"أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا"
دلالة الآية على أوقات الصلاة.
قال القرطبي –رحمه الله -:
"وهذه الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة" .
قال الكلبي -رحمه الله -في التسهيل:
"هذه الآية إشارة إلى الصلوات المفروضة فدلوك الشمس زوالها والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل ظلمته وذلك إشارة إلى المغرب والعشاء وقرآن الفجر صلاة الصبح" .
وقال ابن سعدي –رحمه الله-:
" ففي هذه الآية ذكر الأوقات الخمسة للصلوات المكتوبات.
تحرير مواقيت الصلاة:
قال ابن قدامة:
أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة، وقد ورد في ذلك أحاديث صحاح جياد، نذكر أكثرها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
والعمدة في هذا الباب عند أهل العلم من القرآن قوله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل.." الآية وشبيهاتها ومن السنة حديثان هما:
الأول:حديث عبد الله بن عمرو أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صليتم الفجر فاته وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول ثم إذا صليتم الظـهر فاته وقت إلى أن يحضر العصر فإذا صليتم العصر فاته وقت إلى أن تصفــر الشمس فإذا صليتم المغرب فاته وقت إلى أن يسقط الشفق فإذا صليتم العشاء فاته وقت إلى نصف الليل) وفي لفظ عند مسلم: (وقت الظهر ما لم يحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس).
والحديث الثاني حديث ابن عباس – رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: (أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ثم صلى المغرب لوقته الأول ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض ثم التفت إلي جبريل فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين الوقتين).
وسأعرض لأوقات الصلاة فيما يلي بشيء من التفصيل :
وقت صلاة الظهر:
*أجمع أهل العلم على أن دخول وقت الظهر بزوال الشمس عن كبد السماء.
*واختلفوا في آخر وقتها على قولين:
القول الأول: أن آخر وقتها إذا صار ظلّ كل شيء مثله سوى ظلّ الزوال، وهوقول مالك والثوري والشافعي والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور وداود.
ودليلهم حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أن جبريل أمّ النبي في يومين، فصلّى الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وصلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظلّ كل شيء مثله، ثم قال جبريل: (يا محمد: هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين اليومين).
القول الثاني: أن وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، وهو قول أبي حنيفة.
وسبب الخلاف في ذلك: اختلاف الأحاديث ؛وذلك أنه ورد في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في اليوم الأول،حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، ثم قال:" الوقت ما بين هذين " وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم،كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة،فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا،ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين،فقال أهل الكتاب: أي ربنا أعطيتهم ونحن كنا أكثر عملا قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا:لا.قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).
فذهب مالك والشافعي إلى حديث إمامة جبريل وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا وهو أنه إذا كان من العصر إلى الغروب أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث فواجب أن يكون أول العصر أكثر من قامة وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر قال أبو محمد بن حزم: وليس كما ظنوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر. قال القاضي: أنا الشاك في الكسر. وأظنه قال وثلث.
قال ابن عبد البر: خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس وخالفه أصحابه.
وأولى القولين بالصواب القول الأول. والله تعالى أعلم.
مسألة:
يعرف الزوال بزيادة الظلّ بعد تناهي قصره، وبيان ذلك: أن الشمس إذا طلعت صار لكل شاخص ظلّ طويل من جهة المغرب، ولا يزال الظل يقصر مع ارتفاع الشمس، حتى يتوقف عن النقصان،والشمس في وسط السماء،فإذا بدأ بالزيادة ولو شعرة فهو الزوال.
وإذا أردت ضبط آخر وقت الظهر: فضع علامة عند بداية الزيادة، واحسب مقدار طول الشاخص من عند العلامة لا من الشاخص، والظل الذي يكون بين الشاخص والعلامة هو الذي يسميه الفقهاء بظل الزوال، أو بفيء الزوال ؛ أي: الظل الذي زالت عليه الشمس.
وقت صلاة العصر:
*يدخل وقت العصر بخروج وقت الظهر ؛ أي من مصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال على القول الصحيح كما تقدم ؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً: (ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر).
*أما آخر وقت العصر ففيه خلاف قوي بين العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن آخره إذا صار ظلّ كل شيء مثليه سوى فيء الزوال، وما بعده إلى غروب الشمس فوقت ضرورة. وهو قول الشافعي،والثوري، وروي عن أحمد.
القول الثاني: أن آخره إذا اصفرت الشمس، وما بعده إلى غروب الشمس فوقت ضرورة. وهو مذهب المالكية، وقول الإمام أبي ثور،والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، ورواية عن الإمام أحمد، وهي أصح عنه، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله.
القول الثالث: أن العصر ليس له وقت ضرورة، بل كله وقت جواز إلى غروب الشمس وهو قول أبو حنيفة.
والراجح هو القول الثاني والدليل عليه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً: (فإذا صليتم العصر: فإنه وقت ما لم تصفر الشمس).
أمّا وقت الضرورة فالدليل عليه مجموع حديثين:
الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: (ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) متفق عليه.
والثاني: حديث أنس (رضي الله عنه) قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها).
فحديث أنس بن مالك رضي الله عنه يدل على أن تأخير العصر إلى قرب غروب الشمس أمر مذموم،وذلك أنه وصف تلك الصلاة التي تصلى في هذا الوقت بصلاة المنافق،لكن من أخرها إليه فصلاته أداء لا قضاء ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، وهذا هو وقت الضرورة. ويكون حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما محدداً لنهاية وقت الاختيار وبداية وقت الضرورة.
أما حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) في إمامة جبريل للنبي، وفيه أنه صلى به العصر في اليوم الأول حين كان ظلّ كل شيء مثله، وصلّى به في اليوم الآخر حين كان ظلّ كل شيء مثليه، وفي آخر الحديث قال جبريل: (يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين اليومين) فإنه لا يعارض حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ؛ لأن حديث عبد الله بن عمرو دلّ على زيادة في وقت العصر فوجب الأخذ بها.
وبهذا الترجيح تجتمع الأدلة ولا تتعارض والله أعلم.
وقت صلاة المغرب:
*أجمع أهل العلم على أن أول وقت المغرب إذا غربت الشمس.
*أما آخر وقتها: فاختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: أنه ينتهي بمغيب الشفق الأحمر، وهو قول الحنابلة، والحنفية، وبعض أصحاب الشافعي، والثوري، وإسحاق، وأبي ثور.
واستدلوا بأدلة منها:
ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً:
(فإذا صليتم المغرب: فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق).
عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنهما) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة ثم أمره يعني: بلالاً، فأقام المغرب حين وقعت الشمس ) وفي اليوم الثاني: ( أخّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق) ثم أصبح فدعى السائل: فقال: (الوقت بين هذين).
والمراد بالشفق الوارد في الأحاديث هو الشفق الأحمر لا الأبيض، والأدلة على ذلك كثيرة:
قوله: (ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق أخرجه مسلم، والثّوَرَان إنما يطلق على الحمرة دون البياض.
قول ابن عمر (رضي الله عنهما): (الشفق: الحمرة).
القول الثاني: أنه ليس لها إلا وقت واحد، عند مغيب الشمس، وهوأشهر الروايات عن مالك، وقول الشافعي.
ودليلهم حديث ابن عباس في إمامة جبريل عليه السلام: وفيه (أنه صلى المغرب في اليومين حين غربت الشمس) .
قال ابن رشد المالكي:
وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد الله بن عمر وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد وفي حديث عبدالله ووقت صلاة المغرب مالم يغب الشفق فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتا واحدا ومن رجح حديث عبد الله جعل لها وقتا موسعا وحديث عبد الله خرجه مسلم ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل أعني حديث ابن عباس الذي فيه أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام عشر صلوات مفسرة الأوقات ثم قال له الوقت ما بين هذين والذي في حديث عبد الله من ذلك هو موجود أيضا في حديث بريدة الأسلمي خرجه مسلم وهو أصل في هذا الباب قالوا وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة .
والقول الراجح -والله تعالى أعلم –هو القول الأول لظهور أدلته، أما حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) في إمامة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه محمول على تأكيد الاستحباب وكراهية التأخير، جمعاً بينه وبين الحديثين المتقدمين وما في معناهما، وعلى فرض التعارض: فإن حديثيّ ابن عمرو وأبي موسى مقدمان ؛ لأنهما متأخران، فيبينان آخر الأمر بالمدينة.
وقت صلاة العشاء:
*أجمع أهل العلم على أن وقت العشاء يبدأ بمغيب الشفق، والمراد بالشفق هو الحمرة على الأرجح من قولي العلماء كما سبقت الإشارة إليه.
*أما آخر وقت العشاء ففيه خلاف قوي:
القول الأول: أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر.
القول الثاني: أن وقت العشاء ينتهي بانتصاف الليل.
القول الثالث: بالتفصيل ؛ فوقت الاختيار ينتهي بانتصاف الليل، وما بعده فوقت ضرورة إلى طلوع الفجر.
وسبب الخلاف في ذلك: تعارض الاثار ففي حديث إمامة جبريل أنه صلاها بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني ثلث الليل وفي حديث أنس أنه قال أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل خرجه البخاري وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل وفي حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى.
والراجح-والعلم عند الله - هو القول الثاني: أنه ينتهي بانتصاف الليل، وليس له وقت ضرورة، وهو قول ابن حزم(رحمه الله) وبعض الشافعية وبعض الحنابلة ، واختاره من العلماء المعاصرين الشيخ ابن عثيمين (حفظه الله).
والدليل عليه: حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (فإذا صليتم العشاء: فإنه وقت إلى نصف الليل) أخرجه مسلم.
واستدل القائلون بأن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر وقت للعشاء إما وقت اختيار، أو وقت ضرورة بحديث أبي قتادة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى).
فقالوا: إن هذا الحديث يدل على أن كل وقت متصل بالآخر، وعليه: فإن وقت العشاء لا يخرج إلا بدخول وقت الفجر.
والجواب عن هذا الاستدلال أن يقال: إن حديث أبي قتادة عام مخصوص بغيره، فكما خصّ منه وقت الفجر فإنه غير متصل بالظهر بالإجماع ، فكذا يُخَصّ منه أيضاً وقت العشاء بالسنة، كما سبق في حديث عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) الذي يدل على انتهاء وقت العشاء بانتصاف الليل.
وهنا ثلاثة تنبيهات:
الأول: يتوهم كثير من الناس أن الليل ينتصف عند الساعة الثانية عشرة، وهذا تصور خاطئ، والصواب: أن انتصاف الليل يُعرف بمضي نصف الوقت من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإذا كانت الشمس تغرب الساعة السادسة، والفجر يطلع الساعة الرابعة، فإن نصف الليل يكون الساعة الحادية عشرة تماماً، وبه يخرج وقت العشاء.
الثاني: يؤخر بعض الناس وخاصّة النساء صلاة العشاء إلى ما قبل النوم، ويكون التأخير في بعض الأحيان إلى ما بعد نصف الليل، وهذا خطأ كبير ينبغي التنبّه له وتحذير الآخرين منه.
الثالث: أن راتبة العشاء وهي ركعتان بعد العشاء يخرج وقتها بانتهاء وقت العشاء، وبعض الناس قد يؤخرها إلى آخر الليل، وحينئذ يكون فعلها قضاءً لا أداءً.
وقت صلاة الفجر:
أجمع العلماء على أن وقت الفجر يدخل بطلوع الفجر الثاني.
قال ابن قدامة: (وهو البياض المستطيل المنتشر في الأفق، ويسمّى الفجر الصادق).
ويخرج وقت الفجر بطلوع الشمس، لدليلين:
الأول: عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس) أخرجه مسلم.
الثاني: عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أدرك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) متفق عليه.والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.
************************************************************************
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾
التحريض في قيام الليل:
قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾ [الإسراء: 79]، وقال تعالى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [المزمل: 2]، والخطاب من الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- هو خطاب لأمته إلا إن ورد دليل بالخصوصية، فيختص به دون غيره.
ووصف الله عباد الرحمن، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾[الفرقان: 64]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[المزمل: 20].
قال الإمام النووي -رحمه الله-: نستفيد من هذه الآية أن وجوب صلاة الليل منسوخ في حق هذه الأمة، وهذا مجمع عليه.
ومن السنة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل».
وعن أبي إدريس الخولاني عَنْ بِلَالٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَد».
وجاء هذا الحديث من رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي أمامة -رضي الله عنه-.
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- يبلغ به النبي -صلى الله عليه و سلم-: «من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه».
عن سالم عن أبيه -رضي الله عنه- قال: كان الرجل في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا فأقصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكنت غلاما شابا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان،وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول أعوذ بالله من النار قال: فلقينا ملك آخر قال لي: لم ترع. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل». فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل».
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «استعينوا بطعام السحر على صيام النهار وبالقيلولة على قيام الليل».
(السحر): آخر الليل. (والقيلولة): الاستراحة نصف النهار.
وقيام الليل سنة. عن عمرة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم- فقام أناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا بذلك فقام ليلة الثانية فقام معه أناس يصلون بصلاته صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثا حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج فلما أصبح ذكر ذلك الناس فقال: إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل».
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "كان في أول الإسلام فريضة حولا كاملا فلما فرضت الصلاة الخمس صار قيام الليل فضيلة بعد فريضة"
ذكر القائمين حتى تورمت أقدامهم:
عن زياد قال سمعت المغيرة -رضي الله عنه- يقول: «إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه. فيقال له؟ فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا».
وعن امرأة مسروق قالت: كان (أي مسروق) يصلي حتى ترم قدماه فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه(16)، وقيل: حج مسروق فما بات ليلة إلا ساجدا.
وعن مجاهد قال: لما قيل لمريم، قال تعالى: ﴿يا مريم اقنتي لربك﴾ [آل عمران: 43]، قامت حتى ورمت قدَماها.
أفعال السلف وأقوالهم في القيام:
عن عبيد الله قال: كان عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-: إذا هدأت العيون قام فسمعت له دويا كدوي النحل.
وكان انس -رضي الله عنه- يصلي حتى تتفطر قدماه مما يطيل القيام -رضي الله عنه-.
قال الذهبي: "بلغنا أن معاذة العدوية كانت تحيي الليل عبادة وتقول: عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في القبور".
وصدق الشاعر حيث قال:
صلاتك نور والعباد رقود * ونومك ضد للصلاة عنيد
وعمرك غنم إن عقلت ومهلة * يسير ويفنى دائما ويبيد
وقال الربيع: بت في منزل الشافعي-رحمه الله- ليالي كثيرة فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرا. وقال أبو الجويرية: لقد صحبت أبا حنيفة -رحمه الله- ستة أشهر فما فيها ليلة وضع جنبه على الأرض، وكان أبو حنيفة يحيي نصف الليل فمر بقوم فقالوا: إن هذا يحيى الليل كله، فقال: إني أستحي أن أوصف بما لا أفعل فكان بعد ذلك يحيى الليل كله.
قال على بن الحسن بن شفيق: لم أر أحداً من الناس أقرأ من ابن المبارك، ولا أحسن قراءة ولا أكثر صلاة منه، وكان يصلي الليل كله في السفر وغيره. وقال محمد بن أعين وكان صاحب ابن المبارك في الأسفار، وكان كريماً عليه. قال: ذهب عبد الله ذات ليلة ونحن في غزاة للروم ليضع رأسه ليريني أنه ينام، فوضعت رأسي على الرمح كأني أنام، فظن أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه، فلما طلع الفجر أيقظني وهو يظن أني نائم وقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنم، قال: فلما سمعها منى ما رأيته بعد ذلك يكلمني ولا ينبسط إليَّ في شيء من غزاته كلها، كأنه لم يعجبه ذلك مني لما فطنت له من العمل.
والحديث عن هذه المقاصد العظيمة والمطالب العالية المتعلقة بفضل قيام الليل وشأنه في حياة القلوب وعز النفوس وانشراح الصدور ونعيم الأرواح ومجاهدة النفس والهوى ودفع الأعداء أمرٌ يطول ذكره.
وليس القصد من هذا البحث الحديث عن أقوال السلف وأفعالهم، وإنما هي إشارات يسيرة، بها تنشرح الصدور، وتزكوا القلوب.
فالقصد هو تقييد بعض المسائل في أحكام قيام الليل وذكر أدلتها وبيان صحيحها من سقيمها. ولا يعظم العلم ويثمر إلا بالفقه الصحيح والعودة إلى الدليل وفهم مقاصد الشريعة وأسرارها وتسخير الجهود في ربط الوسائل بالمقاصد والغايات.
افتتاح قيام الليل:
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين لينشط لما بعدهما من الركعات.
عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: «لأرمقن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الليلة فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة».
قال النووي: ولهذا يستحب أن تفتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
وقال صاحب عون المعبود: هذا الحديث يدل على مشروعية افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما.
ومن الأذكار التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولها عند قيامه لليل، ما ورد عن طاوس أنه سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد - صلى الله عليه وسلم- حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك».
وعن عاصم بن حميد قال: سألت عائشة ماذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتتح به قيام الليل؟ قالت: «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك. كان يكبر عشرا. ويحمد عشرا. ويسبح عشرا. ويستغفر عشرا. ويقول: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة».
أفضل ساعات الليل للتهجد:
الأفضل في صلاة الليل الثلث الأخير من الليل لأنه وقت نزول الرب -جل وعلا-، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له».
وجاء في صحيح الإمام مسلم من طريق حفص وأبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر بالليل مشهودة وذلك أفضل»، وقال أبو معاوية: محضورة، أي: تحضرها ملائكة الرحمة.
فمن قام في أول الليل أوفي أوسطه، ففعله صحيح إذ قد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «من كل الليل قد أوتر رسول الله من أول الليل وأوسطه وآخره...»، إلا أن آخر الليل أفضل لأنه الأمر الذي استقر عليه فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد جاء في الصحيحين عن مسروق عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «من كل الليل قد أوتر رسول الله فانتهى وتره إلى السحر».
وفي رواية لمسلم من طريق يحي بن وثّاب عن مسروق عن عائشة قالت: «من كل الليل قد أوتر رسول الله من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر».
وقد ذهب أكثر أهل العلم: إلى أن الوتر من بعد صلاة العشاء، سواء جمعت جمع تقديم مع المغرب، أو أخرت إلى منتصف الليل، وأما قبل صلاة العشاء فلا يصح على الراجح.
وقد جاء من طريق ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني -رضي الله عنه- أن عمرو بن العاص - رضي الله عنه-: خطب الناس يوم جمعة فقال: إن أبا بصرة حدثني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاةالفجر.....»
مسألة الوتر ثلاثة فروع:
الفرع الأول: من نام عن وتره أو نسيه قبل صلاة الفجر:، فله صلاته بعد طلوع الفجر، قبل صلاة الصبح. فقد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره».
وورد الإجمال في رواية مسلم:«... من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها...».
وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول الإمام مالك، وقول للشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى.
الفرع الثاني: من فاته الوتر حتى طلعت عليه الشمس، فاختلف فيه أهل العلم على قولين:
القول الأول: يقضيه شفعاً. واستدلوا بحديث سعد بن هشام بن عامر...قال: قلت لعائشة -رضي الله عنها- أنبئيني عن قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ألست تقرأ: ﴿يا أيها المزمل﴾؟ «قلت: بلى. قالت: فإن الله -عز وجل- افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. قال قلت يا أم المؤمنين: أنبئيني عن وتر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني فلما سن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعيه الأول فتلك تسع يا بني وكان نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ولا أعلم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ القرآن كله في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان قال فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها فقال صدقت لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني به قال قلت لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها».
الشاهد من الحديث: «وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة».
القول الثاني: أنه يقضيه وتراً. قاله طاووس ومجاهد والشعبي وغيرهم، وحجتهم في ذلك حديث أبي سعيد، وقد سبق ذكره، ولفظه: «من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره» فهذا الحديث يدل على مشروعية قضاء الوتر بعد طلوع الشمس لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا ذكره». وقد قال الأوزاعي: "يقضيه نهاراً وبالليل مالم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة، ولا يقضيه بعد ذلك لئلا يجتمع وتران في ليلة".
وردوا عن حديث عائشة -رضي الله عنها- فقالوا: حديث عائشة ليس فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يوتر، فلعله أوتر أول الليل مقتصراً على أقل العدد لغلبة النوم أو الوجع، فلما أصبح صلى قيام الليل. وفي هذا التوجيه نظر. ويبعد حمل حديث عائشة على أنه أوتر أول الليل فإن هذا الأمر لو حدث لبينت ذلك عائشة فإن هذا الحكم من الأهمية بمكان.
والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- عندما صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة لم يكن قد أوتر.. ويؤيده حديث جندب -رضي الله عنه- قال:«اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين».
وقول عائشة -رضي الله عنها-: «صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة» يدل على ذلك فإنه لو أوتر أول الليل لصلى من النهار عشر ركعات. فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: «ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة».
وعن حميد بن عبد الرحمن قال: من فاته ورده من الليل فليقرأه في صلاة قبل الظهر فإنها تعدل صلاة الليل.
وتفسير هذه الرواية: بأن يصلى من النهار من فاته ورده من الليل ثنتي عشرة ركعة، فيكون قد قضى الوتر شفعا.
ويجاب عن حديث أبي سعيد: بأنه لم يقل بعمومه أحد من الصحابة والمنقول عن بعضهم قضاء الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح، فيحمل الحديث على قضاء الوتر في هذا الوقت (بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح) ولا تعارض بين قوله -صلى الله عليه وسلم- وفعله، وهذا هو الصحيح -والله أعلم-.
الفرع الثالث: من ترك الوتر متعمداً حتى طلع الفجر، فالحق أنه قد فاته، وليس له حق القضاء. ففي حديث أبي سعيد وقد تقدم تقييدُ الأمر بالقضاء فيمن نام عن وتره أو نسيه، فيخرج منه العامد. وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي سعيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له»، وأصل الحديث في صحيح مسلم أن أبا سعيد أخبرهم أنهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوتر؟ فقال: «أوتروا قبل الصبح». فدل الحديث على أن وقت الوتر قبل الصبح، واستثني من نام عن وتره أو نسيه فله أن يصليه إذا ذكره،- والله أعلم-.
وبعض أهل العلم لا يرى استحباب تقصد قراءة هذه السور الثلاث. وفي هذا الكلام نظر، وحديث أبي بن كعب وارد بذلك.
وقال بعض أهل العلم: لا يداوم على قراءة هذه السور في الوتر لأنه يفضي إلى اعتقاد أنها واجبة. لكن هذا التعليل ففيه نظر، وقد تقدم أن الوتر سنة، وقراءة هذه السور مسنون أيضا.
ويستحب إذا سلم من وتره أن يقول: سبحان الملك القدوس ثلاثاً لحديث أبي بن كعب-رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وفي الركعة الثانية ب قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة ب قل هو الله أحد ولا يسلم إلا في آخرهن ويقول يعني بعد التسليم سبحان الملك القدوس ثلاثا».
وفي حديث عبد الرحمن ابن أبزى وهو صحابي صغير: «ويرفع بسبحان الملك القدوس صوته بالثالثة». وزاد الدار قطني من حديث أبي ابن كعب: «رب الملائكة والروح»ولا تصح هذه الزيادة، والمحفوظ ما تقدم.
2- ما رواه أبو داود في سننه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن الصُنابِحِيّ قال: زعم أبو محمد أن الوتر واجب. فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد. أشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «خمس صلوات افترضهن الله -عز وجل- من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه».
ورواه أبو داود أيضاً من طريق مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمَخْدَجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ.
قَالَ الْمَخْدَجِيُّ فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ».
مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء:
لم يثبت فيه حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، ولم يصح عن الصحابة -رضي الله عنهم- لا في القنوت ولا في غيره، وقد اعتاد بعض العامة فعل ذلك ولم يرد ذلك. واعتاد آخرون رفع الأيدي عقب النوافل ومسح الوجه بها بدون دعاء.
قال الإمام أبو داود في مسائله: سمعت أحمد سئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ؟ قال: لم أسمع به. وقال مرة: لم أسمع فيه بشيء. قال: ورأيت أحمد لا يفعله.
وسئل مالك -رحمه الله- عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء؟ فأنكر ذلك وقال: ما علمت).
قال العظيم آبادي: "ويستحب رفع اليدين فيه(أي الدعاء) ولا يمسح الوجه. وقيل: يستحب مسحه".
ونقل المباركفوري قولا فقال: في الحديث دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء قيل: وكأن المناسبة أنه تعالى لما كان لا يردهما صفرا فكأن الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم.
ونقل صاحب مغني المحتاج عن العز ابن عبد السلام فقال: "وأما مسح الوجه عقب الدعاء خارج الصلاة فقال ابن عبد السلام بعد نهيه عنه: لا يفعله إلا جاهل"، وقال صاحب فقه العبادات: ولا يسن مسح الوجه أو الصدر عقب القنوت.
وقال الحافظ البيهقي -رحمه الله-: "فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث فيه ضعف وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس، فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف -رضي الله عنهم- من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة".
وسئل الشيخ ابن عثيمين: ما حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، والجسم، وتقبيل العينين؟
الجواب: الحمد لله لا يشرع مسح الوجه بعد الدعاء، وقد تواتر في السنة دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ربَّه، ولم يثبت أنه كان يمسح وجهه بعد دعائه.
وقد استدل من قال بالمسح بأحاديث، لكنها -عند التحقيق- ليست صحيحة، ولا يقوِّي بعضها بعضاً.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الأولى تركه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
القنوت:
أقوال الفقهاء في القنوت في الوتر:
قال الإمام أحمد: لا يصح فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء....).
وقال الإمام ابن خزيمة -رحمه الله-: "ولست أحفظ خبراً ثابتاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في القنوت في الوتر...". غير أنه ثبت عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- كما قال عطاء حين سئل عن القنوت؟ قال: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعلونه. وجاء عن بعض الصحابة أنه لا يقنت إلاّ في النصف من رمضان.
وقال الإمام الزهري -رحمه الله-: "لا قنوت في السنة كلها إلاّ في النصف الآخر من رمضان". وقال الإمام أبو داود: قلت لأحمد: القنوت في الوتر السنة كلها؟ قال: إن شئت، قلت: فما تختار؟ قال: أما أنا فلا أقنت إلاّ في النصف الباقي، إلاّ أن أصلي خلف الإمام فيقنت فأقنت معه.
وذكر ابن وهب عن مالك في القنوت في رمضان أنه قال إنما يكون في النصف الآخر من الشهر. وهذا مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله-. وفي وجه عنده يستحب القنوت في الوتر بالسنة كلها وهذه آخر الروايات عن الإمام أحمد -رحمه الله- . قال النووي -رحمه الله-: وهذا الوجه قوي في الدليل لحديث الحسن بن علي -رضي الله عنهما-.
والقنوت يشرع بأي دعاء ليس فيه اعتداء ولا سجع مكلف وتلحين مطرب ونحو ذلك مما اخترعه المتأخرون مما لا أصل له في الكتاب ولا في السنة ولا جرى به عمل الأئمة. بل هي اجتهادات فردية، أدّت إلى هذا، وقد جرّ هذا الأمر المغلوط إلى إطالة الدعاء والمبالغة فيه بما يشق على المأمومين.
هذا والأفضل في دعاء القنوت أن يبدأ الداعي أولاً بحمد الله تعالى والثناء عليه ويُثَنّي بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يدعو فإن هذا أقرب إلى الإجابة من دعاء مجرد من الحمد والثناء. لما روي عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال: «سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي -صلى الله عليه وسلم-. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عجل هذا ثم دعاه فقال له ولغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ليدع بعد بما شاء».
قال ابن القيم -رحمه الله-: "المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته ثم يسأل حاجته كما في حديث فضالة بن عبيد". وقد دل هذا الحديث على أن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- من أسباب إجابة الدعاء ومن هنا كان أبيُ بن كعب يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في قنوته بالصحابة.
وسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا يصلي على النبي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيها المصلي أدع تجب وسل تعط.
وقال الإمام إسماعيل القاضي:... عن عبد الله بن الحارث أن أبا حليمة معاذاً كان يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في القنوت). وهذا سند صحيح إلى أبي حليمة معاذ بن الحارث الأنصاري وهو مختلف في صحبته.وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وهو ممن أقامه عمر بن الخطاب يصلى التراويح بالناس في شهر رمضان.
رفع اليدين في القنوت:
وأما رفع اليدين في القنوت فقد منعه الإمام الأوزاعي وجماعة من أهل العلم. حتى قال الإمام الزهري: "لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان".
وذهبت طائفة من أهل العلم وهم الجمهور: إلى استحبابه لأن الأصل في الدعاء رفع اليدين. وقد قاسه جماعة من الفقهاء وأهل الحديث على قنوت النوازل. فقد سئل الإمام أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده وهل ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر؟ فقال: القنوت بعد الركوع. ويرفع يديه. وذلك على قياس فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في القنوت في الغداة.
وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل، يرفع يديه في القنوت؟ قال: نعم يعجبني. قال أبو داود: فرأيت أحمد يرفع يديه في القنوت. وذكر البخاري في جزء رفع اليدين. من طريق أبي عثمان قال: كان عمر يرفع يديه في القنوت، وقال البخاري: -رحمه الله-: "وهذه الأحاديث كلها صحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يخالف بعضها بعضاً....".
وذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ في آخر ركعة من الوتر قل هو الله أحد ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة.
وقال البيهقي -رحمه الله-: "...إلا أن عدداً من الصحابة -رضي الله عنهم- رفعوا أيديهم في القنوت مع ما رويناه عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم".
وأما رفع اليدين في القنوت فقد منعه الإمام الأوزاعي وجماعة من أهل العلم. حتى قال الإمام الزهري: "لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان".
وذهبت طائفة من أهل العلم وهم الجمهور: إلى استحبابه لأن الأصل في الدعاء رفع اليدين. وقد قاسه جماعة من الفقهاء وأهل الحديث على قنوت النوازل. فقد سئل الإمام أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده وهل ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر؟ فقال: القنوت بعد الركوع. ويرفع يديه. وذلك على قياس فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في القنوت في الغداة.
وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل، يرفع يديه في القنوت؟ قال: نعم يعجبني. قال أبو داود: فرأيت أحمد يرفع يديه في القنوت. وذكر البخاري في جزء رفع اليدين. من طريق أبي عثمان قال: كان عمر يرفع يديه في القنوت، وقال البخاري: -رحمه الله-: "وهذه الأحاديث كلها صحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يخالف بعضها بعضاً....".
وذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ في آخر ركعة من الوتر قل هو الله أحد ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة.
وقال البيهقي -رحمه الله-: "...إلا أن عدداً من الصحابة -رضي الله عنهم- رفعوا أيديهم في القنوت مع ما رويناه عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم".
عدد ركعات قيام الليل:
ثبتت في السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طرق متعددة أنه كان لا يزيد في قيام الليل على إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره.
فقد جاء في الصحيحين من طريق مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة -رضي الله عنها- كيف كانت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالت: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ: إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي».
قال الإمام النووي -رحمه الله-: هذا «إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي»من خصائص الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-.
وروى مالك في الموطأ عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر...).
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة".
وقال الترمذي: وأكثر ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، وأقل ما وصف من صلاته بالليل تسع ركعات.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: ورد في البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: أن صلاته -صلى الله عليه وسلم- بالليل سبع وتسع، وعند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أن صلاته -صلى الله عليه وسلم- من الليل ثلاث عشرة ركعة وركعتين بعد الفجر سنة الصبح، وفي حديث زيد بن خالد أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين خفيفتين ثم طويلتين...فتلك ثلاث عشرة، قال القاضي: قال العلماء: في هذه الأحاديث إخبار كل واحد من ابن عباس وزيد وعائشة بما شاهد، وأما الاختلاف في حديث عائشة فقيل: هو منها، وقيل: من الرواة عنها فيحتمل أن أخبارها بأحد عشرة هو الأغلب وباقي رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرا في بعض الأوقات فأكثره خمس عشرة بركعتي الفجر وأقله سبع وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قراءة كما جاء في حديث حذيفة وبن مسعود أو لنوم أو عذر مرض أو غيره أو في بعض الأوقات عند كبر السن كما قالت فلما أسن صلى سبع ركعات أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل كما رواه زيد بن خالد وروتها عائشة بعدها هذا في مسلم، وتعد ركعتي الفجر تارة وتحذفهما تارة.
حكم الوتر:
اختلف الفقهاء في حكم الوتر إلى قولين:
1- أنه سنة مؤكدة، كما هو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين. وهو قول مالك والشافعي وأحمد، والأخبار في هذا كثيرة.
2- أنه واجب، وهو مذهب أبي حنيفة -رحمه الله-.وقال غيره: واجب على أهل القرآن.
من أدلة الجمهور:
1- ما ورد في الصحيحين من حديث طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ-رضي الله عنه- قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصِيَامُ رَمَضَانَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزَّكَاةَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ».
الشاهد من الحديث قوله: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» فما زاد على الخمس المفروضات فهو تطوع.
الوتر:
1- فله أن يوتر بركعة. لحديث ابن عمر السابق: «فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة...». وعند مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن أبي مجلز قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الوتر ركعة من آخر الليل» وإن صلى قبلها شفعاً فهذا أفضل للرواية الواردة: «... فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت».
قال صاحب عون المعبود: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «فإذا خشي أحدكم الصبح» استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، واستدل به على مشروعية الإيتار بركعة واحدة عند مخافة هجوم الصبح، ويدل أكثر الأحاديث الصحيحة الصريحة على مشروعية الإيتار بركعة واحدة من غير تقييد.
وعن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين».
وقد يطلق على الركعة سجدة. فعن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر حدثهم أن رجلا نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد فقال: يا رسول الله كيف أوتر صلاة الليل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من صلى فليصل مثنى مثنى فإن أحس أن يصبح سجد سجدة فأوترت له ما صلى».
قال الأمام النووي -رحمه الله-: ونستفيد مما سبق أن الوتر ركعة وإن الركعة صلاة صحيحة.
2- وله أن يوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع إلاّ أنه إذا أوتر بثلاث لا يتشهد تشهدين، بل يقتصر على التشهد في آخر الصلاة. عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها».
وعمدة القائلين باستحباب القنوت في السنة كلها هو حديث الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قال: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن في قنوت الوتر: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت» والحديث من طريق أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن به. ورواه أحمد من طريق يونس بن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء بمثله. و إسناده جيد، إلاّ زيادة (قنوت الوتر). فقد رواه أحمد في مسنده عن يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني بريد بن أبي مريم بلفظ: «كان يعلمنا هذا الدعاء، اللهم اهدني فيمن هديت...»وشعبة أوثق من كل من رواه عن بريد فتقدم روايته على غيره، وزيادة الثقة تقبل بضوابط.
قال ابن خزيمة -رحمه الله-: "وهذا الخبر رواه شعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء، ولم يذكر القنوت ولا الوتر. قال: وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق، وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه. اللهم إلاّ أن يكون كما يدعي بعض علمائنا أن كل ما رواه يونس عن من روى عنه أبوه أبو إسحاق هو مما سمعه يونس مع أبيه ممن روى عنه. ولو ثبت الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بالقنوت في الوتر أو قنت في الوتر لم يجز عندي مخالفة خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولست أعلمه ثابتاً".
وقد تقدم قول الإمام أحمد "لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء" ولكن ثبت القنوت عن الصحابة -رضي الله عنهم- على خلاف بينهم، هل يقنت في السنة كلها أم لا، والحق فيه أنه مستحب لتعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحسن، ولفعل الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-، والحديث صححه الشيخ الألباني.
ومن أدلة الموجبين:
1- حديث أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ». وهذا الحديث لا يصح إلاّ موقوفاً. قاله أئمة الحديث.
2- وحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا». وهذا الحديث فيه مقال شديد عند المحدثين، فلا يصح هذا الحديث.
3- وحديث علي -رضي الله عنه- مرفوعاً: «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر». وهو دليل لمن أوجب الوتر على أهل القرآن، وهذا الحديث في صحته نظر، لان الحديث عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي، وأخذ الحديث عن أبي إسحاق جمع، لكن أحفظ وأضبط من رواه عن أبي إسحق هو سفيان الثوري، وفي روايته: «الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم».
فترجح من هذا قول الجمهور أن الوتر سنة وليس بواجب وعلى افتراض أن في أحاديث الموجبين شيء من الصحة فتحمل على تأكد السنية إذ قد دلت أحاديث أخرى على عدم الوجوب -والله أعلم-.
كيفية صلاة الليل:
ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد وغيرهم إلى أن صلاة الليل مثنى مثنى إلاّ ركعة الوتر، على خلاف بينهم هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب. وحجتهم في هذا ما جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر-رضي الله عنهما- أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الليل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى». وقوله: «مثنى مثنى»معدول عن اثنين اثنين.
وعندما سئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن معنى: مثنى مثنى؟ قال: أن تسلم في كل ركعتين.إذًا فالمراد أن تسلم في كل ركعتين، قيل: وجوباً. وقيل: استحباباً.
قال في المبدع: فإن زاد على ذلك فاختار ابن شهاب والمؤلف أنه لا يصح، وللإمام أحمد فيمن قام في التراويح إلى ثالثة ثلاثة أقوال:
1- يرجع وإن قرأ، لأن عليه تسليماً، ولابد للحديث السابق.
2- يصح مع الكراهة. ذكره جماعة، وهو المشهور، سواء علم العدد أو نسيه).
3- لا يكره، وهو مذهب أبي حنيفة حيث قال -رحمه الله- في صلاة الليل: "إن شئت ركعتين وإن شئت أربعاً وإن شئت ستاً وثمانياً لا تسلم إلا في آخرهن". والأفضل في مذهب أبي حنيفة: صلاة أربع بسلام واحد لخبر عائشة في الصحيحين حين سألها أبو سلمة بن عبد الرحمن عن كيفية صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل؟ قالت: «يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً...».
وهذا الحديث مجمل ليس فيه التصريح بصلاة أربع بسلام واحد، والاحتمال فيه وارد، فعلى الأخذ بالظاهر فيكون صلى الأربع بسلام واحد، وحديث: «صلاة الليل مثنى مثنى» يدل على التسليم في كل ركعتين، فللاحتمال السابق يحمل حديث ابن عمر على الاستحباب، وأنه الأكثر استعمالاً.
قال الإمام النووي -رحمه الله-: يجوز جمع ركعات بتسليمة واحدة، وهذا لبيان الجواز وإلا فالأفضل التسليم من كل ركعتين، وهو المشهور من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والعبادات الواردة على وجوه متنوعة يعمل بها كلها، وهذا أفضل من المداومة على نوع واحد وهجر غيره فإن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عمل الأمرين، وكان يصنع ذلك مثل دعاء الاستفتاح بالصلاة وغيره، وهذا أمر عام في كل العبادات الواردة على هذا الوجه والقول الجامع فيها مراعاة المصالح، وهذا يختلف باختلاف الأحوال والبلاد والأشخاص -والله أعلم-.
وعلى أنه يصلي أربعا هل يتشهد في الركعتين أم يصلي الأربع بتشهد واحد؟ لم يرد في ذلك دليل، أما التسليم فلا يسلم إلاّ في آخرهن.
فائدة: قال ابن عبد البر: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة الليل مثنى مثنى...» وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا وتران في ليلة»، ومعلوم أن المغرب إن أعادها كانت إحدى صلاتيه تطوعا وسنة التطوع أن تصلي ركعتين وغير جائز أن يكون وتران في ليلة لأن ذلك لو كان صار شفعا وبطل معنى الوتر فلما كان في إعادة المغرب مخالفة لهذين الحديثين منع مالك من إعادتها.
والسنة أيضاً لمن صلى تسع ركعات أن لا يجلس فيها إلاّ في الثامنة فيجلس ويذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض بدون سلام، ثم يصلى التاسعة ثم يسلم لحديث سعد بن هشام بن عامر قال: قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَتْ: «كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلاَّ فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّ التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ فَلَمَّا سَنَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا...». وجاء في هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين بعدما سلم وهو قاعد.
فالتنويع في هذه الصيغ أفضل محافظة على السنة واتباعاً للنصوص الواردة في هذا الباب، وعملا بالروايات الصحيحة كلها، والكل سنة بما في ذلك قيام الليل.
قال أبو عمر: القيام في رمضان تطوع، وكذلك قيام الليل كله تطوع، وقد خشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفرض على أمته، فمن فرضه أوقع ما خشيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخافه وكرهه على أمته، وإذا صح أنه تطوع فقد علمنا أن التطوع في البيوت أفضل إلا أن قيام رمضان لا بد أن يقام اتباعا لعمر ابن الخطاب، واستدلالا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فإذا قامت الصلاة في المساجد: فالأفضل عندي حينئذ حيث تصلح للمصلى نيته وخشوعه وإخباته وتدبر ما يتلوه في صلاته فحيث كان ذلك مع قيام سنة عمر فهو أفضل إن شاء الله.
فيما يقرأ في الوتر:
السنة لمن أوتر بثلاث أن يقرأ بعد الفاتحة: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾[الأعلى: 1]، وفي الثانية: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1]، وفي الثالثة: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]. لحديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب-رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد».
وأما قراءة المعوذتين بعد الإخلاص: فقد استحب الإمامان مالك والشافعي -رحمهما الله- قراءة المعوذتين بعد الإخلاص. وذلك لما ورد:
1- من طريق خصيف عن عبد العزيز بن جريج عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- :«كان يقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين».
2- من طريق يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة به.
وقد أنكر الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم زيادة المعوذتين بعد الإخلاص في الوتر.
أقوال المحدثين في الحديث السابق (حديث عائشة) الذي ورد من طريق خصيف، ويحي ابن أيوب:
- من طريق خصيف: الحديث فيه انقطاع، قاله الإمام أحمد وابن حبان وجماعة، فإن ابن جريج لم يسمع من عائشة. وقال البخاري: عبد العزيز بن جريج عن عائشة لا يتابع في الحديث. والراوي عن عبد العزيز بن جريج خصيف بن عبد الرحمن وهو سيء الحفظ، وقد ضعفه أحمد وابن خزيمة، وقال يحيى بن سعيد القطان: "كنا تلك الأيام نجتنب حديث خصيف".
- من طريق يحي ابن أيوب: هذا الحديث صححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي بشيء، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن يحيى بن أيوب المصري؟ فقال: كان يحدث من حفظه، وكان لا بأس به، وكان كثير الوهم في حفظه، فذكرت له من حديثه عن يحيى عن عمرة عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر...» الحديث. فقال: ها، من يحتمل هذا، وقال مرة: كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا، وأنكر حديث يحيى خاصة).
وقال العقيلي: "أما المعوذتين فلا يصح" ففي هذا الخبر ضعف، فيقرأ المصلي بالوارد من صحيح الأخبار: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1], في الأولى، وفي الثانية: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: 1]، وفي الثالثة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]. وكما تقدم فإن الإمام الألباني صحح الحديث.
وما جاء أن الناس كانوا يقومون في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. فقد رواه مالك وغيره لكن بسند منقطع.
وجاء عند عبد الرزاق عن داود ابن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر -رضي الله عنه- جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر...
لكنه ورد عند مالك عن محمد بن يوسف: "أن عمر-رضي الله عنه- جمع الناس في رمضان... بإحدى عشرة ركعة"، وهذا أصح من رواية داود ابن قيس، وأهل العلم بالحديث يقدمون الأحفظ على من دونه بالحفظ، فرواية ممالك مقدمة، فتقرر بهذا أن السنة عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، لأن هذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي داوم عليه ولم يذكر عنه خلافه، وعليه جرى العمل في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ووافقه عليه الصحابة ولم يأت عن أحد منهم شيء صحيح يخالف هذا، وغاية ما يحتج به القائلون بسنية ثلاث وعشرين ركعة اجتماع الناس في عهد عمر على ذلك، وعمومات صحّ تقييدها، والمحفوظ أنّه جمعهم على إحدى عشرة ركعة، كما تقدم.
وأنبه على أن ترجيح هذا القول لا يجعل القول الآخر بدعة،فالمسألة اجتهادية والخلاف فيها وارد.
وقد قال كثير من أهل العلم بالزيادة، ورأوا أن من صلى عشرين ركعة أو ثلاثاً وعشرين أو أكثر أنه مصيب ومأجور.
وذكر الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- إجماع العلماء على هذا فقال: "وقد أجمع العلماء على أن لا حدّ ولاشيء مقدر في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود".
غير أن البحث عن الراجح والعمل بالأفضل مطلب من مطالب الشريعة، وقد بينت السنة بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي داوم عليه حتى فارق الحياة وجرى عليه عمل أصحابه من بعده أن قيام الليل إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره، وهو الصحيح.
تنبيه: لم يصح عن أحد من الصحابة الكرام التفريق في رمضان بين أول الشهر وآخره على عادة الناس اليوم بل كانوا يقومون بهذا العدد طِوال حياتهم، ويجتهدون في العشر الأواخر في الكيفية دون الكمية، فيطيلون القيام والركوع والسجود متلذذين بتدبر القرآن، متنعمين بالوقوف بين يدي رب العالمين، ولم تكن همة أحدهم مصروفة إلى هَذّ القراءة أو تكثير عدد الركعات والإخلال بالطمأنينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق