم بخلاف بيع المسكن والخادم فإنه يتضرّر ببيعهما"(84). لكن بيَّن ابن نجيم أن الحاجة الأصلية إلى المال، لمن ليس مسكن ولا خادمٌ، مقدمة على الحج، فقال: "وتثبت الاستطاعة بدارٍ لا يسكنها وعبدٍ لا يستخدمه، فعليه أن يبيعه ويحجّ...ولو لم يكن له مسكنٌ ولا خادمٌ وعنده مالٌ يبلغ ثمن ذلك ولا يبقى بعده قدر ما يحجّ به، فإنه لا يجب عليه الحجّ؛ لأنّ هذا المال مشغولٌ بالحاجة الأصليّة إليه"(85).

من أقوال المالكية، في بيع الأموال التي يمكن الاستغناء عنها من غير مشقة، لأداء فريضة الحج:

قال القرافي: "ولو لم يكن عنده إلا عروض التجارة، وجب عليه أن يبيع منها ما يباع للدين وألزمه ابن القاسم، بيع فرسه وترك أولاده بغير شيء بل للصدقة"(86). وقال الخرشي: "وكذلك يجب عليه الحج إذا لم يجد معه إلا ما يباع على المفلس عند التفليس، من ربع(87)، وماشية(88)، وثياب ولو لجمعة، إن كثرت قيمتها، وخادمه، وكتب العلم ولو محتاجا إليها، ومصحف، وآلة الصانع، على أحد الترددين وكذلك يجب عليه الحج، ولو لم يكن عنده وعند أهله وأولاده إلا مقدار ما يحج به فقط ولا يراعى ما يئول أمره وأمر أهله وأولاده إليه في المستقبل؛ لأن ذلك أمره إلى الله"(89).

قلت: قد تقدم قول المالكية، بأنه لا يشترط في الاستطاعة توفر الزاد، لمن عادته السؤال، ولا الراحلة، لمن كان قادراً على المشي، ولا يمنع من الاستطاعة عدم ترك شيء لمن تلزم المكلف نفقتهم، أو الخوف مما يؤول إليه أمره وأمر أولاده في المستقبل، من فقرٍ أو احتياج إلى الصدقة من الناس، بل يجب عليه الحج، إلا إذا خشي ضياع أولاده، وبناءً على هذا القول، فقد ألزموا أن يبيع الشخص من أمواله، ولو كان محتاجاً إليها، والصحيح: هو التفريق بين ما يحتاجه الشخص، ويعد من الاحتياجات الأصلية، وما لا يحتاجه. فما يحتاجه فلا يلزمه بيعه، وما لا يحتاجه فيلزمه بيعه، لأداء فريضة الحج، بناءً على القول بأن أداء الحج على الفور.

من أقوال الشافعية، في بيع الأموال التي يمكن الاستغناء عنها من غير مشقة، لأداء فريضة الحج:

قال الشيرازي: "وإن كان محتاجاً إليه(ذأي المال) لنفقة من تلزمه نفقته، لم يلزمه الحج لان النفقة على الفور والحج على التراخي وإن احتاج إليه لمسكن لا بد له من مثله أو خادم يحتاج إلى خدمته لم يلزمه"(90).

من أقوال الحنابلة، في بيع الأموال التي يمكن الاستغناء عنها من غير مشقة، لأداء فريضة الحج:

قال ابن قدامة: "ومن له عقار يحتاج إليه للسكنى، أو إلى أجرته لنفقته، أو نفقة عياله، أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه لذلك، أو آلات لصناعته المحتاج إليها، أو كتب من العلم يحتاج إليها، لم يلزمه صرفه في الحج؛ لأنه لا يستغنى عنه أشبه النفقة، ومن كان ذلك فاضلاً عن حاجته، كمن له بكتاب نسختان، أو له دار فاضلة، أو مسكن واسع يكفيه بعضه، فعليه صرف ذلك في الحج"(91). وقال ابن مفلح: "فإن كان المسكن واسعاً يفضل عن حاجته، وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه، ويفضل ما يحج به، لزمه، فإن فضل منه ما يحج به لزمه... ويتوجه مثله في الخادم والكتب التي يحتاجها"(92). وقال البهوتي: "إن أمكن بيع المسكن والخادم، إذا كانا نفيسان، وأمكن شراء ما يكفيه، ويفضل ما يحج به، لزمه ذلك؛ لأنه مستطيع، فان لم يفضل عنه ما يحج به، لم يلزمه"(93)
********************************************************************
موقع البحث
http://www.jameataleman.org/main/articles.aspx?article_no=1320

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق