قوله تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) النساء/3
العدد المسموح للرجل ان يجمع بهن من النساء و شروطه
قال الله تعالى في كتابه العزيز
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) النساء/3 .
فهذا نص في إباحة التعدد فقد أفادت الآية الكريمة إباحته ، فللرجل في شريعة الإسلام أن يتزوج واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ، بأن يكون له في وقت واحد هذا العدد من الزوجات ، ولا يجوز له الزيادة على الأربع ، وبهذا قال المفسرون والفقهاء ، وأجمع عليه المسلمون ولا خلاف فيه
الزواجَ الثاني تعتريه الأحكامُ الخمسة، مثل أيِّ مباحٍ مِن المباحات، فيكون
• واجبًا: إذا خاف الرجلُ على نفسِه الوقوعَ في الزِّنا، شرْط قيامِه بواجبِ العدل.
• مندوبًا: إذا غلَب على الظنِّ تحقيقُ مصلحةٍ مِن ورائه.
• مباحًا: إذا استوتْ عندَه المصالحُ والمفاسِد.
• مكروهًا: إذا غلَب على الظنِّ أنَّ المفاسدَ أكبر.
• حرامًا: إذا كان غيرَ قادرٍ على تحقيقِ العدالة بيْن أُسَرِه جميعًا.
شروط تعدد الزوجات
وليُعلم بأن التعدد له شروط
أولاً : العدل
لقوله تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) النساء/3 ، أفادت هذه الآية الكريمة أن العدل شرط لإباحة التعدد ، فإذا خاف الرجل من عدم العدل بين زوجاته إذا تزوج أكثر من واحدة ، كان محظوراً عليه الزواج بأكثر من واحدة .
والمقصود بالعدل المطلوب من الرجل لإباحة التعدد له ، هو التسوية بين زوجاته في النفقة والكسوة والمبيت ونحو ذلك من الأمور المادية مما يكون في مقدوره واستطاعته .
وأما العدل في المحبة فغير مكلف بها ، ولا مطالب بها لأنه لا يستطيعها ، وهذا هو معنى قوله تعالى :
( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) النساء/129
ثانياً : القدرة على الإنفاق على الزوجات :
والدليل على هذا الشرط قوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) النور/33. فقد أمر الله في هذه الآية الكريمة من يقدر على النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف ، ومن وجوه تعذر النكاح : من لا يجد ما ينكح به من مهر ، ولا قدرة له على الإنفاق على زوجته ". المفصل في أحكام المرأة ج6 ص286
*************************************************************************
الآية الثانية
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا
تعريف المهر
لغة: الـمَهْرُ: الصَّداق، والـجمع مُهور؛ وقد مهر الـمرأَة يَمْهَرُها ويَمْهُرُها مَهْراً وأَمهَرَها. ومَهَرْتها، فهي مـمهورة، أَعطيتها مهراً. وأَمهرتها: زوّجتها غيري علـى مهر. والـمَهِيرة: الغالـية الـمهر. والـمَهارة: الـحِذق فـي الشيء. والـماهر: الـحاذق بكل عمل[2].
اصطلاحا: هو مال يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة منافع البضع, إما بالتسمية أو بالعقد[3].
اعترض بعدم شموله للواجب بالوطء بشبهة ومن ثم عرفه بعضهم بأنه: اسم لما تستحقه المرأة بعقد النكاح أو الوطء[4].
2 ـ أسماء المهر:
اهتم الفقهاء[5] بتعديد المصطلحات الدالة على المهر، بل رتبوا على بعضها أحكاما، وقد جمع بعض تلك المصطلحات الناظم في قوله:
صداق ومهر نحلة وفريضة حباء وأجر ثم عقد علائق
وهذه تعاريف هذه المصطلحات:
العقر[6]: هو ما تعطاه المرأة على وطء الشبهة , وأصله: أن واطئ البكر يعقرها إذا افتضها, فسمي ما تعطاه للعقر عقرا , ثم صار عاما لها وللثيب , وجمعه: أعقار، وقال ابن المظفر: عقر المرأة دية فرجها إذا غصبت فرجها، وقال الجوهري: هو مهر المرأة إذا وطئت بشبهة.
الأجر: مصدر أجره يأجره، إذا أثابه وأعطاه جزاء عمله، ويستعمل الأجر بمعنى الإجارة وبمعنى الأجرة[7]، وقد سمى القرآن مهر المرأة أجرا كما في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ (الأحزاب:50)، وقد سمي المهر أجرا لأنه بدل المنافع وليس ببدل عن الأعيان, كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا.
الطول: وهو السعة والغنى، يقال طال المطلوب طولا في الإفضال والقدرة وفلان ذو طول أي ذو قدرة في ماله بفتح الطاء وطولا بضم الطاء في ضد القصر[8]، والمراد ههنا القدرة على المهر وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك في المدونة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وقد نسبه القرطبي إلى أكثر أهل العلم، وقد عرفه بأنه:(كل ما يقدر به على النكاح من نقد أو عرض أو دين على مليء) [9]
الصداق: هو المهر، وسمي بذلك لإشعاره بصدق رغبة باذله في الزواج الذي هو الأصل في إيجاب المهر، وقد فرق بين المهر والصداق بأن الصداق ما وجب بالزواج، والمهر ما وجب بغير ذلك[10].
3 ـ حقيقة المهر:
حقيقة المهر:
اختلفت آراء الفقهاء في حقيقة للمهر بناء على ما ورد له من مصطلحات قرآنية دالة عليه على قولين:
القول الأول: أنه عوض عن شيء ملكه الزوج في مقابلته، وهو ملك المتعة، ومن هنا حكموا بفساد العقد إذا تزوجها على ألا مهر لها وقبلت ذلك قياساً له على البيع إذا نفى فيه الثمن[11]، ومن الأدلة على ذلك أن القرآن سماه أجراً في قوله تعالى:
﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(النساء:24)،
وفي الآية التي بعدها يقول:
﴿وآتوهن أجورهن بالمعروف﴾ (النساء:25)
القول الثاني: أنه هدية لازمة فرضها الشارع من غير مقابلة شيء، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن القرآن سماه نحلة في قوله تعالى:
﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾(النساء: 4)
والنحلة تطلق على ما ينحله الإنسان ويعطيه هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض،
قال الجصاص: (نحلة يعني بطيبة أنفسكم، يقول لا تعطوهن مهورهن، وأنتم كارهون ولكن آتوهم ذلك وأنفسكم به طيبة، وإن كان المهر لهن دونكم، فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلة، لأن النحلة هي العطية،وليس يكاد يفعلها الناحل إلا متبرعا بها طيبة بها نفسه، فأمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه)[12]
.أن البيع بغير ذكر ثمن لا يحل، والزواج بغير ذكر صداق حلال صحيح
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة، والأوفق بمقاصد الشريعة هو القول الثاني، لأن القول الأول يقتضي أن المعاشرة الجنسية حق للرجل وحده، مع أنها كما سنرى ذلك في الفصل الخاص بها حق لكليهما.
وقد اشتد ابن حزم على أصحاب القول الأول، ومما قاله في الرد عليهم:(وليت شعري، ماذا باع أو ماذا اشترى، أرقبتها؟ فبيع الحر لا يجوز، أم فرجها؟ فهذا أبين في الحرام، وهو قد استحل بكلمة الله تعالى فرجها الذي كان حراما عليه قبل النكاح، كما استحلت بكلمة الله تعالى فرجه الذي كان حراما عليها قبل النكاح، ففرج بفرج، وبشرة ببشرة وأوجب الله تعالى عليه وحده الصداق لها زيادة على استحلالها فرجه، وليس البيع هكذا إنما هو جسم يبادل بجسم، أحدهما ثمن والآخر مبيع مثمون لا زيادة هاهنا لأحدهما على الآخر) [13]
واعتبار المهر معاوضة من المعاوضات منتقض بأن الشرع لم يشترط فيه شروط المعاوضات من نفي الجهالة للمرأة، بل يجوز العقد على المجهولة مطلقا، ولا تعرض لتحديد مدة الانتفاع، وفي ذلك كله وشبهه دليل على عدم قصد الشرع إلى المعاوضة، وأنه إنما جعله شرطا لأصل الإباحة، (وقاعدة الشرط أن يتعين ثبوته عند ثبوت المشروط، فلذا قال في المشهور بعدم التقرر مطلقا إلا بالدخول أو بالموت، لأن الصداق إنما التزم إلى أقصر الزوجين عمرا أو بالفراق ولم يجعله كالثمن) [14]
ثم إن من المقاصد في اعتباره نحلة وهبة للمرأة تعميق معاني المحبة والمودة بين الزوجين بخلاف اعتباره عوضا، فالهدية تنتج المحبة، والتلاحي في المهر باعتباره عوضا ينشئ الشحناء والبغضاء.
والتعبير في الآية بلفظ النحلة يشير إلى ذلك، وغيره، ولا بأس هنا أن ننقل كلاما لسيد قطب، يشير إلى بعض المعاني التي يوحي بها اختيار القرآن هذا اللفظ، يقول سيد ـ رحمه الله ـ بتصرف:
(وهذه الآية تنشىء للمرأة حقا صريحا، وحقا شخصيا، في صداقها، وتنبى ء بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى. واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر. واحدة بواحدة. صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين، كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار، والصداق حقا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده، لتقبضه المرأة فريضة لها، وواجبا لا تخلف فيه. وأوجب أن يؤديه الزوج "نحلة " - أي هبة خالصة لصاحبتها - وأن يؤديه عن طيب نفس، وارتياح خاطر. كما يؤدي الهبة والمنحة. فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها - كله أو بعضه - فهي صاحبة الشأن في هذا؛ تفعله عن طيب نفس، وراحة خاطر؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه، وأكله حلالا طيبا هنيئا مريئا. فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل، والاختيار المطلق، والسماحة النابعة من القلب، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك) [15]
ثم ذكر سيد الآثار التي أنشأها هذا التصور لمعنى المهر، والذي يخالف التصورات الجاهلية فقال:(وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها، وحقها في نفسها وفي مالها، وكرامتها ومنزلتها، وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة) [16]
حكم المهر
1 ـ حكمه التكليفي:
اتفق الفقهاء على أن المهر حق واجب للمرأة على الرجل[17]، وقد دل على ذلك الكتاب والسنةوالإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى:
﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(النساء: 24)،
وقال تعالى:﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾(النساء: 4)،
وقال تعالى:﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(النساء:24)
أما السنة: فقد دلت على ذلك الأحاديث الكثيرة، ومنها:
· أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى على عبد الرحمن بن عوف درع زعفران , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مهيم؟ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة. فقال: ما أصدقتها؟. قال: وزن نواة من ذهب. فقال: بارك الله لك، أولم ولو بشاة[18].
· أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية , وجعل عتقها صداقها[19].
الإجماع: أجمع المسلمون على مشروعية الصداق في الزواج، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:
﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾(النساء: 4)
:(هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه، ولا خلاف فيه إلا ما روى عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق، وليس بشئ،
لقوله تعالى:﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾(النساء: 4)، فعم،
وقال:﴿ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(النساء: 25)[20]
حبس الزوج لأجل المهر:
اختلف الفقهاء في حكم حبس الزوج إذا لم يدفع المهر الذي حل أجله على قولين[24]:
القول الأول: إنه لا يحل حبسه بمجرد قول المرأة: إنه مليء , وإنه غيب ماله، وهو قول جمهور العلماء، وقد انتصر له ابن القيم، وبين البديل عن الحبس بأن يتثبت الحاكم ويتحرى، فإن تبين له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفي أو يحبسه, وإن تبين له بالقرائن والأمارات عجزه لم يحل له أن يحبسه ولو أنكرت الزوجة إعساره , ومن الأدلة التي ساقها لذلك:
· عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( تصدقوا عليه (فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه:(خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك([25]، وهو صريح في أنه ليس لهم إذا أخذوا ما وجدوه إلا ذلك , وليس لهم حبسه ولا ملازمته.
· أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحبس طول مدته أحدا في دين قط , ولا أبو بكر بعده ولا عمر ولا عثمان - رضي الله عنهم - ; وقد كان علي - رضي الله عنه - لا يحبس في الدين , ويقول: (إنه ظلم)، وقال:(حبس الرجل في السجن بعد معرفة ما عليه من الحق ظلم)، ويروى أنه كان إذا جاءه الرجل بغريمه , قال: لي عليه كذا. يقول: اقضه فيقول: ما عندي ما أقضيه , فيقول: غريمه: إنه كاذب , وإنه غيب ماله. فيقول: هلم بينة على ماله يقضى لك عليه. فيقول: إنه غيبه. فيقول: استحلفه بالله ما غيب منه شيئا. قال: لا أرضى بيمينه. فيقول: فما تريد؟ قال: أريد أن تحبسه لي , فيقول: لا أعينك على ظلمه , ولا أحبسه , قال: إذن ألزمه , فيقول: إن لزمته كنت ظالما له , وأنا حائل بينك وبينه)
· أن الحبس من جنس الضرب , بل قد يكون أشد منه, وقد اتفق الفقهاء على أنه لو قال الغريم للحاكم: اضربه إلى أن يحضر المال , لم يجبه إلى ذلك فكيف يجيبه إلى الحبس الذي هو مثله أو أشد.
· أن الحبس عقوبة , والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها.
· أن السجن من جنس الحدود , فلا يجوز إيقاعها بالشبهة.
القول الثاني: تسأل الزوجة عن إعسار الزوج , فإن أقرت بإعساره لم يحبس له , وإن أنكرت إعساره , وسألت حبسه: حبس , لأن الأصل بقاء عوض المهر عنده , والتزامه للقسم الآخر باختياره يدل على قدرته على الوفاء، وهو قول الحنفية.
وقد اختلفوا في وقت سماع البينة بالإعسار، هل تكون قبل الحبس أو بعده، على قولين عندهم، وفي حال عدم السماع، اختلفوا في مدة الحبس، فقال بعضهم: تكون مدة الحبس شهرا, وقيل: اثنان , وقيل: ثلاثة , وقيل: أربعة , وقيل: ستة , والصحيح عندهم أنه لا حد له , وأنه مفوض إلى رأي الحاكم.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حبس المرأة لزوجها من أجل المهر لا خير فيه لكليهما، إلا إذا رأى ولي الأمر في ذلك مصلحة للمرأة، أو ردعا عن المماطلة، فيتخذ هذا الإجراء في أضيق الحدود، وقد يستعيض عنه بتكليفه بعمل تعود بعض أجرته لزوجته، أو يخصم من مرتبه ـ إن كان موظفا ـ ما يسد هذا الحق الذي وجب عليه، وقد رجح هذا القول، كما ذكرنا ابن القيم، فقال في دين المهر وفي سائر الديون:(والذي يدل عليه الكتاب والسنة , وقواعد الشرع: أنه لا يحبس في شيء من ذلك , إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل , سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض , وسواء لزمه باختياره أو بغير اختياره) [26]
أصحاب الحق في المهر:
المهر حق لثلاثة هم:
حق للشرع: في حال الابتداء لإبانة خطر العقد وصيانة المرأة عن الابتذال، ولذلك لا يجوز التنازل عنه بحال من الأحوال.
حق للمرأة: حالة البقاء بعد تمام العقد، ولذلك يجوز لها التنازل عنه لزوجها، بخلاف تنازلها عن عدم اشتراط المهر، فلا يحق لها لأنه حق الشرع.
حق للأولياء: فلذلك يجوز لهم الاعتراض إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها بأقل من مهر المثل، وقد تحدث الفقهاء هنا على الحلوان[27]، واختلفوا في حكمه , وفي حكم من اشترط عليه في الصداق حباء يحابى به الأب على أربعة أقوال[28]:
القول الأول: الشرط لازم والصداق صحيح، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو مذهب الحنابلة،وهو قول مسروق وعلى بن الحسين وقيل: يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء.
القول الثاني: إذا كان الشرط عند الزواج فهو لابنته , لأنه من جملة المهر، وإن كان بعد الزواج فهو له، إن فارقها زوجها قبل أن يدخل بها فلزوجها شطر أي نصف الحباء الذي وقع به الزواج لأنه من الصداق وهو يتشطر بالطلاق قبل الدخول[29]، وهو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي عبيد، وقول المالكية، ومن الأدلة على ذلك:
· قوله - صلى الله عليه وسلم -:( أيما امرأة نكحت على صداق أو حياء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، فما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته)[30]قال الشوكاني:( وفيه دليل على أن المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد من صداق أو حباء وهو العطاء أو عدة بوعد ولو كان ذلك الشيء مذكورا لغيرها وما يذكر بعد عقد النكاح، فهو لمن جعل له سواء كان وليا ولي أو المرأة نفسها)[31]
· سدا للذريعة، للتهمة فيما لو كان الشرط في عقد الزواج، فيكون ذلك الذي اشترطه لنفسه نقصانا من صداق مثلها، ولا توجد التهمة فيما إذا كان بعد انعقاد الزواج والاتفاق على الصداق[32].
وقد ذهب ابن العربي إلى التفصيل في المسألة، فقال:(والذي يصح عندي التقسيم، فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا، فإن كانت ثيبا جاز، لأن نكاحها بيدها، وإنما يكون للولي مباشرة العقد، ولا يمنع أخذ العوض عليه، كما يأخذه الوكيل على عقد البيع، وإن كانت بكرا كان العقد بيده، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج، وذلك باطل، فإن وقع فسخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية) [33]
القول الثالث: إن وقع في نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجا عنه لم يجب، وهو قول الشافعية.
القول الرابع: هو للمرأة مطلقا، وهو قول عطاء وجماعة من التابعين، وبه قال الثوري وأبو عبيد.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من التفريق بين حلوان ما قبل العقد، والهدايا التي تكون بعده، لنص الحديث على ذلك، وهو مع ما قيل فيه أولى من غيره، خاصة وأن كثيرا من المصالح الشرعية تستفاد من هذا القول.
ومنها أن الحلوان قبل المهر أشبه بالرشوة منه بالهدية، فقد يخاف الخاطب أن يرفض من المرأة أو من أوليائها، فيغريهم بهذا الحلوان، أو يستغل حاجتهم للمال فيرشوهم به، فتتحقق مصلحته من غير الطريق الشرعي، وقد يكون في ذلك مفسدة للمرأة، وأقل المفاسد أن هذا الحلوان قد يؤثر في مهره فيزيد من الحلوان بقدر ما ينقص من المهر.
أما ما بعد العقد، فإن المضار تنتفي، بل إن هناك بعض االمصالح المرجوة، مثل الصلة التي تحدثها مثل تلك الهدايا بين الزوج وأهل زوجته، والتي يكون مصدرها الصلة لا الاشتراط، وسنوضح هذا المقصد الشرعي عند الحديث عن حقوق الزوجة الاجتماعية.
وقد ذكر الفقهاء أن سبب الاختلاف في المسألة هو تشبيه الزواج في ذلك بالبيع فمن شبهه بالوكيل يبيع السلعة ويشترط لنفسه حباء قال لا يجوز الزواج كما لا يجوز البيع، ومن جعل الزواج في ذلك مخالفا للبيع قال: يجوز[34]، ونرى أن قياس الصداق على البيع أو أي عقد من عقود المعاوضات قياس مع الفارق، فالمرأة ليست سلعة، والمهر ليس ثمنا.
شروط المهر
من الشروط التي نص عليها الفقهاء، والتي لا يعتبر المهر مهرا إلا بتوفرها ـ على اختلاف بينهم في ذلك ـ الشروط التالية:
الشرط الأول ـ كون المهر متقوما
تعريف المال المتقوم:
لغة: قومت الشيء فتقوم , أي عدلته فتعدل، وقومت المتاع: أي جعلت له قيمة معلومة. من التقويم , وهو تحديد القيمة وتقديرها.
اصطلاحا: ويرد تعبير (المال المتقوم) في عرف الفقهاء على أحد شيئين:
·ما يباح الانتفاع به شرعا.
·ما يقابله في عرف الناس.
وسبب هذا الخلاف في التعريف أن الحنفية قسموا المال إلى قسمين: متقوم وغير متقوم, فاعتبروا المتقوم هو ما يحل الانتفاع به شرعا في حال الاختيار , وغير المتقوم: ما لا يحل الانتفاع به شرعا من الأموال.
بينما ذهب سائر الفقهاء إلى اشتراط حل الانتفاع شرعا في ماهية المال، وعلى ذلك لا يتصور عندهم مال لا يحل الانتفاع به شرعا , لانعدام الماهية بانتفاء شرطها، غير أنه يرد على ألسنتهم تعبير المال المتقوم، بمعنى المال الذي تقابله قيمة مادية في عرف الناس.
حكم كون المهر مالا متقوما:
اختلف الفقهاء في اشتراط أن يكون المهر مالا متقوما على الأقوال التالية:
القول الأول:اشتراط أن يكون المال متقوما، وهو قول الحنفية والمالكية، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ﴾(النساء: 24)،فشرطت الآية أن يكون المهر مالا , فما لا يكون مالا لا يكون مهرا فلا تصح تسميته مهرا.
· قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾(البقرة: 237)، فقد أمر تعالى بتنصيف المفروض في الطلاق قبل الدخول فيقتضي كون المفروض محتملا للتنصيف، وذلك لا يكون إلا في المال.
· أن الحديث الذي استدل به المخالفون، حملوه على إرادة: زوجتكها بسبب ما معك من القرآن وبحرمته وبركته، لا أنه كان ذلك الزواج بغير تسمية مال.
القول الثاني: عدم اشتراط التقوم في المال، وأن كل ما جاز أن يتملك بالهبة أو بالميراث جاز أن يكون صداقا، سواء حل بيعه أو لم يحل كالماء , والكلب , والسنور , والثمرة التي لم يبد صلاحها والسنبل قبل أن يشتد، وهو مذهب الظاهرية، قال ابن حزم: وهو قول سفيان الثوري , والأوزاعي , والحسن بن حي والليث بن سعد , وابن أبي ليلى , وابن وهب صاحب مالك , والشافعي , وأحمد بن حنبل وإسحاق , وأبي ثور , وأبي سليمان , وأصحابهم , وجملة أصحاب الحديث ممن سلف وخلف[35].
وقد أجاز ابن حزم كذلك أن يكون صداقا كل ما له نصف قل أو كثر، ولو أنه حبة بر أو حبة شعير أو غير ذلك , وكذلك كل عمل حلال موصوف , كتعليم شيء من القرآن أو من العلم أو البناء أو الخياطة أو غير ذلك إذا تراضيا بذلك، وقد استدل ابن حزم على ذلك بما يلي[36]:
· إطلاق الآيات الواردة في المهر، كما قال تعالى: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾(النساء: 4)، وقال تعالى ﴿ وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾(البقرة: 237)،
فلم يذكر الله تعالى في شيء من كتابه الصداق، فجعل فيه حدا بل أجمله إجمالا، مع أنه لو أراد أن يجعل للصداق حدا لا يكون أقل منه لما أهمله، ولا أغفله.
· أن الله تعالى إنما عظم أمر الصداق في إيجاب أدائه , وتحريم أخذه بغير رضاها , وذلك موجود في كل حق سواء كان كثيرا أو قليلا ,
كما قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾(الزلزلة: 7، 8)،
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) [37] مع أنه لا عظيم أعظم من اتقاء النار، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - كذلك قوله: (من حلف على منبري بيمين آثمة وجبت له النار وإن كان قضيبا من أراك) [38]
· الأحاديث الواردة في المهر بدون اشتراط أن يكون متقوما، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -:
(التمس ولو خاتما من حديد؟)، فالتمس الرجل فلم يجد شيئا , فقال: أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا , قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن[39]، قال ابن حزم:(والحديث مشهور ومنقول نقل التواتر من طريق الثقات)، ولا بأس أن نذكر هنا قول ابن حزم مع ما فيه من الحدة التي لا نوافقه عليها، ولكن نوافقه على رده على ما تأولوا به الحديث، قال ابن حزم بعد سياقه لروايات الحديث ـ بتصرف ـ:(فاعترضوا في هذا فقال: إنما كلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتما من حديد، مزينا يساوي عشرة دراهم من فضة, أو ثلاثة دراهم من فضة خالصة، فقول يضحك الثكلى ويسيء الظن بقائله ; لأنها مجاهرة بما لم يكن قط , ولا خلقه الله عز وجل قط في العالم أن تكون حلقة من حديد وزنها درهمان تساوي ما ذكروا ولا سيما في المدينة، وقد علم كل ذي حظ من التمييز أن مرورهم ومساحيهم لحفير الأرض , وشوافرهم وفؤوسهم لقطع الحطب , ومناجلهم لعمل النخل , وحصاد الزرع , وسككهم للحرث , ومزابرهم للزرجون , ودروعهم ورماحهم, كل ذلك من حديد فمن أين استحلوا أن يخبروا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكذبة السخيفة؟)[40]
· عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن عبد الرحمن بن عوف، قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كم سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولم ولو بشاة، قال أنس:وذلك دانقان من ذهب، وقد حدد ابن حزم قيمة ذلك في عصره بأن الدانق: سدس الدرهم الطبري - وهو الأندلسي - فالدانقان، وزن ثلث درهم أندلسي , وهو سدس المثقال من الذهب، وكذب الرواية في ذلك عن قتادة عن أنس في النواة المذكورة أنها قومت بثلاث دراهم، لأن حجاج أحد رواة الحديث ساقط ولا يعارض بروايته رواية عبد الرزاق.
· أن هذا قول السلف الصالح - رضي الله عنهم -، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (لو رضيت بسواك من أراك لكان مهرا)، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: (ليس على أحد جناح أن يتزوج بقليل ماله أو كثيره إذا استشهدوا وتراضوا)، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (من أعطى في صداق امرأة ملء حفنة من سويق أو تمر فقد استحل)،وعن عطاء، أنه قال في الصداق: أدنى ما يكفي: خاتمه , أو ثوب يرسله، وقال عمرو بن دينار: أدنى الصداق ما تراضوا به، وقال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت له، وعن سعيد بن المسيب أنه زوج ابنته ابن أخيه , فقيل له: أصدق؟ فقال: درهمين، وعن الحسن البصري - رضي الله عنه - أنه كان يقول في الصداق: هو على ما تراضوا عليه من قليل أو كثير , ولا يؤقت شيئا، وقال: ما تراضوا به عليه فهو صداق، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: يحل المرأة ما رضيت به من قليل أو كثير[
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لتواتر الآثار الكثيرة في اعتبار المهر هدية رمزية واجبة يقدمها الرجل لزوجه من غير تحديد شرعي لذلك، وسنرى أدلة أكثر لهذا الترجيح في محلها عند ذكر الحد الأدنى للمهر، والقول بهذا يتفق مع مقصد الشريعة من الزواج والتفريق بينه وبين سائر المعاوضات، فالصداق ـ كما ذكرنا سابقا ـ ليس عوضا، بل هو نحلة وعربون مودة يزيد في الصلة بين الرجل وزوجه، وأن العبرة فيه برضا الطرفين، فعن عامر بن ربيعة , أن امرأة من بني فزارة , تزوجت على نعلين , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه[42].
حكم اعتبار تحفيظ القرآن الكريم صداقا:
بناء على ما سبق، اختلف الفقهاء في اعتبار تحفيظ القرآن الكريم صداقا على قولين[43]:
القول الأول: عدم جواز جعل تحفيظ القرآن الكريم صداقا، وهو قول الحنفية والمالكية في المشهور عندهم وأحمد في رواية عنه، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن الزوجة لا يمكن استباحتها إلا بالأموال لقوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾(النساء: 24)، وذكر الله الطول في الزواج، والطول المال، والقرآن ليس بمال.
· أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يؤكل بالقرآن , أو يتعوض به شيء من أمور الدنيا، فعن عبادة - رضي الله عنه - قال: (كنت أعلم ناسا من أهل الصفة القرآن , فأهدى إلي رجل منهم قوسا , على أن أقبلها في سبيل الله. فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إن أردت أن يطوقك الله بها طوقا من النار , فاقبلها) [44]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه , ولا تجفوا عنه , ولا تأكلوا به , ولا تستكثروا به) [45]، وعن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،قال: (اقرؤوا القرآن، واسألوا الله به، فإن من بعدكم قوما يقرؤون القرآن يسألون به الناس) [46]،وعن جابر- رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والعجمي، فقال: اقرؤوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح[47]، يتعجلونه ولا يتأجلونه[48])[49]، وعن أبي - رضي الله عنه - قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن، فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة، فحاك في نفسي شيء، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن كـان ذلك الطعام طعامه وطعم أهله، فكل منه، وإن كان بحقك فلا تأكله) [50]
· أن تحفيظ القرآن الكريم ليس هو المهر المراد في الحديث، وإنما معناه ببركة ما معك من القرآن، أو بسبب ما معك من القرآن، أو من أجل أنك من أهل القرآن , وليس فيه دلالة على أنه جعله مهرا، ونفس التأويل حملوه على حديث أبي طلحة حين تزوج أم سليم على إسلامه فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - , فحسنه) [51]. فلم يعتبروا الإسلام مهرا في الحقيقة , وإنما معناه تزوجها على إسلامه , أي تزوجها لإسلامه[52]، وقد ذكر ابن حزم أنهم استدلوا بما روي عن أبي النعمان الأزدي قال: زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة على سورة من القرآن , ثم قال: لا يكون لأحد بعدك مهرا [53]، وذكر القرطبي زيادة أخرى ظاهرها الضعف، قال القرطبي:(وفيه زيادة تبين ما احتج به مالك وغيره، وفيه: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:من ينكح هذه؟ فقام ذلك الرجل، فقال: أنا يارسول الله،فقال: ألك مال؟ قال: لا يارسول الله، قال: فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم سورة البقرةوسورة المفصل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله عوضتها، فتزوجها الرجل على ذلك)، قال القرطبي: وهذا نص ـ لو صح ـ في أن التعليم لا يكون صداقا، قال الدارقطني: تفرد به عتبة بن الموطأ وهو متروك الحديث[54].
· أن تعليم القرآن الكريم فرض كفاية، فكل من علم إنسانا شيئا من القرآن، فإنما قام بفرض، فكيف يجوز أن يجعل عوضا للبضع، ولو جاز ذلك لجاز التزويج على تعليم الإسلام، وهو باطل، لأن ما أوجب الله تعالى على الإنسان فعله، فهو متى فعله فعله فرضا، فلا يستحق أن يأخذ عليه شيئا من أعراض الدنيا، ولو جاز ذلك لجاز للحكام أخذ الرشى على الحكم، وقد جعل الله ذلك سحتا محرما[55].
· القياس عل عدم صحة الإجارة أو البيع على التعليم، لأن الإجارات لا تجوز إلا لأحد معنيين: إما على عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه، وإما على وقت معلوم، وكان إذا استأجره على تعليم سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم، ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلم،وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الأوقات وكثيرها، وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن، لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الإجارات، وإذا كان التعليم لا يملك به المنافع ولاأعيان الأموال، فأولى من ذلك أن لا تملك به الأبضاع[56].
· أن تحفيظ القرآن الكريم لا يجوز أن يقع إلا قربة لفاعله.
القول الثاني: جواز جعل تحفيظ القرآن الكريم صداقا للمرأة، وهوقول الشافعية، وهو خلاف المشهور عند بعض المالكية[57]، وأحمد في رواية عنه، قال ابن عبد البر:(وأكثر أهل العلم لا يجيزون ما قال الشافعي)[58] واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن الحديث الثابت ورد بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوج ذلك الرجل تلك المرأة على تعليمه إياها سورا سماها.
· أن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقا.
· أنه لا وجه لقول من قال: إن ذلك كان من أجل حرمة القرآن، ومن أجل كونه من أهل القرآن، لأن في الحديث ما يبطل هذا التأويل، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: التمس شيئا، ثم قال له التمس ولو خاتما من حديد، ثم قال له: هل معك من القرآن شيء؟ فقال: سورة كذا، فقال: قد زوجتكها بما معك من القرآن، أي بأن تعلمها تلك السورة من القرآن.
· أن أبا طلحة تزوج أم سليم - رضي الله عنهما - على أن يسلم , فلم يكن لها مهر غيره , وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين،أحدهما: أن ذلك كان قبل هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمدة , لأن أبا طلحة قديم الإسلام , من أول الأنصار إسلاما , ولم يكن نزل إيجاب إيتاء النساء صدقاتهن به. الثاني: أنه ليس في ذلك الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك.
· أن اعتبار الخصوصية في ذلك يتنافى مع قول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(الأحزاب: 21)، فكل ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالفضل لنا والأجر والإحسان في أن نفعل كما فعل ائتساء به , والمانع من ذلك مخطئ , إلا أن يأتي نص قرآن أو سنة ثابتة بأنه خصوصي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحل أن يعمل به حينئذ.
· أنه لا يصح استدلالهم بنصف الصداق الوارد في الآية، في حال الطلاق قبل الدخول، لأنه إن كان قد علمها السورة التي أصدقها تعليمها فقد استوفت صداقها , ولا سبيل لها إليه , لأنه عرض قد انقضى - وإن كان لم يعلمها إياه فعليه أن يعلمها نصفها فقط , وهذا لا يحرم على أحد - يعني تعليم امرأة أجنبية - وقد كلم أمهات المؤمنين الناس.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكره أصحاب القول الثاني لصحة الحديث الوارد في ذلك، ولكن ذلك يبقى مربتبطا بحال لحاجة والضرورة، وليس مطلقا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر له القرآن الكريم كمهر يقدمه لها إلا بعد علمه بفاقته الشديدة، أو أن يكون ذلك برغبة منها، فالمهر حقها، ولها الحرية في تحديده، ولكنه مع ذلك، يستحب خروجا من الخلاف، وتأليفا لقلبها أن يقدم لها من الهدايا باسم المهر ما تسر له النساء، لأنه المقصد الأصلي من تشريع المهر.
أما ما استدل به المخالفون من الآية، فإن تفسير الآية محل نزاع بين العلماء، والأكثر على أنها في زواج المتعة، أو أنها منسوخة، فلذلك لا يصح الاستدلال بها على هذا الوجه، بل لو فرض صحة الاستدلال بها، فإنه يمكن توجيهها على أن المراد من الأموال فيها ما يشترطه الولي أو المرأة، ولا خلاف في وجوبه أما في حال عدم اشتراطه، أو اشتراط المنافع، فإنها تجب بإيجاب الولي أو المرأة.
ثم إن المال ما يمتلك، وله قيمة، ولا حرج في اعتبار القرآن لذلك من باب المجاز نوعا من المال، بل هو أغلى المال، وفي النصوص الشرعية الكثير مما يدل على ذلك.
ثم إن الحديث، في حال كون الآية محكمة، يقيد ما أطلقته الآية، ولا حرج في تقييد مطلق القرآن بالسنة، خاصة وقد علمنا مدى ثبوت الحديث، بل قد حكي تواتره.
أما ما ذكروه من النصوص واستدلوا به من النهي عن الأكل بالقرآن الكريم، فنحن نسلم له، ونقول به، ولا نرى تناقضا بينه وبين ما رجح هنا، ولا نرى حاجة لتضعيف الأحاديث، فهي من الكثرة بحيث يقوي بعضها بعضا، وقد حاولنا أن نجمع الكثير منها غير مكتفين بما سرد في كتب الفقه، ولكنا مع ذلك لا نراها متعلقة بهذا الموضوع، لأن المهر ليس ثمنا حتى تعتبر فيه المالية، وليس عوضا كسائر المعاوضات حتى يحرم استغلال القرآن لخدمة تلك المعاوضة، بل هو كما ذكرنا نوع صلة مادية تربط بين المرأة وزوجها، فلذلك كان القرآن أشرف ما يوثق هذه الرابطة.
حتى ولو اعتبر تعليم المرأة القرآن مهرا لها أكلا بالقرآن، فإن ذلك لا يصح تنزيل الأحاديث السابقة عليه، قال ابن حزم:(لو صح لم تكن لهم به حجة , لأن الأكل أكلان: أكل بحق , وأكل بباطل , فالأكل بحق حسن , وقد مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة - كمصعب بن عمير وغيره - يعلمون الأنصار القرآن والدين , وينفق الأنصار عليهم، قال الله تعالى:﴿ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُون﴾(المنافقون:7)، فأنكر الله تعالى على من نهاهم عن النفقة على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد النكير)
ولو فرضت صحة تلك الأحاديث فإنها معارضة بنصوص أخرى، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور:(إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله عز وجل) [59]
أما دعوى الخصوصية، فلا تسلم في هذا الموضع كما لا تسلم في أكثر المواضع، لعدم الدليل عليها، ولو ترك القول بها لمن شاء أن يقول لبطلت السنة، وبطل معها الإسلام جميعا قال ابن عبد البر:(دعوى التعليم على الحديث دعوى باطل لا يصح، وتأويل الشافعي على ما ذكرنا في هذا الباب محتمل، فأما دعوى الخصوص فضعيف لا وجه له، ولا دليل عليه) [60]
أما قياس المهر عل الإجارة والبيع كما ذكره الطحاوي، فلا يصح باعتبار المهر ليس من عقود المعاوضات، بل هو نحلة يقدمها الرجل لزوجه، ولو فرض ذلك، فإنه لا حرج في أن يجعل الرجل مبلغا من المال أو أن يبيع داره، أو يستأجر أجيرا، ثم يوفيه أجره علما ينتفع به، إذا ما تراضيا على ذلك، ولا عبرة في ذلك بطول الوقت وقصره، ولا حرج أن لا نسمي هذا العقد بيعا أو إجارة أو جعالة لأن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
أما اعتبار تعليم القرآن فرضا كفائيا، فلذلك لا يصح جعله مهرا، فإن جعله مهرا يحوله من الفرضية الكفائية إلى الفرضية العينية، مع أن الفرضية الكفائية متعلقة بالعموميات أو التفاصيل التي يحتاج إليها دون غيرها، فلم يقل أحد بوجوب تحفيظ الرجل زوجته القرآن الكريم لا بعضه، ولا كله.
أما الغاية المقاصدية من جعل المهر قرآنا، فهي غاية جليلة تؤكد المعاني الروحية التي يريدها الإسلام من الزواج، فليس مقصد الزواج في الإسلام شهوة تنطفئ، أو أجيالا تنشأ، أو غير ذلك فقط، بل إن قمتها هي في الترقي الروحي للزوجين، ورحلة الجميع إلى الله، وما أجمل أن يكون عربون تلك الرحلة القرآن الكريم كلام الله.
القدر الواجب من الإصداق بالقرآن:
اتفق القائلون بجواز اعتبار القرآن الكريم صداقا على أنه لا بد من تعيين ما يحفظها إياه من السور والآيات , لأن السور والآيات تختلف , كما اتفقوا على وجوب تحفيظها القدر المتفق عليه من السور والآيات[61] , واتفقوا على أنهم إذا شرطوا قراءة معينة يجب عليه أن يحفظها هذه القراءة , فإن خالف وعلمها قراءة أخرى غيرها فمتطوع، ويلزمه تعليمها القراءة المتفق عليها عملا بالشرط، ولكنهم اختلفوا هل يشترط تعيين القراءة التي يعلمها وفقا لها أم لا على قولين:
القول الأول: عدم اشتراط ذلك لأن كل قراءة تنوب مناب القراءة الأخرى، وهو مذهب جمهور الشافعية وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين للمرأة قراءة معينة، وقد كانوا يختلفون في القراءة أشد من اختلاف القراء اليوم، فيعلمها ما شاء من القراءات المتواترة[62].
القول الثاني: أنه يجب تعيين قراءة بعينها لأن الأغراض تختلف , والقراءات كذلك تختلف, فمنها صعب ومنها سهل , ونقل عن البصريين من الشافعية أنه يعلمها ما غلب على قراءة أهل البلد , وإن لم يكن فيها أغلب علمها ما شاء من القراءات.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو تعليمها أي قراءة قرآنية متواترة، ولا حرج في ذلك، لأنه لا يصح التفضيل بين القراءات، أما الأداءات المختلفة، فالمستحب أن يختار لها أيسر الأداءات، وذلك يكون غالبا مما أخذ به أهل البلد.
حكم جعل صداق الكتابية تعليمها القرآن:
اتفق الفقهاء على حرمة أن يجعل مهر الكتابية تعليمها من التوراة أو الإنجيل،لأنه منسوخ مبدل محرم[63]، واختلفوا في جواز جعل تعليمها القرآن صداقا على قولين:
القول الأول: جواز ذلك إذا كان يتوقع إسلامها، وهوقول الشافعية، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾(التوبة:6)
القول الثاني: عدم جواز ذلك وأن لها مهر المثل، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) [64]، وذلك مخافة أن تناله أيديهم فالتحفيظ أولى أن يمنع منه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، بل نرى استحباب تعليمها القرآن الكريم سواء جعل ذلك مهرا أو لم يجعل، أما الاستدلال على النهي عن ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو)، فاستدلال غير صحيح، فقد علل ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - :(مخافة أن يناله العدو)، ويقصد بذلك انتهاك حرمته[65].
ويوافق هذا أن الإجماع ورد على مفهوم هذا الحديث في حال الخوف على المصحف من الانتهاك، قال ابن عبد البر:(وأجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه) [66]
أما في غير ذلك، وحال عدم الخوف فقد اختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه، فقال مالك: لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ولم يفرق بين العسكر الكبير والصغير، وقال أبو حنيفة: يكره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو إلا في العسكر العظيم فإنه لا بأس بذلك.
ونرى أن المرأة التي اختارها زوجة، وتألفت بينهما عرى المودة والرحمة ليست جيش عدو يخاف عليها انتهاك حرمة المصحف، وليست دارهما بدار حرب، ولو كانت كذلك لمنع من إدخال المصحف إلى بيته.
ومن هذا الباب اختلاف الفقهاء في جواز تعليم الكافر القرآن، فمذهب أبي حنيفة أنه لا بأس بتعليم الحربي والذمي القرآن والفقه، وقال مالك: لا يعلمون القرآن ولا الكتاب، بل كره رقية أهل الكتاب، وعن الشافعي روايتان أحدهما الكراهة والأخرى الجواز.
ونرى في كلتا المسألتين قرب فقه أبي حنيفة من تحقيق الأمر بالجهاد بالقرآن الذي نص عليه في
قوله تعالى: ﴿ فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾(الفرقان:52)
وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾(التوبة:6)،
لأن الغرض من تعليم القرآن وتحفيظه الدعوة إلى ماجاء به، وكيف يؤمن الحربي أو الذمي، أو الزوجة بالقرآن، والحجب تحول بينهم وبينه بحجة قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾(التوبة:28)، أو قوله - صلى الله عليه وسلم -:(لا يمس القرآن إلا طاهر) أو أن من تنزيه القرآن وتعظيمه إبعاده عن الأقذار والنجاسات، وفي كونه عند أهل الكفر تعريض له لذلك وإهانة له.
ونرى أن كل هذه الفهوم والاستدلالات تخالف المقاصد الشرعية أولا، وتخالف النصوص الصريحة ثانيا، فقد كتب - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الكتاب المحاربين لا الذميين بكتب فيها قرآن، وكان يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي بسم الله الرحمن الرحيم، وقد قال ابن عبد البر:(فإن قال قائل أفيجوز أن يكتب المسلم إلى الكافر كتابا فيه آية من كتاب الله، قيل له: أما إذا دعي إلى الإسلام، أو كانت ضرورة إلى ذلك فلا بأس به) [67]
ثم أورد حديث أبي سفيان في قصة هرقل وحديثه، وفيه: فقرأ كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا فيه:(بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، و﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(آل عمران:64)
والآية الصريحة المذكورة سابقا تنص على ذلك، قال القرطبي في تفسيرها:(وإن أحد من المشركين، أي من الذين أمرتك بقتالهم، ﴿استجارك﴾ أي سأل جوارك أي أمانك وذمامك،فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه، فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأ منه وهذا ما لا خلاف فيه) [68]
فإن كان هذا التصرف يجوز،بل نؤمر به مع كافر محارب، فكيف لا يجوز مع الزوجة، ولذلك لا نرى حرجا في عصرنا أن تطبع المصاحف بلغات العالم المختلفة لتنشر في جميع ديار الحرب والذمة، معربة ومترجمة، بل نرى وجوب ذلك لاقتضاء الدعوة هذا السبيل، ولانتفاء محاذير الإهانة، فلا يمكن أن ننشر دين الله، ونحن نستر كتابه في بيوتنا مخافة أن يدنس، وكيف يدنس، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - يقرؤونه بملء أصواتهم والأصنام تحيط بهم من كل النواحي.
حكم المهر المتقوم شرعا بمنفعة:
اختلف الفقهاء في جعل المنافع صداقا على قولين:
القول الأول: يجوز أن يكون المال المتقوم شرعا بمنفعة مهرا مطلقا، وهو قول الشافعية والحنابلة, فيصح عندهم أن يتزوج الرجل المرأة على عمل معلوم كخياطة ثوب معين , وبناء دار وتعليم صنعة وغير ذلك من كل ما هو مباح , ويجوز أخذ الأجرة عليه،بل يصح (أن يصدقها تعليم علم معين من فقه وأدب كنحو وصرف وبيان ولغة ونحوها، وشعر مباح معلوم، ولو أنه يتعلمه ويعلمها، وكذا لو أصدقها تعليم صنعة أو كتابة أو خياطة ثوبها أو رد قنها من محل معين) [69]، فإن تعلمت ما أصدقها تعليمه من غيره، أو تعذر عليه تعليمها، بأن أصدقها تعليم خياطة فتعذر، لزمته أجرة التعليم، لأنه لما تعذر الوفاء بالواجب وجب الرجوع إلى بدله.
فإن علمها ما أصدقها تعليمه ثم نسيت ما علمه إياها، فلا شيء عليه، لأنه قد وفاها، وإن لقنها الجميع، وكلما لقنها شيئا نسيته، لم يعتد بذلك تعليما، لأن العرف لا يعده تعليما، فإن ادعى الزوج أنه علمها، وادعت أن غيره علمها، فالقول قولها، لأن الأصل عدمه،وإن أتاها بغيره يعلمها،لم يلزمها قبوله، لأن المعلمين يختلفون في التعليم، وقد يكون لها غرض في التعليم منه لكونه زوجها.
فإن طلقها قبل الدخول، وقبل تعليمها، فعليه نصف الأجرة، أي نصف أجرة مثل تعليم ما أصدقها تعليمه، لأنها قد صارت أجنبية منه، فلا يؤمن في تعليمها الفتنة،وعليه بطلاقها قبل التعليم، وبعد الدخول كل الأجرة لاستقرار ما أصدقها بالدخول، وإن كان طلقها قبل الدخول بعد تعليمها رجع عليها بنصف الأجرة، لأن الطلاق قبل الدخول يوجب نصف الصداق، وبما أن الرجوع بنصف التعليم متعذر، فإنه يجب الرجوع إلى بدله وهو نصف الأجرة، ولو حصلت الفرقة من جهتها قبل الدخول، وبعد التعليم رجع عليها بالأجرة كاملة لتعذر الرجوع بالتعليم[70].
وقد نص أصحاب هذا القول ـ كذلك ـ على أنه إن كانت المنفعة التي جعلها صداقا لها مجهولة،كرد آبقها أين كان، وخدمتها فيما شاءت شهرا لم يصح ذلك صداقا، لأنه عوض في عقد معاوضة، فلم يصح مجهولا كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة.
ونصوا على أنه إن تلف الثوب قبل خياطته، فعليه أجرة المثل[71]، وإن عجز عن خياطته مع بقائه، فمات لمرض ونحوه، فعليه أن يقيم مقامه من يخيطه، وإن طلقها قبل خياطته وقبل الدخول فعليه خياطة نصفه، إن أمكن معرفة نصفه، وإلا فنصف الأجرة، إلى أن يبدل خياطة أكثر من نصفه، بحيث يعلم أنه قد خاط النصف يقينا[72].
ومن أدلة أصحاب هذا القول:
· قوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى عليهما الصلاة والسلام: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ﴾(القصص:27)
· أن منفعة الحر يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقا.
القول الثاني: عدم الجواز، وهو قول الحنفية، وقول عند المالكية[73]، وقد فرق الحنفية بين المنافع المتعلقة بالزوج كأن يصدقها خدمته وهو حر[74] أو على تعليم القرآن، فلم يجيزوها، أما لو تزوجها على منافع سائر الأعيان من سكنى داره وركوب دابته والحمل عليها وزراعة أرضه ونحو ذلك من منافع الأعيان مدة معلومة صحت التسمية ; لأن هذه المنافع أموال أو التحقت بالأموال شرعا في سائر العقود لمكان الحاجة , والحاجة في الزواج متحققة , وإمكان الدفع بالتسليم ثابت بتسليم محالها إذ ليس فيه استخدام المرأة زوجها فجعلت أموالا والتحقت بالأعيان فصحت تسميتها.
ومن الأدلة على ذلك:
· أن ما استدلوا به من قوله تعالى:﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ ﴾(القصص:27) لا يصح الاستدلال به في هذا المقام، لأنه لم يشرط المنافع للمرأة، وإنما شرطها لشعيب - عليه السلام -،وما شرط للأب لا يكون مهرا، ولو صح أنها كانت مشروطة لها، وأنه إنما أضافها إلى نفسه، لأنه هو المتولي للعقد، أو لأن مال الولد منسوب إلى الوالد، فهو منسوخ بالنهي عن الشغار، ثم إنه يجوز أن يكون هذا الزواج جائزا في تلك الشريعة بغير بدل تستحقه المرأة، وهو منسوخ بشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - [75].
· أن ما جرى من شعيب - عليه السلام -لم يكن ذكرا لصداق المرأة، وإنما اشتراطا لنفسه على ما يفعله الأعراب، فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول لي كذا في خاصة نفسي وترك المهر مفوضا، وزواج التفويض جائز.
· أن خدمة الزوج الحر ليست بمال حقيقة، إذ لا تستحق فيه أي شيء، وإنما تصير مالا للضرورة والحاجة عند استحقاق عينها والانتفاع بها، فعند عدم استحقاق عينها لا ضرورة إليها، فلا تجعل مالا فصارت كالخمر ونحوها فيجب مهر المثل.
· أن المنافع ليست بأموال متقومة, ولهذا لم تكن مضمونة بالغصب والإتلاف , وإنما يثبت لها حكم التقوم في سائر العقود شرعا ضرورة ; دفعا للحاجة بها، ولا يمكن دفع الحاجة بها ههنا ; لأن الحاجة لا تندفع إلا بالتسليم.
· أن استخدام الحرة زوجها الحر حرام ; لكونه استهانة وإذلالا , وهو لا يجوز , ولهذا لا يجوز للابن أن يستأجر أباه للخدمة، فلا تسلم خدمته لها شرعا , فلا يمكن دفع الحاجة بها، فلم يثبت لها التقوم فبقيت على الأصل , فصار كما لو سمى ما لا قيمة له كالخمر والخنزير.
· أن مبنى الزواج على الاشتراك في القيام بمصالح المعاش، فكان لها في خدمته حق , فإذا جعل خدمته لها مهرها , فكأنه جعل ما هو لها مهرها، فلم يجز كالأب إذا استأجر ابنه بخدمته، فإنه لا يجوز ; لأن خدمة الأب مستحقة عليه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لأن العبرة في المهر بالتراضي، والتراضي عادة يكون موافقا للمصالح التي يطلبها كلا الطرفين، فلذلك لا يلزم الشرع طرفا من الأطراف بما لا يرضاه، ما دام في ذلك الرضا تحقيق مصلحة أو درء مفسدة.
ثم إن في الصنعة التي تكتسبها المرأة، أو العلم الذي تنتفع به، أو الخدمات التي يقدمها الزوج ما يفوق الأعيان نفسها، لأن مصير الأعيان إلى التلف أما تلك المنافع فقد تمتد معها طول عمرها، ولعل المرأة تكون مستغنية عن المال العيني لعدم حاجتها إليه أو لغناها، وتكون في نفس الوقت مفتقرة إلى شيء تتعلمه، أو خدمة تؤدى لها، فلماذا نحرمها من هذه الخدمة، وهي تعتقد أنها أصلح لها من المال العيني.
وما لنا نناقش الأمر عقليا، وقد صرحت النصوص التي لا كلام معها بجواز ذلك، فالآية صريحة في جواز جعل المنافع صداقا، أما القول بنسخ الآية، أو تخصيصها بشرع من قبلنا، فلا دليل عليه، ولو كان الأمر كذلك لنص عليه القرآن الكريم، فالسكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز، أما ما ذكره بعضهم من أن ذلك من الحلوان الذي يأخذه الأب، فقد قال فيه ابن العربي:(هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام[76] لا يليق بالأنبياء
الشرط الثاني ـ جواز تملكه
اتفق الفقهاء[78] على أنه لا يعتبر مهرا ما لا يجوز تملكه كالخمر والخنزير، فلو تزوج المسلم المسلمة على ميتة أو دم أو خمر أو خنزير لم تصح التسمية، لأن الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد، والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم فلا تصح تسمية ذلك مهرا، ولأجل هذا الشرط حرم زواج الشغار ؛ لأن كل واحد منهما جعل بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع ليس بمال ففسدت التسمية.
وقد اختلف الفقهاء فيما لو سمى في الزواج صداقا محرما , كالخمر والخنزير على قولين:
القول الأول: التسمية فاسدة , والزواج صحيح، وهو قول عامة الفقهاء ; منهم الثوري, والأوزاعي , والشافعي , والحنفية، وحكي عن مالك[79] أنه إن كان بعد الدخول , ثبت الزواج , وإن كان قبله , فسخ، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أنه عقد لا يفسد بجهالة العوض , فلا يفسد بتحريمه كالخلع.
· أن فساد العوض لا يزيد على عدمه , فإنه لو عدم المهر كان العقد صحيحا , فكذلك إذا فسد.
القول الثاني: الزواج فاسد، وهو رواية عند الحنابلة[80]، واستدلوا على ذلك بأنه زواج جعل الصداق فيه محرما , فأشبه زواج الشغار.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن المهر جزء مكمل للزواج، وليس ركنا من أركانه، فلا يصح أن يفسد بسببه على أن ما روي عن الإمام أحمد في ذلك أظهر في الدلالة على الاستحباب منه على الوجوب، فقد سئل في رواية المروذي: إذا تزوج على غير طيب، فكرهه، فقلت: ترى استقبال النكاح، فأعجبه، قال ابن قدامة:(وكلام أحمد في رواية المروذي محمول على الاستحباب، فإن مسألة المروذي في المال الذي ليس بطيب، وذلك لا يفسد العقد بتسميته فيه اتفاقا) [81]
ومع ذلك، فإن قول الإمام مالك له قيمته من حيث مراعاة المفاسد التي قد تنجر على التفريق بعد الدخول، فلذلك فرق بين الحالتين، وهو الصحيح، لأن الذي يقدم على تقديم مهر محرم، إما أن يكون فاسقا فاجرا، أو مستهينا بهذا العقد الجليل، فلذلك أفتى الإمام مالك بالفسخ قبل الدخول، أما بعد الدخول، فإن الصحيح هو تصحيح الفاسد بإعطاء مهر صحيح لا بالتفريق درءا لمفسدة التفريق.
الشرط الثالث ـ كون المهر معلوما
ويتحقق ذلك[82] بأن يكون خالياً من الجهالة الفاحشة، وتكون الجهالة بالجنس والنوع[83]، مثل أن يسمى لها حيواناً أو بيتاً أو قنطاراً أو ثوباً، وقد اتفق الفقهاء على اشتراط ذكر الجنس والنوع، واختلفوا في ذكر الوصف على قولين:
القول الأول: لا تضر جهالة الوصف لأنها يسيرة لا تؤدي إلى الخلاف، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة،وهم يوجبون الوسط من الصفات لا الأعلى ولا الأدنى، ويخير الزوج بين دفع الوسط أو القيمة، لأن الوسط يعرف بالقيمة، ولأن مجهول الوصف لا يثبت في الذمة، بل الذي يثبت فيها هو القيمة، وحينئذ يكون الواجب هو الوسط باعتباره مذكوراً في العقد أو القيمة باعتبار ثبوتها في الذمة، ومن أدلتهم على ذلك:
· قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العلائق ما تراضى عليه الأهلون) [84]، وهذا قد تراضوا عليه.
· أنه لو فسدت التسمية بجهالة الوصف وجب مهر المثل، وجهالة التسمية أقل من جهالة مهر المثل , لأنه يعتبر بنسائها ممن يساويها في صفاتها وبلدها وزمانها ونسبها.
· أن المال غير مقصود في عقد الزواج، لأنه يتساهل فيه بخلاف المعاوضات المالية لأنها مبنية على المساومة فجهالة الوصف فيها مفضية إلى النزاع.
القول الثاني: أن جهالة الوصف تفسد التسمية، فلو سمى لها قنطاراً من القطن وبين نوعه ولم يبين درجة جودته فإن التسمية تكون فاسدة ويجب مهر المثل، وهو مذهب الشافعية، واستدلوا على ذلك بالقياس على المعاوضات المالية.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الأولى والأورع تحديد الجنس والنوع والصفة سواء في المنافع أو الأعيان درءا للخلاف الذي قد يحدث بسبب الجهل بأحد هذه الأمور.
أما القول بأن الجهل بالصفة لا يضر، فإن ذلك لا يصدق على عصرنا الذي أعطيت فيه النوعية قيمة كبرى، بسبب تنافس الشركات فيما بينها، حتى أصبح الشيء الواحد يباع بأسعار مختلفة اختلافا فاحشا، قد يكون أضعافا مضاعفة بسبب نوعيته أو علامته المسجلة، ولهذا نرى الأرجح تحديد الوصف بدقة في الأمور التي تحتاج إلى وصف، أو ترك ذلك للعرف، إن كان في العرف تحديد لذلك، فإن حصل الخلاف حكم لها بمهر أمثالها.
الشرط الرابع ـ أن يكون المال مملوكا
اتفق الفقهاء على اشتراط تملك المال المقدم مهرا، وقد خرج بهذا الشرط ما هو حق الغير كجعل الدار المغصوبة مهرا، وقد اختلف الفقهاء في كون المهر مالا فيه شبهة كتملك الابن الصغير في ولاية أبيه على الحالتين التاليتين:
الحالة الأولى: إذا كان الأب موسرا يوم الإمهار: اتفق الفقهاء على أن ذلك جائز للزوجة، وذلك مثل ما لو اشتراه لنفسه منه، قال مالك: سواء بنى بها أو لم يبن قرب ذلك أو بعد علمت به المرأة أو لم تعلم عرضا كان أو رقيقا أو غيره ويتبع الابن الأب بقيمة ماله فيما حكمنا بقيمته أو بمثله فيما له مثل.
الحالة الثانية: إن كان الأب معسرا: وقد اختلف المالكية فيه على قولين:
القول الأول: هو للمرأة، رواه ابن المواز عن مالك ورواه ابن حبيب عن ابن القاسم وأصبغ، لأنه عاوض بمال ابنه الذي يليه فيه فوجب أن يجوز عليه في عدم الأب وغناه كما لو باعه.
القول الثاني: لا شيء فيه للمرأة،رواه ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، لأنه أراد استهلاك مال ابنه ولا مال له فوجب أن يمنع منه كما لو وهبه لأجنبي[85].
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو حل المال للمرأة لأنه حقها، ويبقى الابن مدينا للأب في ذلك المبلغ الذي أخذه.
الشرط الخامس ـ ألا يقل المهر عن الحد المقدر له شرعا
ويتعلق بهذا الشرط المسائل التالية:
أدنى المهر:
اختلف الفقهاء في الحد الأدنى للمقدار الذي يصلح مهرا على قولين[86]:
القول الأول: أن المهر غير مقدر بمقدار شرعي، فلذلك يستوي فيه القليل والكثير، وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى وعطاء , وعمرو بن دينار , وابن أبي ليلى , والثوري , والأوزاعي , والليث , والشافعي , وإسحاق , وأبي ثور , وداود والطبري وابن حزم، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن تقدير المقادير يحتاج إلى الدلالة الشرعية، ولم ترد النصوص التي تحدد ذلك، بل وردت النصوص عامة بطلب المهر دون تحديده، كقوله
: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ﴾(النساء: 24)، فإنه يدخل فيه القليل والكثير.
· قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي زوجه: (هل عندك من شيء تصدقها؟ قال: لا أجد، قال: التمس، ولو خاتما من حديد[87].
· عن عامر بن ربيعة , أن امرأة من بني فزارة , تزوجت على نعلين , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه[88].
· قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يده طعاما، كانت له حلالا)
· عن جابر - رضي الله عنه - , قال: (كنا ننكح على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القبضة من الطعام).
· قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أدوا العلائق قيل: وما العلائق يا رسول الله؟ قال ما تراضى به الأهلون) [89]، قال الشافعي: ولا يقع اسم علق إلا على شيء مما يتمول وإن قل ولا يقع اسم مال ولا علق إلا على ما له قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها) [90]
· عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة على وزن نواة من ذهب[91] , وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم -، فدل أن التقدير في المهر ليس بلازم.
· أن دعوى أن هذه الأحاديث مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو أنها منسوخة أو أن أهل المدينة على خلافها فدعوى لا يقوم عليها دليل والأصل يردها.
· النصوص الكثيرة الورادة عن السلف الصالح في ذلك، وقد سبق ذكر الكثير منها، ومنها أن سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - زوج ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد بل عد في مناقبه وفضائله، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: النكاح جائز على موزة إذا هي رضيت.
· أن الصداق شرع في الأصل حقا للمرأة تنتفع به، فإن رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن، كان هذا من أفضل المهور وأجلها، وقد حصل لها انتفاع بذلك، وهذا هو الذي اختارته أم سليم من بإسلام أبي طلحة وبذلها نفسها له إن أسلم وهذا أحب إليها من المال.
· أن المهر ثبت حقا للعبد وهو حق المرأة بدليل أنها تملك التصرف فيه استيفاء وإسقاطا , فكان التقدير فيه إلى العاقدين.
· أن المهر بدل منفعتها , فجاز ما تراضيا عليه من المال , كالعشرة وكالأجرة.
القول الثاني: أن له حدا أدنى، وهو قول سعيد بن جبير , والنخعي , وابن شبرمة , ومالك وأبي حنيفة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ﴾(النساء: 24)،
فشرط تعالى أن يكون المهر مالا، والحبة والدانق ونحوهما لا يعدان مالا فلا يصلحان مهرا.
· أن المهر فيه حق للشرع قصد به إبانة خطر البضع صيانة له عن شبهة الابتذال بإيجاب مال له خطر في الشرع كما في نصاب السرقة.
قيمة أدنى المهر:
اختلف القائلون بتحديد المقدار الأدنى للمهر في قيمة المقدار على الأقوال التالية:
القول الأول: أن أدناه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم[92] , وهو قول الحنفية[93]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· قياس الصداق على قطع اليد، واليد عند أبي حنيفة، لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا، ولا صداق عنده أقل من ذلك، وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه، وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل الصداق.
· عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا مهر دون عشرة دراهم) [94]
· عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم.
القول الثاني: أن المقدار الأدنى هو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وهو قول المالكية، قال مالك في الموطأ: (لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار، وذلك أدنى ما يجب به القطع) واستدلوا على ذلك كما قال مالك بأدنى ما يجب به القطع، فمن نكح بأقل من أقله أتم الباقي وإلا فسخ قبل الدخول، وإن دخل أتمه جبرا. [95]
وقد علل بعض المالكية سبب اختيار مالك أدنى ما يجب به القطع حدا أدنى للمهر بقوله ـ كما حكاه عنه القرطبي ـ:(وكان أشبه الأشياء بذلك قطع اليد، لأن البضع عضو، واليد عضو يستباح بمقدر من المال، وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا فرد مالك البضع إليه قياسا على اليد) [96]
وقد كان اختيار مالك لهذه العلة سببا لعتاب الفقهاء من أصحابه وغيرهم عليه، واعتبروه في ذلك متأثرا بأبي حنيفة، قال الدراوردي لمالك إذ قال لا صداق أقل من ربع دينار: تعرقت فيها يا أبا عبدالله، أي سلكت فيها سبيل أهل العراق، وقال ابن عبد البر: قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة فقاس الصداق على قطع اليد.
أقوال أخرى: من الأقوال الأخرى التي حددت المهر، والتي لا نعلم وجه الاستدلال فيها، الأقوال التالية[97]:
· أن أقله خمسون درهما، وهو قول سعيد بن جبير.
· أن أقله أربعون درهما، وهو قول النخعي، وربما يكون مقصده من ذلك أن يكون المال له قيمة، وليس تحديد الأربعين،فقد روي عنه قوله:(أكره أن يكون مثل مهر البغي، ولكن العشرة والعشرون) [98]
· أن أقله خمسة دراهم، وهو قول ابن شبرمة، وفي ذلك تقطع اليد عنده، وقد روي عن ابن عباس عن علي - رضي الله عنه - :(لا مهر أقل من خمسة دراهم)
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة، انطلاقا مما سبق ذكره أن الأساس في المهر هو التراضي بين الطرفين، فلذلك لم تحدد النصوص الشرعية قيمة بعينها، بل رغبت عموما في التيسير في المهر، كما سنرى الأدلة على ذلك في حينها، ولهذا ذهب أكثر المحققين من المالكية وغيرهم إلى هذا، قال القرطبي: (واختلف من قال بذلك في قدر ذلك فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى:﴿ بِأَمْوَالِكُمْ ﴾ (النساء: 24)، في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح)، ثم قال:(وهذا قول جمهور أهل العلم، وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها، كلهم أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره، وهو قول عبدالله بن وهب صاحب مالك، واختاره ابن المنذر وغيره، قال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت به) [99]
وقد اعتبر ابن القيم القول بتحديد الحد الأدنى للمهر من رد السنة الصحيحة الثابتة بالفهوم الخاصة والآثار الضعيفة والقياس الفاسد، فقال:(رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الزواج بما قل من المهر ولو خاتما من حديد مع موافقتها لعموم القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ﴾(النساء: 24)، وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير , بأثر لا يثبت، وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق , وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به من قطع اليد في السرقة؟)[100]
أكثر المهر:
اتفق الفقهاء على أنه لا حد لأكثر الصداق، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· قوله تعالى:﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا[101]فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾(النساء:20)،
قال القرطبي: الآية دليل على جواز المغالاة في المهور لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح[102].
· قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على المنبر: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء , فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية)، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر , يعطينا الله وتحرمنا أنت؟ أليس الله تعالى يقول: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ﴾(النساء:20) فقال عمر: (امرأة أصابت وأمير أخطأ) [103].
· أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل أترضى أن أزوجك فلانة،قال: نعم وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلانا قالت: نعم،فزوج أحدهما صاحبه ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني أعطيتها صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهما فباعته بمائة ألف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(خير الصداق أيسره) [104]
حكم تخفيف المهر وتيسيره:
اتفق الفقهاء على سنية تحفيف المهر،وكراهية المغالاة فيه، ومن الأدلة على ذلك:
· قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أعظم النساء بركة أيسرهن مئونة) [105]، وقد علل بعض العلماء ذلك بأن المرأة إذا قنعت بالقليل من الحلال عن الشهوات وزينة الحياة الدنيا، فخفت عنه كلفتها، ولم يلتجى ء بسببها إلى ما فيه حرمة أو شبهة، فيستريح قلبه وبدنه من التعنت والتكلف، فتعظم البركة لذلك[106]، وقد ورد روايات أخرى للحديث تؤكد هذا المعنى، وتفصله، وهي كما أوردها صاحب كشف الخفاء: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خيرهن أيسرهن صداقا) [107]، وفي رواية:(إن من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها) [108]، وفي رواية:(من يمن المرأة تسهيل أمرها وقلة صداقها) [109].
· قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خير النكاح أيسره[110])[111]
· عن ابن أبي حدرد الأسلمي أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه في مهر امرأة، فقال: كم أمهرتها؟ قال: مائتي درهم، فقال: لو كنتم تغرفون من بطحان[112] ما زدتم[113].
· ورود الآثار في ذلك عن السلف الصالح، ومنها قول عمر - رضي الله عنه - السابق: ألا لا تغالوا في مهور النساء ; فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ; ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وقال عروة: أول شؤم المرأة كثرة صداقها، وفي أثر آخر: تياسروا في الصداق، إن الرجل ليعطي المرأة حتى يبقى ذلك في نفسه عليها حسيكة.
وقد ذكر الفقهاء من مستحبات الصداق أن لا يزيد أكثره مع القدرة واليسار على مهر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بناته , وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة , وذلك نحو تسعة عشر دينارا، قال ابن تيمية:(فهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصداق.. فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة , وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقر ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة) [114]
أما إذا كان عاجزا عن ذلك فقد قال الفقهاء بحرمته إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، فأما إن كثر وهو مؤخر في ذمته، فيكره لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة، ومن الأدلة على ذلك:
·قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أوراق. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: على أربع أوراق فكأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك؛ ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه قال: فبعث بعثا إلى بني عبس فبعث ذلك الرجل فيهم[115]، والأوقية هي أربعون درهما، وهي مجموع الصداق، ليس فيه مقدم ومؤخر.
· أن المهر إذا كان قليلا لم يستصعب الزواج من يريده، فيكثر الزواج المرغب فيه ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب الزواج , بخلاف ما إذا كان المهر كثيرا فإنه لا يتمكن منه إلا أرباب الأموال , فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير مزوجين فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - [116]
ونص العلماء على الكراهية الشديدة بل الحرمة فيما يفعله بعض الناس، من أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء والفخر , وهم لا يقصدون أخذه من الزوج , وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه، وإنما غرضهم من ذلك الفخر والخيلاء، وقد أشار ابن تيمية إلى هذه الظاهرة في عصره، وحكم عليها بقوله: (منكر قبيح , مخالف للسنة , خارج عن الشريعة، وإن قصد الزوج أن يؤديه وهو في الغالب لا يطيقه فقد حمل نفسه , وشغل ذمته , وتعرض لنقص حسناته , وارتهانه بالدين ; وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضروه) [117]، وأخطر ما ينتج عن مثل هذا السلوك اللاأخلاقي أن ينتشر التغالي في المهور، بحجة أن فلانا نرى أن الأرجح في المسألة لناس قدم من المهر كذا وكذا، فيكون بذلك قد سن سنة سيئة في المسلمين، وآذاهم من حيث يشعر أو لا يشعر.
مهر السر والعلانية:
اختلف الفقهاء في من تزوج المرأة في السر بمهر , ثم يعقد عليها في العلانية بمهر آخر، في أيهما يطالب، على قولين[118]:
القول الأول: أنه يؤخذ بالعلانية، وهو قول الشعبي , وابن أبي ليلى , والثوري والشافعي[119], وهو ظاهر قول أحمد[120] في رواية الأثرم، وهو رواية عن أبي حنيفة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن المرأة لم تقر بزواج السر فثبت مهر العلانية.
· أن المهر هو المذكور في العقد ; لأنه اسم لما يملك به البضع , والذي يملك به البضع هو المذكور في العقد وأنه يصلح أن يكون مهرا ; لأنه مال معلوم فتصح تسميته ويصير مهرا ولا تعتبر المواضعة السابقة.
القول الثاني: أن الواجب هو المهر الذي انعقد به الزواج سرا كان أو علانية، وهو قول شريح , والحسن , والزهري , والحكم بن عتيبة , ومالك , وإسحاق،وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة , وهو قول أبي يوسف ومحمد، واستدلوا على ذلك بأن الزيادة منهما كانت من باب السمعة، فقد هزلا بذلك حيث لم يقصدا به مهرا , والمهر مما يدخله الجد والهزل، ففسدت تسميته وبقي العقد على ما اتفقا عليه.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، خاصة إذا كان هدفهما من ذلك صالحا، كأن يكون الرجل غنيا، أو المرأة طالبت للحاجة بسبب غناه مهرا غاليا، وخشيا أن يؤثر ذلك في انتشار المغالاة في المهور، فإن هذه النية الطيبة تخول التفريق بين مهر السر ومهر العلانية، ومثله ـ ولكنه أدنى منه، وأقرب إلى الكراهة ـ ما لو طالبت المرأة بمهر مثلها في العلانية، وطالبت بما دونه في السر، والمحرم ما ذكرنا سابقا من التغالي في مهور العلانية من باب الفخر والخيلاء.
ونرى أن الحكم القضائي الذي ذكره المالكية في حال الاختلاف أصلح الأحكام، فالمعول عندهم ما اتفقا عليه في السر، ولا يعمل بما اتفقا عليه في العلانية، فإذا ادعت المرأة على الزوج أنهما رجعا عما اتفقا عليه في السر إلى ما أظهراه في العلانية وأكذبها الزوج، فإن لها أن تحلفه على ذلك , فإن حلف عمل بصداق السر، وإن نكل عمل بصداق العلانية، وسواء كان شهود السر هم شهود العلانية أو غيرهم[121].
الاختلاف في قدر الصداق:
اختلف الفقهاء فيما إذا اختلف الزوج والزوجة في القدر المتفق عليه في الصداق بعد العقد، ولا بينة لأحد منهما على قولين:
القول الأول: أن القول قول من يدعي مهر المثل منهما، فإن ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل, فالقول قولها[122] , وإن ادعى الزوج مهر المثل أو أكثر , فالقول قوله، وهو قول الحنفية، ورواية عن الحنابلة،وروي عن الحسن والنخعي , وحماد بن أبي سليمان , وأبي عبيد نحوه، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن الظاهر قول من يدعي مهر المثل , فكان القول قوله , قياسا على المنكر في سائر الدعاوى , وعلى المودع إذا ادعى التلف أو الرد.
· أنه عقد لا ينفسخ بالتحالف فلا يشرع فيه كالعفو عن دم العمد.
· أن القول بالتحالف ـ وهو القول الثالث ـ يفضي إلى إيجاب أكثر مما يدعيه أو أقل مما يقر لها به، فلو كان مهر مثلها مثلا مائة فادعت ثمانين، وقال: بل هو خمسون أوجب لها عشرين يتفقان على أنها غير واجبة، ولو ادعت مائتين , وقال: بل هو مائة وخمسون ومهر مثلها مائة , فأوجب مائة لأسقط خمسين يتفقان على وجوبها.
· أن مهر المثل إن لم يوافق دعوى أحدهما , لم يجز إيجابه ; لاتفاقهما على أنه غير ما أوجبه العقد , وإن وافق قول أحدهما , فلا حاجة في إيجابه إلى يمين من ينفيه ; لأنها لا تؤثر في إيجابه , وفارق البيع ; فإنه ينفسخ بالتحالف , ويرجع كل واحد منهما في ماله.
القول الثاني: أن القول قول الزوج بكل حال، وهو قول الشعبي , وابن أبي ليلى , وابن شبرمة , وأبي ثور، ورواية عند الحنابلة، وبه قال أبو يوسف، إلا أن يدعي مهرا لا يتزوج بمثله في العادة , لأنه منكر للزيادة , ومدعى عليه , فيدخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -:(ولكن اليمين على المدعى عليه) [123]
القول الثالث: يتحالفان، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر , ثبت ما قاله , وإن حلفا وجب مهر المثل، وهو قول الشافعي والثوري واستدلوا على ذلك بأنهما اختلفا في العوض المستحق في العقد , ولا بينة , فيتحالفان قياسا على المتبايعين إذا اختلفا في الثمن.
القول الرابع: إن كان الاختلاف قبل الدخول , تحالفا وفسخ الزواج , وإن كان بعده فالقول قول الزوج، وهو قول المالكية واستدلوا على ذلك بما يلي:
· القياس على البيع، فإنه يفرق في التحالف فيه بين ما قبل القبض وبعده.
· أنها إذا أسلمت نفسها بغير إشهاد , فقد رضيت بأمانته.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن هذه المسألة من المسائل القضائية، والقاضي يحكم فيها بعد التحري بما يتناسب مع أحوال كل من الزوجين بعد محاولة التعرف عليهما، ومدى صدق كل منهما، ويمكنه لذلك أن يضع حلا وسطا يرضي الجميع، ويمكنه أن يفصل بينهما بناء على ما يتفرسه منهما ما دامت له أهلية ذلك.
وهذا الرأي هو الذي نعتمده في كل المسائل القضائية، لأن القاضي يحكم بضوابط الشريعة، ثم يترك له بعدها المجال واسعا للتحري والتحقيق، ولا يصح أن نصف له وصفا واحدا لكيفية التحقيق مع مجتمع مختلف متناقض من الناس.
فلذلك يختلف التحقيق باختلاف الحالات، فالحلف مثلا لا يصح مع كل الناس، فمنهم الورع الذي يعظم على نفسه أن يحلف حتى لو كان حلفه لأخذ حقه، ومنهم الفاسق الذي لا يبالي بالأيمان، فيرسلها قبل أن يطالب بها.
الاختلاف في كون المدفوع مهرا أو هدية:
اختلف الفقهاء في اعتبار المدفوع صداقا أو هبة في حال اختلاف الزوجين، بأن قال الزوج: دفعتها إليك صداقا، وقالت الزوجة: بل هبة، ومن الأقوال في المسألة:
القول الأول: اعتبارالنية واللفظ، وهو قول الحنابلة، ولذلك نظروا إلى المسألة على الاعتبارين التالين[124]:
اختلافهما في نيته:كأن قالت: قصدت الهبة. وقال: قصدت دفع الصداق، فالقول قول الزوج بلا يمين ; لأنه أعلم بما نواه , ولا تطلع المرأة على نيته.
اختلفاهما في لفظه: كأن قالت: قد قلت خذي هذا هبة أو هدية، فأنكر ذلك , فالقول قوله مع يمينه ; لأنها تدعي عقدا على ملكه , وهو ينكره , فأشبه ما لو ادعت عليه بيع ملكه لها.
واستدلوا على هذا الاعتبار بأنهما اختلفا في صفة انتقال ملكه إلى يدها , فكان القول قول المالك , كما لو قال: أودعتك هذه العين. قالت: بل وهبتها.
القول الثاني: اعتبار العرف، وهو قول المالكية , فإن كان المدفوع مما جرت العادة بهديته, كالثوب والخاتم , فالقول قولها ; لأن الظاهر معها , وإلا فالقول قوله[125].
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة في حال إقرار الزوجة بعدم تلفظ الزوج أن القول قوله، لأن القصد المجرد لا يطلع عليه غير صاحبه، أما فيما عدا ذلك فهي مسألة قضائية، يمكن حلها ـ كما اقترح المالكية ـ باعتبار العرف، أما اليمين، فلا نراه حلا عاما لتساهل الناس فيه.
حكم إرجاع الهدايا بعد الفسخ أو الطلاق:
ذكرنا في أحكام الخطبة حكم إرجاع الهدايا التي يقدمها الزوج، ولكن الأمر بالنسبة إلى الهدايا التي تكون بعد الزواج يختلف حالها عما قبله، لأنه قبل الزواج يهديها بنية طلب يدها، أما بعد الزواج، فهي زوجته، فلذلك لا يصح أن يسترد ما أعطى من زوجته من هدايا إلا إذا خالعته عليها، وذلك لا يكون إلا إذا كان طلب التفريق منها، فله ذلك، وقد ذكر المالكية لهذه المسألة ثلاث حالات هي[126]:
· أنه إن أرسل ذلك على سبيل الهدية لم يكن له الرجوع في شيء من ذلك قبل الدخول ولا بعده إلا أن يفسخ قبل البناء، فله ما أدرك من ذلك.
· إن أرسل ذلك على وجه العارية، ويسمى ذلك عارية، فهي على ما سمى.
· إن سكت حين أرسلها ثم ادعى أنها عارية , فإن أقام بينة أنه أشهد بها سرا حين أرسلها فهو على ما أشهد , وإن لم تقم بذلك بينة فلا شيء له فيها.
قال ابن تيمية عن هذا النوع من الهدايا بعد ذكره لقول أحمد: هذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافقة لأصول الشريعة، وهو أن كل من أهدي أو وهب له شيء بسبب يثبت بثبوته، ويزول بزواله،ويحرم بحرمته، ويحل بحله، حيث جاز في تولي الهدية مثل من أهدى له للفرض , فإنه يثبت فيه حكم بدل الفرض[127].
*****************************************************************
الآية الثالثة
وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا
قد أمر الله سبحانه وتعالى بالإصلاح لليتامى، ونهى عن قربان أموالهم إلا بالتي هي أحسن، فقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ[1]. وقال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ[2].
فالواجب على ولي اليتيم أن يعمل بمقتضى هاتين الآيتين، وذلك هو الإصلاح في أموال اليتامى، وبذل الجهد في تنميتها، وتكثيرها، وحفظها؛ إما بالتجارة فيها، أو بدفعها إلى ثقة يتجر فيها بجزء مشاع من الربح؛ كالنصف ونحوه، حسب المتعارف عليه في بلد المعاملة، وإذا تبرع بجميع الربح لليتيم فذلك خير وأفضل، أما تصرف ولي اليتيم في أموال اليتيم في مصلحة الولي، وقضاء حاجاته، وتنمية تجارته، ونحو ذلك، فالظاهر أن ذلك لا يجوز، لأن ذلك ليس من الإصلاح لليتيم، وليس من قربانها بالتي هي أحسن.
أما إذا أنفقها ليحفظها لليتيم، بنية القرض؛ لكونه يخاف عليها إذا بقيت من التلف، أو السرقة، ونحو ذلك، ولم يجد ثقة يعمل في مال اليتيم، فهذا- والحالة هذه- يعتبر من الإصلاح، والحفظ لمال اليتيم، إذا كان الولي مليئاً، ليس على مال اليتيم خطر في بقائه في ذمته.
والخلاصة: أن الواجب على ولي اليتيم هو عمل الصالح لليتيم، والله- سبحانه- هو الذي يعلم المفسد من المصلح
اليتيم في الناس من قِبل الأب، وفي البهائم من قِبل الأم، ولا يقال لمن فقد الأم من الناس يتيم، كما قال ابن السكيت من أهل اللغة، واليتيم عند الفقهاء هو من مات أبوه وهو دون البلوغ. وقد ورد في الحديث عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتم بعد احتلام" (رواه الطبراني في الكبير وقال الهيثمي رجاله ثقات مجمع الزوائد4/266. وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/799).
وقد تضافرت النصوص من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب العناية باليتيم والإحسان إليه، والمحافظة على أمواله، وبينت عِظم أجر كافل اليتيم، فمن ذلك قوله تعالى:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ...} [النساء: 36]. وقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [البقرة: 83].
وقال تعالى:{وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10].
قال الفخر الرازي في تفسيره للآية السابقة: "واعلم أنه تعالى وإن ذكر الأكل، فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم، فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة، والدليل عليه أن في المال ما لا يصح أن يؤكل، فثبت أن المراد منه التصرف، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف" (تفسير الرازي 5/44).
وقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152].
وقال تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} [الضحى: 9].
وثبت في الحديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما" (رواه البخاري)، قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: "قال ابن بطال: حقٌ على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك". ثم قال الحافظ ابن حجر: "قال شيخنا في شرح الترمذي: لعل الحكمة في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم أو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، لكون النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلاً لهم ومعلمًا ومرشدًا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه، ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه، فظهرت مناسبة ذلك". (فتح الباري 10/536-537). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ضم يتيمًا بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت له الجنة" (رواه أبو يعلى والطبراني وأحمد مختصرًا بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري. وقال العلامة الألباني صحيح لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/676).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ يشكو قسوة قلبه؟ قال: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك" (رواه الطبراني وقال العلامة الألباني حسن لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 2/676). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم لا يفطر" (رواه البخاري ومسلم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفسالتي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" (رواه البخاري ومسلم). وغير ذلك من الأحاديث.
إذا تقرر هذا فإن "القاعدة العامة في عقود الوصي وتصرفاته: أن الوصي مقيد في تصرفه بالنظر والمصلحة لمن في وصايته، وعلى هذا لا يكون للوصي سلطة مباشرة التصرفات الضارة ضررًا محضًا كالهبة، أو التصدق، أو البيع والشراء بغبن فاحش، فإذا باشر الوصي تصرفًا من هذه التصرفات كان تصرفه باطلاً، لا يقبل الإجازة من أحدٍ، ويكون له سلطة مباشرة التصرفات النافعة نفعًا محضًا، كقبول الهبة والصدقة والوصية والوقف، والكفالة للمال. ومثل هذا: التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والقسمة والشركة، فإن للوصي أن يباشرها، إلا إذا ترتب عليها ضرر ظاهر، فإنها لا تكون صحيحة" (الموسوعة الفقهية الكويتية 7/213).
وهذه أهم الضوابط الشرعية للتعامل مع أموال الأيتام:
أولاً: الإنفاق على الأيتام من أموالهم بالمعروف ولا بد من "الالتزام بالأولويات الإسلامية التي تخص اليتامى، أي الإنفاق على الضروريات أولاً ثم يلي ذلك الإنفاق على الحاجيات, ولا يجوز الإنفاق على الكماليات إلاّ بعد تلبية والوفاء بالضروريات والحاجيات" (انظر الضوابط الشرعية لإدارة صندوق أموال اليتامى د. حسين شحاتة ص 2). ويشمل ذلك قضاء حاجاتهم كالطعام والكساء والمسكن والعلاج والتعليم ونحوها، وإذا وسَّع عليهم في الأعياد فلا حرج، قال الإمام مالك رحمه الله: "وليوسع عليهم ولا يضيق، وربما قال: أن يشتري لهم بعض ما يُلهيهم به وذلك مما يُطَيِّب به نفوسهم" (مواهب الجليل شرح مختصر خليل عن الإنترنت).
ثانيًا: ويجب أن يكون "الإنفاق في مجال الحلال الطيب الذي يعود على اليتامى بالمنافع المعتبرة شرعًا حسب الظروف والأحوال. وتجنب الإسراف والتبذير في أموال اليتامى لأن ذلك محرم شرعًا ولا يعود عليهم بالنفع والخير" (الضوابط الشرعية لإدارة صندوق أموال اليتامى د. حسين شحاتة ص2).
ثالثًا:إذا كانت أموال الأيتام زائدة عن نفقتهم فللوصي استثمار أموال اليتامى وتنميتها، حتى لا تفنى في النفقات أو في الزكاة كما سيأتي، ومما يدل على جواز استثمار أموال اليتامى ما ورد في بعض الأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومنها:
1. ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "ألا من ولي يتيماً وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" (رواه الترمذي وضعفه).
2. ما رواه الشافعي بسنده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى لا تذهبها ولا تستهلكها الصدقة" (رواه الشافعي في الأم والبيهقي في السنن الكبرى، وقال البيهقي وهذا مرسل إلا أن الشافعي رحمه الله أكده بالاستدلال بالخبر الأول، وبما روي عن الصحابة رضي الله عنهم. سنن البيهقي 4/107).
3. ما رواه البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" (وقال البيهقي هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر رضي الله عنه)
. 4. ما رواه مالك في الموطأ أنه بلغه عن عمر بن الخطاب أنه قال: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة".
5. وما رواه البيهقي بسنده أن عمر بن الخطاب قال لرجل أن عندنا مال يتيم قد أسرعت فيه الزكاة فدفعه إليه ليتجر فيه له. وغير ذلك من الأحاديث. وهنالك وسائل كثيرة لاستثمار أموال الأيتام بطرق شرعية كالمرابحة والاستصناع والمضاربة والمشاركة المتناقصة والمساقاة والمزارعة وغيرها.
رابعا: الأصل في مال الأيتام هو الحرمة في حق الوصي إلا إذا كان محتاجًا فإنه يأكل بالمعروف، والأولى في حقه أن يتعفف عن مال اليتم، ويدل على ذلك قوله تعالى:
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]. وقال الله تعالى في حق أموال الأيتام:{وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
خامسا: للوصي أن يبيع ويشتري للأيتام ما دام البيع والشراء ضمن ما تعارف عليه الناس في البيع والشراء.
سادسا: لا يجوز للوصي باتفاق الفقهاء أن يهب شيئًا من مال اليتيم، ولا أن يتصدق منه، ولا أن يوصي بشيءٍ منه؛ لأنها من التصرفات الضارة ضررًا محضًا، فلا يملكها الوصي، ولا الولي ولو كان أبًا. ولا يجوز للوصي أن يقرض مال اليتيم لغيره، ولا أن يقترضه لنفسه؛ لما في إقراضه من تعطيل المال عن الاستثمار، والوصي مأمور بتنميته بقدر الإمكان. (الموسوعة الفقهية الكويتية 7/213 فما بعدها بتصرف).
سابعا: يجب إيداع أموال الأيتام في المصارف الإسلامية إذا وجدت، ولا يجوز إيداعها في البنوك الربوية إلا لحفظها عند عدم وجود المصارف الإسلامية.
ثامنا: أداء زكاة مال اليتيم كما هو القول الراجح من أقوال الفقهاء، لأن الزكاة حق من حقوق المال، فتجب في كل مال تحققت فيه شروط الوجوب، بغض النظر عن مالك المال، فلا ينظر فيها إلى المالك فتجب الزكاة في مال البالغ وغير البالغ.
وخلاصة الأمر أن دين الإسلام اهتم اهتمامًا كبيرًا بالأيتام عامة وبأموالهم خاصة، فالآيات والأحاديث حضت الأوصياء على الإحسان للأيتام ورعايتهم وتربيتهم، ودعت إلى استثمار أموال الأيتام لمصلحتهم، وعلى من تولى مال يتيمٍ أن يضبط تصرفاته بضوابط الشرع المذكورة أعلاه، والواجب على وصي اليتيم هو عمل الصالح لليتيم، وليحذر من قربان مال اليتيم بغير التي هي أحسن. وليعلم أن التعرض لأموال الأيتام بسوء من السبع الموبقات المهلكات
*****************************************************************
المواريث نفردها بالحديث في يوم آخر لكثرة ما فيها
هذا و بالله التوفيق الأحكام الفقهية الخاصة بالورد الاسبوعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق