(لَّقَدْ رَضِىَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)
حكم سب الصحابة
حكم من سب الصحابة بغير التكفير
ولذلك حالتان :
الحالة الأولى : حكم سب جميع الصحابة
وهذا لا شك أنه كفر لأنه تكذيب للآيات والأحاديث التي مدحتهم ولأنههم نقلة الدين في الطعن فيهم طعن في الدين , قال التقي السبكي في فتاويه 2/575 : ( وينبني على هذا البحث سب بعض الصحابة فإن سب الجميع لا شك أنه كفر )
وفي كلام بعض المالكية أن ذلك ليس بكفر , قال الدسوقي في حاشيته على شرح الدردير 4/312 : ( قوله ( أو سب صحابيا ) قال عج : أي جنسه فيشمل سب الكل ... )
وفي بلغة السالك للصاوي 4/231 : ( أو سب صحابيّاً ) قال الأجهوري أي جنسه أي فيشمل سب الكل ... )
الحالة الثانية :
سب بعض الصحابة بغير التكفير :
ولذلك جهتان :
الجهة الأولى :
سب بعضهم لكونهم صحابة :
وهذا لا شك في كفره أيضا قال التقي السبكي في فتاويه 2/575 : ( وهكذا إذا سب واحدا من الصحابة حيث هو صحابي لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة ففيه تعرض إلى النبي فلا شك في كفر الساب , وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الطحاوي وبغضهم كفر فإن بغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر )
وقال أيضا [ فتاوى السبكي 2/ 575 ]: ( ولا شك أنه لو أبغض واحدا منهما [ أي أبو بكر وعمر ] لأجل صحبته فهو كفر بل من دونهما في الصحبة إذا أبغضه لصحبته كان كافرا قطعا )
والجهة الثانية :
سب بعضهم لأمر غير الصحبة :
وهنا وقع الخلاف فمن أهل العلم من حكم على ذلك بالكفر منهم من لم يحكم على ذلك بالكفر بل بالفسق فقط وعلى هذا جمهور أهل العلم , وقد وقع الخلاف في ذلك في كل مذهب من المذاهب الأربعة
وهذا بعض أقوالهم من المذاهب الأربعة :
المذهب الحنفي
- الصحيح عند الحنفية أن ذلك فسق وليس بكفر
- ومن الحنفية من يرى أن ذلك كفر
- ومنهم من يرى أن ذلك كفر في المستحل أو المستخف أو المتدين بذلك دون غيرهم
وهذه بعض أقوال الحنفية :
في حاشية ابن عابدين 5/11 : ( وأنت خبير بأن الصحيح في المعتزلة والرافضة وغيرهم من المبتدعة أنه لا يحكم بكفرهم وإن سبوا الصحابة أو استحلوا قتلنا بشبهة دليل كالخوارج الذين استحلوا قتل الصحابة ... وبه ظهر مراد البحر : غير الكافر منهم , ولذا شبهه بالكافر وبه سقط اعتراض النهر بأن الرافضي الساب للشيخين داخل في الكافر وكذا ما أجاب به بعضهم من أن مراد البحر المفضل لا الساب فافهم )
وفي حاشية ابن عابدين 7/162 : قوله ( من سب الصحابة ) لأنه لو سب واحدا من الناس لا تقبل شهادته فهذا أولى قهستاني , والحاصل أن الحكم بالكفر على ساب الشيخين أو غيرهما من الصحابة مطلقا قول ضعيف لا ينبغي الإفتاء به ولا التعويل عليه كما حققه سيدي الوالد تعالى في كتابه تنبيه الولاة والحكام فراجعه
وقال فيه أيضا : وأما قتل العلماء والأولياء وسبهم فليس بكفر إلا إذا كان على وجه الاستحلال أو الاستخفاف فقاتل عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما لم يقل بكفره أحد من العلماء إلا الخوارج في الأول والروافض في الثاني ...
وأما من سب أحدا من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع إلا إذا اعتقد أنه مباح أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة ...
فإذا سب أحدا منهم فينظر فإن كان معه قرائن حالية على ما تقدم من الكفريات فكافر وإلا ففاسق )
وفي حاشية ابن عابدين 4/236 : ( مطلب مهم في حكم سب الشيخين :
نقل في البزازية عن الخلاصة : أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر وإن كان يفضل عليا عليهما فهو مبتدع اه وهذا لا يستلزم عدم قبول التوبة
على أن الحكم عليه بالكفر مشكل لما في الاختيار اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا لكن يضلل الخ ...
ومما يزيد ذلك وضوحا ما صرحوا به في كتبهم متونا وشروحا من قولهم ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية
وقال ابن ملك في شرح الجمع : وترد شهادة من يظهر سب السلف لأنه يكون ظاهر الفسق وتقبل من أهل الأهواء الجبر والقدر والرفض والخوارج والتشبيه والتعطيل
وقال الزيلعي : أو يظهر سب السلف يعني الصالحين منهم وهم الصحابة والتابعون لأن هذه الأشياء تدل على قصور عقله وقلة مروءته ومن لم يمتنع عن مثلها لا يمتنع عن الكذب عادة بخلاف ما لو كان يخفي السب
ولم يعلل أحد لعدم قبول شهادتهم بالكفر كما ترى نعم استثنوا الخطابية لأنهم يرون شهادة الزور لأشياعهم أو للحالف وكذا نص المحدثون على قبول رواية أهل الأهواء فهذا فيمن يسب عامة الصحابة ويكفرهم بناء على تأويل له فاسد
فعلم أن ما ذكره في الخلاصة من أنه كافر قول ضعيف مخالف للمتون والشروح بل هو مخالف لإجماع الفقهاء كما سمعت
وقد ألف العلامة منلا علي القاري رسالة في الرد على الخلاصة وبهذا تعلم قطعا أن ما عزى إلى الجوهرة من الكفر مع عدم قبول التوبة على فرض وجوده في الجوهرة باطل لا أصل له ولا يجوز العمل به
وقد مر أنه إذا كان في المسألة خلاف ولو رواية ضعيفة فعلى المفتي أن يميل إلى عدم التكفير فكيف يميل هنا إلى التكفير المخالف للإجماع فضلا عن ميله إلى قتله وإن تاب وقد مر أيضا أن المذهب قبول توبة ساب الرسول فكيف ساب الشيخين )
وفي غمز عيون البصائر لابن نجيم 1/291 : ( وفي السراج أيضا : إن سب الصحابة كبيرة , ونظر فيه بعض الفضلاء بأنه يشعر بأنه ليس بكفر مع أنه كفر انتهى
وفيه أن الكبيرة لا تنافي الكفر بل تجامعه كما في الإشراك بالله فمن أين جاء الإشعار غاية الأمر أنه ساكت عن ذلك , على أنه ذكر في الاختيار في فصل الخوارج والبغاة إن سب أحدا من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا لكن يضلل فإن عليا لم يكفر شاتمه حتى لم يقتله )
وفي فتاوى السبكي 2/576 : ( وقد رأيت في الفتاوى البديعية من كتب الحنفية : قسم الرافضة إلى كفار وغيرهم وذكر الخلاف في بعض طوائفهم وفيمن أنكر إمامة أبي بكر وعمر أن الصحيح أنه يكفر ولا شك أن إنكار الإمامة دون السب
ورأيت في المحيط من كتب الحنفية : عن محمد : لا تجوز الصلاة خلف الرافضة ثم قال لأنهم أنكروا خلافة أبي بكر وقد أجمعت الصحابة على خلافته
وفي الخلاصة من كتبهم في الأصل ثم قال : وإن أنكر خلافة الصديق فهو كافر
وفي تتمة الفتاوى : والرافضي الغالي الذي ينكر خلافة أبي بكر يعني لا تجوز الصلاة خلفه
وفي الغاية للسروجي وفي المرغيناني : وتكره الصلاة خلف صاحب هوى وبدعة ولا تجوز خلف الرافضي ثم قال : وحاصله إن كان هوى يكفر به لا تجوز وإلا تجوز وتكره
وفي شرح المختار لابن بلدجي من الحنفية : وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا لكن يضلل فإن عليا لم يكفر شاتمه حتى لم يقتله ...
وفي الفتاوى البديعية من كتب الحنفية : من أنكر إمامة أبي بكر الصديق فهو كافر وقال بعضهم هو مبتدع والصحيح أنه كافر )
المذهب المالكي
- مذهب المالكية أن ذلك ليس بكفر بل فسق
- وحكى ابن كثير رواية عن الإمام مالك في أن ذلك كفر ولم أقف في كتب المالكية على هذه الرواية
وهذا بعض أقوال المالكية :
قال الدردير في شرحه على خليل 4/312 وهو يعدد من لا يقتل : (( أو سب من لم يجمع على نبوته ) كالخضر ولقمان ومريم وخالد بن سنان الذي قيل فيه أنه نبي أهل الرس ( أو ) سب ( صحابيا ))
قال الدسوقي في حاشيته عليه 4/312 : ( قوله ( أو سب صحابيا ) قال عج أي جنسه فيشمل سب الكل ... )
وفي بلغة السالك للصاوي 4/231 : ( أو سب صحابيّاً ) قال الأجهوري أي جنسه أي فيشمل سب الكل ... )
وفي فتاوى السبكي 2/579 : ( قال القاضي عياض في سب الصحابة : قد اختلف العلماء في هذا فمشهور مذهب مالك في هذا الاجتهاد والأدب الموجع , قال مالك في من شتم النبي قتلك ومن سب أصحابه أدب ...
المذهب الشافعي
عند الشافعية :
- إذا كان السب لأبي بكر وعمر فوجهان : التكفير وعدم التكفير والمذهب عدم التكفير
- وإذا كان السب لمن عداهما من الصحابة فلا تكفير قولا واحدا
- واختار التقي السبكي تكفير من فعل ذلك
وهذه بعض أقوال الشافعية :
ففي الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي 1/128 : ( ادعى بعض الناس أن هذا الرجل الرافضي [ رافضي سب الصحابة فقتل ] قتل بغير حق وشنع السبكي في الرد على مدعي ذلك بحسب ما ظهر له ورآه مذهبا وإلا فمذهبنا كما ستعلمه أنه لا يكفر بذلك , فقال [ السبكي ] : كذب من قال إنه قتل بغير حق بل قتل بحق لأنه كافر مصر على كفره )
وفي الصواعق المحرقة أيضا 1/129 : ( و بهذا تعلم أن جميع ما يأتي عن السبكي إنما هو اختيار له مبني على غير قواعد الشافعية )
وفي فضائح الباطنية للغزالي ص 149 : ( فأن قيل : فلو اعتقد معتقد فسق أبي بكر وعمر وطائفة من الصحابة فلم يعتقد كفرهم فهل تحكمون بكفره , قلنا : لا نحكم بكفره وإنما نحكم بفسقه وضلاله ومخالفته لإجماع الأمة )
وفي في فتاوى السبكي 2/575 : ( وأما إذا سب صحابيا لا من حيث كونه صحابيا بل لأمر خاص به وكان ذلك الصحابي مثلا ممن أسلم من قبل الفتح ونحن نتحقق فضيلته كالروافض الذين يسبون الشيخين ... فقد ذكر القاضي حسين في كفر من سب الشيخين وجهين )
وفي فتاوى السبكي أيضا 2/577 : ( وأما أصحابنا فقد قال القاضي حسين في تعليقه في باب اختلاف نية الإمام والمأموم : ومن سب النبي يكفر بذلك ومن سب صحابيا فسق وأما من سب الشيخين أو الحسين ففيه وجهان : أحدهما : يكفر لأن الأمة اجتمعت على إمامتهم , والثاني : يفسق ولا يكفر )
وفي فتاوى السبكي 2/590 : ( ومر عن القاضي حسين أن في كفر ساب الشيخين أو الختنين وجهين ولا ينافيه جزمه في موضع آخر بفسق ساب الصحابة وكذا ابن الصباغ وغيره وحكوه عن الشافعي لأنهما مسألتان فالثانية في مجرد السب وهو مفسق وإن كان المسبوب من آحاد الصحابة وأصاغرهم بخلاف الأول فإنها خاصة بسب الشيخين أو الختنين وهو أشد وأغلظ في الزجر بأن فيه وجها بالكفر )
وفي مغني المحتاج4/436 : ( تنبيه : قضية إطلاقه أنه لا فرق بين سب الصحابة وغيره وهو المرجح في زيادة الروضة ...
وقال السبكي في الحلبيات : في تكفير من سب الشيخين وجهان لأصحابنا فإن لم نكفره فهو فاسق لا تقبل شهادته ومن سب بقية الصحابة فهو فاسق مردود الشهادة ولا يغلط فيقال شهادته مقبولة اه فجعل ما رجحه في الروضة غلطا
قال الأذرعي : وهو كما قال ونقل عن جمع التصريح به ... )
وفي إعانة الطالبين 4/291 : ( قوله وإن سب الصحابة ) غاية في قبول الشهادة من المبتدع أي تقبل الشهادة من المبتدع وإن كان يسب الصحابة ...)
وفي حواشي الشرواني10/235 : ( قوله ( وإن سب الصحابة الخ ) وقع في أصل الروضة نقلا عن صاحب العدة وأقراه : عد سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الكبائر وجزم به ابن المقري في روضه وأقره عليه شارحه غير متعقب له وجزم به بعض المتأخرين ...)
المذهب الحنبلي
في مذهب الحنابلة الأقوال التالية :
- المستحل لذلك كافر وغير مستحل على روايتين : الكفر والفسق
- المجتهد الداعية كافر والمقلد فاسق
- عدم التكفير مطلقا
- تكفير من يفعل ذلك تدينا دون غيره
وهذه بعض أقوال الحنابلة :
في الفروع لابن مفلح 6/153 : ( و ذكر غيره روايتين فيمن سب صحابيا غير مستحل وأن مستحله كافر ...
وفي نهاية المبتدى : من سب صحابيا مستحلا كفر وإلا فسق وقيل عنه يكفر )
وفي المبدع لابن مفلح10/221 : ( وذكر ابن البنا في تكفير من سب الصحابة والسلف من الرافضة ومن سب عليا من الخوارج خلافا والذي ذكره القاضي عدم التكفير )
مطالب أولي النهى 6/273 : ( و ) قال ( في نهاية المبتدي من سب صحابيا مستحلا كفر وإلا ) يكن مستحلا ( فسق والمراد ولا تأويل ولذا لم يحكم كثير من الفقهاء بكفر ابن ملجم قاتل علي ) فانه قال حين جرحه أطعموه وأسقوه واحبسوه فان عشت فأنا ولي دمي وإن مت فأقتلوه ولا تمثلوا به ( ولا يحكم بكفر مادحه ) أي مادح ابن ملجم ( على قتله لعلي )
وفي مطالب أولي النهى أيضا 6/615 : ( ( قال المجد ) : الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية فإنا نفسق المقلد فيها كمن يقول بخلق القرآن أو إن علم الله مخلوق أو أن أسماءه مخلوقة ( أو يسب الصحابة تدينا ) فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعوا إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره نص أحمد صريحا على ذلك في مواضع انتهى ( ويكفر مجتهدهم ) أي مجتهد القائلين بخلق القرآن ونحوهم ممن خالف عليه أهل السنة والجماعة ( الداعية )
قال في الفصول في الكفاءة : وعندي أن ( عامتهم ) أي المبتدعة ( فسقة كعامة أهل الكتاب كفار مع جهلهم ) والصحيح لا كفر لأن أحمد أجاز الرواية عن الحرورية والخوارج )
وفي مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية 560 : ( من سب أحد من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء فإنه لا يكفر إلا إذا كان سبه مخالفا لأصل من أصول الإيمان مثل أن يتخذ ذلك السب دينا وقد علم أنه ليس بدين وعلى هذا ينبنى النزاع في تكفير الرافضة )
وفي فتاوى السبكي 2/580 : ( قال أحمد بن حنبل فيمن سب الصحابة : أما القتل فأجبن عنه ولكن أضربه ضربا نكالا
وقال أبو يعلى الحنبلي : الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة إن كان مستحلا لذلك كفر وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر , قال : وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة ... )
وفي فتاوى السبكي 2/590 : ( ومن ثم قال أحمد أيضا : شتم عثمان زندقة , ووجهه أنه بظاهره ليس بكفر وبباطنه كفر لأنه يؤدي إلى تكذيب الفريقين كما علمت فلا يفهم من كلامه كفر ساب الصحابة خلافا لبعض أصحابه كما مر )
ومن الخلاف السابق تعلم خطأ السمعاني في الأنساب 3/188 حيث ادعى اجتماع الأمة على كفر الأمامية لأنهم يضللون الصحابة حيث قال : ( واجتمعت الأمة على تكفير الإمامية لأنهم يعتقدون تضليل الصحابة وينكرون إجماعهم وينسبونهم إلى ما لا يليق بهم )
ويمكن أن يقال : مراده تضليل جميعهم , ولكن يشكل عليه أنه قد نص على الإمامية وهم لا يضللون الكل كما هو معلوم
الأدلة :
أولا : أدلة من قال بكفر من فعل ذلك
1-أن ذلك يعود على الدين بالنقص :
قال التقي السبكي في فتاويه 2/576 : ( وأما الرافضي فإنه يبغض أبا بكر وعمر لما استقر في ذهنه بجهله وما نشأ عليه من الفساد عن اعتقاده ظلمهما لعلي وليس كذلك ولا علي يعتقد ذلك فاعتقاد الرافضي ذلك يعود على الدين بنقص لأن أبا بكر وعمر هما أصل بعد النبي فهذا مأخذ التكفير ببغض الرافضة لهما وسبهم لهما )
وأجيب بأن ذلك يلزم إذا قيل بسبهم كلهم لا بعضهم
2-أن الرافضي يستحل ذلك وهو محرم ومن استحل محرم كفر :
قال السبكي في فتاويه 2/587 : ( الدليل الثاني استحلاله لذلك بمقتضى اعترافه ومن استحل ما حرمه الله فقد كفر ولا شك أن لعنته الصديق وسبه محرم قال ابن حزم واللعن أشد السب وقد صح عن النبي سباب المؤمن فسوق فسب أبي بكر فسق
فإن قلت إنما يكون استحلال الحرام كفرا إذا كان تحريمه معلوما بالدين بالضرورة قلت وتحريم سب الصديق معلوم من الدين بالضرورة بالنقل المتواتر على حسن إسلامه )
وأجيب كما ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة 1/132 بأن : ( شرط الكفر بجحد الضروري أن يكون ضروريا عند الجاحد حتى يستلزم جحده حينئذ تكذيبه وليس الرافضي يعتقد تحريم لعن أبي بكر فضلا عن كونه يعتقد أن تحريمه ضروري وقد ينفصل عنه بأن تواتر تحريم ذلك عند جميع الخلق يلغي شبهة الرافضي التي غلظت على قلبه حتى لم يعلم ذلك وهذا محل نظر وجدل وميل القلب إلى بطلان هذا العذر أي باعتبار ما ظهر للسبكي وإلا فقواعد المذهب قاضيه بقبول هذا العذر بالنسبة لعدم التكفير لأنه إنما يسب أو يلعن متأولا وإن كان تأويله جهلا وعصبية وحمية لكن باب الكفر يحتاط فيه كما هو مقرر في محله )
3-قوله تعالى في مدح الصحابة ( ليغيظ بهم الكفار ) :
ففي التبصير للاسقرائيني ص 42 : ( قال أبو إدريس المفسر : إن ظاهر هذه الآية يوجب أن الروافض كفار لأن قلوبهم غيظا من الصحابة وعداوة لهم ألا تراه يقول ( ليغيظ بهم الكفار ) فبين أن من كان في قلبه غيظ منهم من الكفار ) اه
وفي روح المعاني 26 /127 : ( وفي المواهب : أن الإمام مالكا ! قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم يغيضونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر ووافقه كثير من العلماء انتهى
وفي البحر ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال : من أصبح من الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم
وفي كلام عائشة رضي الله تعالى عنها ما يشير إليه أيضا فقد أخرج الحاكم وصححه عنها في قوله تعالى ( ليغيظ بهم الكفار ) قالت أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أمروا بالأستغفار لهم فسبوهم )
قال ابن حزم في الجواب عن ذلك في الفصل 3/140 : ( قال أبو محمد : واحتج بعض من يكفر من سب الصحابة بقول الله ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى قوله - ليغيظ بهم الكفار ) قال فكل من أغاظه أحد من أصحاب رسول الله فهو كافر
قال أبو محمد : وقد أخطأ من حمل الآية على هذا لأن الله لم يقل قط أن كل من غاظه واحد منهم فهو كافر وإنما أخبر تعالى أنه يغيظ بهم الكفار فقط ونعم هذا حق لا ينكره مسلم وكل مسلم فهو يغيظ الكفار
وأيضا فإنه لا يشك أحد ذو حس سليم في أن عليا قد غاظ معاوية وأن معاوية وعمرو بن العاص غاظا عليا وأن عمار أغاظ أبا العادية وكلهم أصحاب رسول الله فقد غاظ بعضهم بعضا فيلزم على هذا تكفير من ذكرنا وحاشى لله من هذا )
4-أن في ذلك تكذيبا للآيات والأحاديث التي مدحتهم :
في المواقف للإيجي 3/572 : ( الرابع من تلك الأبحاث قد كفر الروافض والخوارج بوجوه :
الأول : أن القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن والأحاديث الصحيحة بالتزكية والإيمان تكذيب للقرآن وللرسول حيث أثنى عليهم وعظمهم فيكون كفرا )
وأجاب الإيجي عن ذلك بقوله : ( قلنا لا ثناء عليهم خاصة , أي لا ثناء في القرآن على واحد من الصحابة بخصوصه ,وهؤلاء قد اعتقدوا أن من قدحوا فيه ليس داخلا في الثناء العام الوارد فيه , وإليه أشار بقوله ولا هم داخلون فيه عندهم فلا يكون قدحهم تكذيبا للقرآن
وأما الأحاديث الواردة في تزكية بعض معين من الصحابة والشهادة لهم بالجنة فمن قبيل الآحاد فلا يكفر المسلم بإنكارها , أو نقول ذلك الثناء عليهم وتلك الشهادة لهم مقيدان بشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم فلا يلزم تكذيبهم للرسول )
5-أن في ذلك إغاضة للنبي وإغاضته كفر :
ذكر ذلك التقي السبكي في فتاويه , ولكنه اعترضه بأن فعل المعاصي فيه إغاضة للنبي صلى الله علية وسلم فيلزم منه تكفير صاحب الكبيرة فلا يصلح ذلك دليلا
ثانيا : أدلة من قال بعدم كفرهم
1-أن سب المسلم فسق وليس بكفر ولا فرق بين الصحابة وغيرهم :
قال الغزالي في فضائح الباطنية ص 149 : ( لا نحكم بكفره وإنما نحكم بفسقه وضلاله ومخالفته لإجماع الأمة وكيف نحكم بكفره ونحن نعلم أن الله تعالى لم يوجب على من قذف محصنا بالزنا إلا ثمانين جلدة ونعلم أن هذا الحكم يشتمل كافة الخلق ويعمهم على وتيرة واحدة وأنه لو قذف قاذف أبا بكر وعمر بالزنا لما زاده على إقامة حد الله المنصوص عليه في كتابه ولم يدعوا لأنفسهم التمييز بخاصية في الخروج عن مقتضى العموم )
المذهب الحنبلي :
في كشاف القناع 6/170 : ( ( أو ) قال قولا يتوصل به إلى ( تكفير الصحابة ) أي بغير تأويل ( فهو كافر ) لأنه مكذب للرسول في قوله أصحابي كالنجوم وغيره وتقدم الخلاف في الخوارج ونحوهم )
**********************************************************
والحالة الثانية : تكفير بعض الصحابة :
ولذلك جهتان :
الجهة الأولى : تكفيرهم لأجل الصحبة :
فهذا كفر لأن مجرد سبهم لأجل الصحبة كفر فتكفيرهم لأجلها كفر من باب أولى وهذه الحالة لا يتصور صدورها ممن ينتسب لأهل القبلة إلا من زنديق ومثل ذلك قل في السب لأجل الصحبة
والجهة الثانية : تكفيرهم لأمر غير ذلك :
وهنا اختلف أهل العلم من المذاهب الأربعة فمنهم من كفر من فعل ذلك ومنهم من لم يكفره بل حكم عليه بالفسق فقط
المذهب الشافعي :
في روضة الطالبين 10/ 70 : ( وكذا يقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة )
وقال النووي في شرح مسلم 15/174 : ( قال القاضي : كفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد بعضهم فكفر عليا لانه لم يقم في طلب حقه بزعمهم وهؤلاء اسخف مذهبا وافسد عقلا من ان يرد قولهم او يناظر
وقال القاضي : ولا شك في كفر من قال هذا لان من كفر الامة كلها والصدر الاول فقد ابطل نقل الشريعة وهدم الاسلام
واما من عدا هؤلاء الغلاة فانهم لا يسلكون هذا المسلك فاما الامامية وبعض المعتزلة فيقولون هم مخطئون في تقديم غيره لا كفار وبعض المعتزلة لا يقول بالتخطئة لجواز تقديم المفضول عندهم )
وقال التقي السبكي في فتاويه 2/578 : ( وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة كقول الكاملية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي لأنهم أبطلوا الشريعة بانقطاع نقلها وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه يقتل من كفر الصحابة )
وهذه بعض أقوالهم من المذاهب الأربعة :
المذهب الحنفي
- الصحيح من مذهب الحنفية أن ذلك ليس بكفر
- وذهب بعض الحنفية إلى أن ذلك كفر
وهذه بعض أقوالهم :
في حاشية ابن عابدين 4/236 : ( وذكر في فتح القدير : أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة
وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون , قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء ...
نعم يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير ولكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا
وكذا نص المحدثون على قبول رواية أهل الأهواء فهذا فيمن يسب عامة الصحابة ويكفرهم بناء على تأويل له فاسد )
المذهب المالكي
- مذهب المالكية أن ذلك ليس بكفر
- وحكى السبكى عن مالك تكفر من فعل ذلك
- وذهب سحنون وعياض منهم إلى أن ذلك كفر , وأشار السبكي إلى أن كلام سحنون في مكفر الأربعة جميعا
وهذه بعض أقوالهم :
قال الدسوقي في حاشيته على شرح الدردير 4/312 : ( ومثل السب تكفير بعضهم ولو من الخلفاء الأربعة بل كلام السيوطي في شرحه على مسلم المسمى بالإكمال يفيد عدم كفر من كفر الأربعة وأنه المعتمد فيؤدب فقط خلافا لقول سحنون أنه يرتد )
ونحو ذلك في بلغة السالك للصاوي 4/231
وفي فتاوى السبكي 2/585 : ( ويشهد لهذا من كلام مالك أنه حمل الحديث [ أي حديث من كفر مسلما فقد كفر ] على الخوارج الذين كفروا أعلام الأمة فهذا نص مالك يوافق استنباطي من هذا الحديث تكفير هذا القائل )
2-أن بعض الصحابة قد سب بعضا ولو كان كفرا لكفروا :
ففي صحيح مسلم 4/1967 : (عن أبي سعيد قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله : لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه )اه
3-أن الصحابة قد اقتتلوا والقتل أكبر من السب :
ففي صحيح البخاري 6/2592 : ( عن عبد الله بن مسعود قال النبي : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) اه أي دون كفر أو هو للمستحل كما قال شراح الحديث
وفي فتاوى السبكي 2/579 : ( قال القاضي عياض : من شتم أحدا من أصحاب النبي أبي بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال :كانوا على ضلال أو كفر قتل وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا
قلت : وقوله في القتل إذا نسبهم إلى ضلال وكفر حسن أنا أوافقه عليه إذا نسبهم إلى الكفر لأن النبي شهد لكل منهم بالجنة وإن نسبهم إلى الظلم دون الكفر كما يزعمه بعض الرافضة فهذا محل التردد ...
وحكى ابن أبي زيد عن سحنون : من قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنهم كانوا على ضلال وكفر قتل ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل هذا نكل النكال الشديد
قلت : قتل من كفر الأربعة ظاهر لأنه خلاف إجماع الأمة إلا الغلاة من الروافض فلو كفر الثلاثة ولم يكفر عليا لم يصرح سحنون فيه بكلام فكلام مالك المتقدم أصرح فيه )
4-عدم الدليل المسلم على تكفير من فعل ذلك :
فكل الأدلة السابقة على التكفير قد أجاب عنها القائلون بعدم التكفير كما تقدم
5-أن الصحابة لم يكفروا الخوارج وقد كفروا الصحابة والتكفير أكبر من السب :
ففي مصنف عبد الرزاق 10 / 150 : ( عن الحسن قال : لما قتل علي الحرورية قالوا من هؤلاء يا أمير المؤمنين أكفار هم قال من الكفر فروا
قيل فمنافقين قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا
قيل فما هم قال قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا )
وفي التمهيد لابن عبد البر 23/335 : ( وروى حكيم بن جابر وطارق بن شهاب والحسن وغيرهم عن علي بمعنى واحد أنه سئل عن أهل النهروان أكفارهم قال من الكفر فروا ...)
المذهب الشافعي
- عامة الشافعية على عدم تكفير من فعل ذلك
- وذهب الإمام السبكي إلى تكفيره
وهذه بعض أقوالهم :
في فضائح الباطنية للغزالي ص 149 : ( فإن قيل : فلو صرح مصرح بكفر أبي بكر وعمر ينبغي أن ينزل منزلة من لو كفر شخصا آخر من آحاد المسلمين أو القضاة والأئمة من بعدهم
قلنا : هكذا نقول فلا يفارق تكفيرهم تكفير غيرهم من آحاد الأمة والقضاة بل أفراد المسلمين المعروفين بالإسلام إلا في شيئين :
أحدهما : في مخالفة الإجماع وخرقه فأن مكفر غيرهم ربما لا يكون خارقا لإجماع معتد به
الثاني : أنه ورد في حقهم من الوعد بالجنة والثناء عليهم والحكم بصحة دينهم وثبات يقينهم وتقدمهم على سائر الخلق أخبار كثيرة فقائل ذلك إن بلغته الأخبار واعتقد مع ذلك كفرهم فهو كافر لا بتكفيره إياهم ولكن بتكذيبه رسول الله فمن كذبه بكلمة من أقاويله فهو كافر بالإجماع
ومهما قطع النظر عن التكذيب في هذه الأخبار وعن خرق الإجماع نزل تكفيرهم منزله سائر القضاة والأئمة وآحاد المسلمين )
**********************************************************
سب الصحابة بالتكفير
ولذلك حالتان :
الحالة الأولى : تكفير جميع الصحابة :
وهذا لا شك في أنه كفر فإذا كان سب جميع الصحابة بما دون التكفير كفر فمن باب أولى سبهم وهذه بعض أقوال أهل العلم في ذلك :
المذهب الحنفي :
في حاشية ابن عابدين 7/162 عن والده قال : ( وأما من سب أحدا من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع ... أو اعتقد كفر الصحابة فإنه كافر بالإجماع )
المذهب المالكي :
قال الدسوقي في حاشيته على شرح الدردير 4/312 : ( ... وأما من كفر جميع الصحابة فإنه يكفر كما في الشامل لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة وكذب الله ورسوله )
وفي بلغة السالك للصاوي 4/231 :( وأما من كفر جميع الصحابة فإنه يكفر باتفاق كما في الشامل لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة و كذب الله و رسوله )
وفي القوانين الفقهية لابن جزي 239 : ( لا خلاف في تكفير من نفى الربوبية ... أو كفر جميع الصحابة أو جحد شيئا مما يعلم من الدين ضرورة )
في إعانة الطالبين 4/291 : ( قوله وإن سب الصحابة ) ... عبارة المغني : تنبيه قضية إطلاقه أنه لا فرق بين سب الصحابة وغيره وهو المرجح في زيادة الروضة ... وأن الماوردي قال من سب الصحابة أو لعنهم أو كفرهم فهو فاسق مردود الشهادة )
وفي فتاوى السبكي 2/585 : ( فإن قلت قد قال النووي : هذا ضعيف [ أي حمل حديث تكفير من كفر المسلم على الخوارج ] لأن المذهب الصحيح عدم تكفير الخوارج .
قلت : رضي الله عن الشيخ محيي الدين أخذ بظاهر المنقول من عدم التكفير وذلك محمول على ما إذا لم يصدر منهم سبب مكفر كما إذا لم يحصل إلا مجرد الخروج والقتال ونحوه أما مع التكفير لمن تحقق إيمانه فمن أين ذلك )
وفي فتاوى السبكي 2/590 : ( وأما المسألة الثالثة وهي تكفير أبي بكر ونظر أنه من الصحابة هذه لم يتكلم فيها أصحابنا في كتاب الشهادات ولا في كتاب الصلاة وهي مسألتنا والذي أراه أنه موجب للكفر قطعا عملا بمقتضى الحديث المذكور )
المذهب الحنبلي
في مذهب الحنابلة روايتان :
- رواية بعدم كفر من فعل ذلك وعليها الأكثر
- ورواية بكفر من فعل ذلك وهي الأشهر والأظهر :
وهذه بعض أقوالهم :
ففي الفروع لابن مفلح 6/153 : ( ومن كفر أهل الحق والصحابة واستحل دماء المسلمين بتأويل فهم خوارج بغاة فسقة وعنه كفار , وفي الترغيب والرعاية هو أشهر وذكر ابن حامد أنه لا خلاف فيه ) اه
وفي مطالب أولي النهى 6/273 : ( ومن كفر أهل الحق والصحابة واستحل دماء المسلمين ) وأموالهم ( بتأويل ف ) هم ( خوارج بغاة فسقه ) باعتقادهم الفاسد قال في المبدع : تتعين استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم ويجوز قتلهم وإن لم يبدأوا بالقتال قدمه في الفروع ...
( وعنه ) أي الإمام أحمد إن الذين كفروا أهل الحق والصحابة واستحلوا دماء المسلمين بتأويل أو غير ( كفار ) قال ( المنقح وهو أظهر ) انتهى قال في الإنصاف : وهو الصواب والذي ندين الله به )
وفي مطالب أولي النهى أيضا 6/615 : ( فلا تقبل شهادة فاسق بفعل مما مر ... ( أو في الرفض ) أي تكفير الصحابة وتفسيقهم بتقديم غير علي عليه في الخلافة ...)
**********************************************************
ولذلك حالتان :
الحالة الأولى : سبها بغير ما برأها الله منه :
فهذا يعود إلى خلافهم السابق في حكم من سب بعض الصحابة , قال الدسوقي في حاشيته على شرح الدردير 4/312 : ( وأما لو سبها بغير ما برأها الله منه فإنه يؤدب فقط ) اه
الحالة الثانية : سبها بما برأها الله منه :
وهذا لا شك في أنه كفر لأنه تكذيب للقرآن
ويفهم من كلام السبكي عن ابن شعبان الآتي أن هناك من خالف في ذلك , وهذه بعض أقوال أهل العلم من المذاهب الأربعة في ذلك :
المذهب الحنفي
في حاشية ابن عابدين 5/11 : ( بخلاف الغلاة منهم كالقائلين بالنبوة لعلي والقاذفين للصديقة فإنه ليس لهم شبهة دليل فهم كفار كالفلاسفة )
وفي حاشية ابن عابدين أيضا 7/162 عن والده قال: ( وأما قذف عائشة فكفر بالإجماع وهكذا إنكار صحبة الصديق لمخالفة نص الكتاب بخلاف من أنكر صحبة عمر أو علي وإن كانت صحبتهما بطريق التواتر إذ ليس إنكار كل متواتر كفرا ألا ترى أن من أنكر وجود حاتم بل وجوده أو عدالة أنورشروان وشهوده لا يصير كافرا إذ ليس مثل هذا مما علم من الدين بالضرورة )
المذهب المالكي
قال الدردير في شرحه على خليل 4/312 وهو يعدد من لا يقتل : ( أو ) سب ( صحابيا ) إلا عائشة بما برأها الله به فيقتل لردته )
قال الدسوقي في حاشيته عليه 4/312 : ( قوله ( بما برأها الله به ) أي منه وهو الزنا وقوله فيقتل أي فإذا سبها بما برأها الله منه بأن قال زنت فيقتل لردته لتكذيبه للقرآن , وأما لو سبها بغير ما برأها الله منه فإنه يؤدب فقط )
وفي بلغة السالك للصاوي 4/231 : ( قوله ( بغير الزنا ) أي لأن الله برأها منه لقوله جل من قائل أُولئكَ مُبَّرءُونَ ممَّا يقُولونَ و ظاهره أن رميها بالزنا كفر و لو بغير واقعة صفوان )
في فتاوى السبكي 2/590 : ( وفي كتاب ابن شعبان : و من سب عائشة ففيه قولان : أحدهما : يقتل والآخر كسائر الصحابة يجلد حد المفتري قال : وبالأول أقول ...
قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول : من سب أبا بكر وعمر قتل ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول فيها ( يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ) فمن رماها فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل قال ابن حزم وهذا قول صحيح )
المذهب الشافعي
في فتاوى السبكي 2/592 : ( وأما الوقيعة في عائشة والعياذ بالله فموجبة للقتل لأمرين :
أحدهما : أن القرآن يشهد ببراءتها فتكذيبه كفر والوقيعة فيها تكذيب له .
والثاني : أنها فراش النبي والوقيعة فيها تنقيص له وتنقيصه كفر
وينبني على المأخذين سائر زوجاته إن عللنا بالأول لم يقتل من وقع في غير عائشة وإن عللنا بالثاني قتل لأن الكل فراش النبي وهو الأصح على ما قاله بعض المالكية
وإنما لم يقتل النبي قذفة عائشة لأن قذفهم كان قبل نزول القرآن فلم يكن تكذيبا للقرآن ولأن ذلك حكم ثبت بعد نزول الآية فلم ينعطف حكمه على ما قبلها )
وفي مغني المحتاج4/436 : ( تنبيه : قضية إطلاقه أنه لا فرق بين سب الصحابة وغيره وهو المرجح في زيادة الروضة قال : بخلاف من قذف عائشة رضي الله تعالى عنها فإنه كافر أي لأنه كذب على الله تعالى )
المذهب الحنبلي
في بغية المرتاد لابن تيمية 343 : ( وكذلك من نسب عائشة وعن أبيها إلى الفاحشة وقد نزل القرآن ببراءتها فهو كافر لأن هذا وأمثاله لا يمكن إنكاره إلابتكذيب الرسول أو إنكار التواتر )
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الحجرات: 1]
معنى النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله
والمعنى يا أيها الذين آمنوا لا تعجلوا بقضاء أمر في دينكم أو شؤونكم العامة كالحرب قبل أن يأذن الله لكم فيه ورسوله، فتخالفوا كتاب الله وسنة رسوله باعتقاد أو فعل أو قول.
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 335)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 349، 350)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الحجرات)) (ص: 7 - 9).
كما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]
وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور: 51]
وقال عز وجل: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]
أحاديث وآثار في معنى الآية:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رغب عن سنتي فليس مني)). رواه البخاري (5063) ومسلم 1401
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) رواه البخاري (100) ومسلم 2673
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قال: (لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة). رواه ابن جرير في تفسيره (21/ 335).
عن مجاهد قال: (لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه رواه ابن جرير في تفسيره (21/ 336).
عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: (لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله). رواه ابن جرير في تفسيره (21/ 337).
من أقول المفسرين والعلماء:
قال القرطبي: (أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا، ومن قدَّم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدَّمه على الله تعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل) ((تفسير القرطبي)) (16/ 300).
قال ابن القيم: (أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه، والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل) ((إعلام الموقعين)) (1/ 41).
قال ابن القيم: (من الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف. حتى يأمر هو، وينهى ويأذن، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، وهذا باقٍ إلى يوم القيامة ولم يُنسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم) ((مدارج السالكين)) (2/ 367)
قال الشنقيطي: (المعنى لا تتقدموا أمام الله ورسوله فتقولوا في شيء بغير علم ولا إذن من الله، وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله، ويدخل في ذلك دخولاً أوليًّا تشريع ما لم يأذن به الله، وتحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله؛ لأنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا حلال إلا ما أحله الله، ولا دين إلا ما شرعه الله) ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 401).
قال ابن عاشور: (المقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يُعرف من قِبَل الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد حصل من قوله: ﴿ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ معنى: اتبعوا الله ورسوله.. وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء: إن المكلف لا يُقدِم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه) ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 216).
قال ابن عثيمين: (من التقدم بين يدي الله ورسوله البدع بجميع أنواعها،.. والبدعة أنواع كثيرة: بدع في العقيدة، وبدع في الأقوال، وبدع في الأفعال) ((تفسير ابن عثيمين - سورة الحجرات)) (ص: 8، 9).
مسألة مهمة:
يجب على كل مسلم أن يطلب العلم الشرعي ويعمل به بقدر استطاعته، حتى لا يخالف الكتاب والسنة في اعتقاده أو قوله أو فعله، وأن يسأل أهل العلم عما أشكل عليه، كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]
قال القرافي: حكى الشافعي والغزالي الإجماع في أن المكلَّف لا يجوز له أن يُقدِم على فعلٍ حتى يعلم حكم الله فيه، فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عيَّنه الله وشرعه في البيع، ومن آجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله في الإجارة، ومن صلى وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة وجميع الأقوال والأعمال، فمن تعلم وعمل بمقتضى ما علم أطاع الله طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين، ومن علِم ولم يعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله طاعة وعصاه معصية) ((الفروق)) (2/ 148) بتصرف يسير. وينظر: ((البحر المحيط في أصول الفقه)) للزركشي (1/ 223)
************************************************************
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون}
حذر -جل وعلا- أن من يرفع صوته فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبط عمله، وعندما نزلت هذه السورة خاف أحد الصحابة وكان جهور الصوت أن يحبط عمله؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: "يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ اشْتَكَى"؟ -أي هل هو مريض؟- قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، قال: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، (متفق عليه).
والسؤال: هل هذا الحكم لا يزال قائما أم رفع عنا بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ يمكن أن نعرف جواب ذلك من حياة الصحابة -رضي الله عنهم- بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم، ومن فهمهم لكتاب الله -عز وجل-؛ فقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يغضون أصواتهم عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث روى السَّائِبُ بْنُ يَزِيد -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟" رواه البخاري.
ومرة من المرات ناظر أبو جعفر الخليفة، مالكاً الفقيه العلامة الثقة المحدث، ناظره في المسجد النبوي؛ أي: مناقشة، فقال الإمام مالك للخليفة: لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا المسجد؛ فإن الله -تعالى- أدب قوماً، فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]، وإنَّ حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، نزل عند نصح الإمام مالك.
ويرى بعض أهل العلم أن هذا الحكم يجب العمل به عند سماع أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد ذكر القرطبي -رحمه الله تعالى- في تفسيره نقلاً عن ابن العربي قوله: "حرمة النبي -صلى الله عليه وسلم- ميتًا كحرمته حيًا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة، مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قُرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه؛ كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به".
قال الخطيب البغدادي: "أرَى رَفْعَ الصَّوْتِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ كَرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، إِذَا قُرِئَ حَدِيثٌ وَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تُنْصِتَ لَهُ كَمَا تُنْصِتُ لِلْقُرْآنِ"، وقال: "فَمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ عِنْدَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ، فَكَأَنَّمَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".
وكان عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله تعالى-: إذا قَرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الحاضرين بالسكوت؛ فلا يتحدث أحد، ولا يُبرى قلم، ولا يبتسم أحد، كأن على رؤوسهم الطير.
رفع الصوت عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام يدخل في قوله تعالى: ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ [الحجرات: 2] وإن كنا لا نخاطبه لكن لا يليق أن ترتفع الأصوات عند قبره, ولهذا لما سمع عمر ـ رضي الله عنه ـ رجلين من الطائف يرفعان أصواتهما عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام, سألهما وقال: (أتعلمان أين أنتما؟ ثم قال: من أي بلد أنتما؟ قالا: من الطائف , قال: لو كنتما من هذا البلد لفعلت كذا وكذا) فدل هذا على أن من تمام الأدب ألا يرفع الإنسان صوته عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم
وأما ما يفعله بعض الغلاة تجده يقف أمام القبر والقبلة خلفه على ذراعه اليسرى وخشع أكثر من خشوعه في الصلاة فهذا منكر, والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يحب هذا ولا يرضى به, لأننا نشاهد أناساً يقفون عند القبر على هذه الصفة، ومع ذلك لا يمكن أن يتزحزح، حتى لو أردت أن تزحزحه لتمر من عنده أبى أن يتحرك, وهذا لا شك أنه منكر عظيم, والله أعلم بما في قلبه, ربما يكون هذا الوقوف تعبداً للرسول عليه الصلاة والسلام فيكون مشركاً من حيث لا يشعر.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
لهذه الآية الكريمة سبب نزول توارد المفسرون على ذكره، وخلاصته أن الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه ـ سيد بني المصطلق ـ لما أسلم اتفق مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له ـ في وقت اتفقا عليه ـ جابياً يأخذ منه زكاة بني المصطلق، فخرج رسولُ رسولِ صلى الله عليه وسلم لكنه خاف فرجع في منتصف الطريق، فاستغرب الحارث بن ضرار تأخر رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته لما رجع الرسول إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إلى الحارث،
فالتقى البعث الذين بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع الحارث بن ضرار في الطريق، فقال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك! قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله! قال: لا والذي بعث محمداً بالحق، ما رأيته بتة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟! قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله، قال فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} انتهى الحديث مختصراً، وقد رواه الإمام أحمد بسند لا بأس به، ويعضده الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر على أنها نزلت في هذه القصة.
إذا تبين هذا المعنى، فإن من المؤسف أن يجد المسلم خرقاً واضحاً من قبل كثير من المسلمين لهذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، وازداد الأمر واتسع مع وسائل الاتصال المعاصرة كأجهزة الجوال والإنترنت وغيرها من الوسائل!
وأعظم من يكذب عليه من الناس في هذه الوسائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكم نسبت إليه أحاديث، وقصص لا تصح عنه، بل بعضها كذب عليه، لا يصح أن ينسب لآحاد الناس فضلاً عن شخصه الشريف صلى الله عليه وسلم.
ويلي هذا الأمر في الخطورة التسرع في النقل عن العلماء، خصوصاً العلماء الذين ينتظر الناس كلمتهم، ويتتبعون أقوالهم، وكلُّ هذا محرم لا يجوز، وإذا كنا أمرنا في هذه القاعدة القرآنية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} أن نتحرى ونتثبت من الأخبار عموماً، فإنها في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق ورثته أشد وأشد.
ولا يقتصر تطبيق هذه القاعدة القرآنية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} على ما سبق ذكره، بل هي قاعدة يحتاجها الزوجان، والآباء مع أبنائهم، والأبناء مع آبائهم.
فممَّا لا شك فيه أن الشائعات لها دورٌ خطير في زعزعة أمن الناس واستقرارهم؛ فهي تثير القلاقل والفتن، التي تفرِّق بين المسلمين، وتوقد نار الشحناء والبغضاء بينهم، وتعمل على نشر الأكاذيب والترويج للباطل؛ فتقلب الأمور، وتبدِّل الأحوال، والسبب أن الناس يَنقُلون الكلام دون تثبُّت من صحته، ويظنُّون أن هذا الأمر هين، ولكنه عند الله عظيم.
قال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15]
فلا بد من التبيُّن في الأمر، والتَّثبُّت من الخبر قبل نقلِه والترويج له، وهذا مَطلب كلِّ إنسان عاقل؛ حتى يَستبين له الحق، ويقف على حقيقة الأمر، وهذا ما أمرَنا به القرآن الكريم؛ حيث قال رب العالمين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "يَأمر تعالى بالتَّثبُّت من خبر الفاسق؛ ليَحتاط له؛ لئلاَّ يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذبًا أو مخطئًا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين". اهـ.
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وفي قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ [النساء: 83] إنكارٌ على مَن يبادر إلى الأمور قبل تحقيقها، فيخبر بها ويغشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة"
ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره "تيسير الكريم الرحمن"؛ (صــ 190):
"هذا تأديبٌ من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمرٌ من الأمور المهمة والمصالح العامة ممَّا يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم - أن يتثبَّتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أُولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم، والنُّصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها". اهــ.
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من العجلة وعدم التثبت:
فقد أخرج الإمام مسلمٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمع)).
وفي "سنن أبي داود" بسند صحيح عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بئس مَطيَّةُ الرجل: زعَموا))؛ (الصحيحة: 866).
وفي هذه الآية القرآنية دلالات أخرى، منها:
ـ أن خبر العدل مقبول غير مردود، اللهم إلا إن لاحت قرائن تدل على وهمه وعدم ضبطه فإنه يرد.
ـ "أنه سبحانه لم يأمر بردِّ خبر الفاسق وتكذيبه ورد شهادته جملةً، وإنما أمر بالتبين، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق، ولو أخبر به من أخبر.
ـ ومنها: أنها تضمنت ذم التسرع في إذاعة الأخبار التي يخشى من إذاعتها، ولقد عاب ربنا تبارك وتعالى هذا الصنف من الناس، كما في قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]
ـ أن في تعليل هذا الأدب بقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ما يوحي بخطورة التعجل في تلقي الأخبار عن كل أحدٍ، خصوصاً إذا ترتب على تصديق الخبر طعنٌ في أحد، أو بهتٌ له.
ولله كم من بيت تقوضت أركانه بسبب الإخلال بهذه القاعدة القرآنية!
هذه رسالة قد تصل إلى جوال أحد الزوجين، فإن كانت من نصيب جوال الزوجة، واطلع الزوج عليها، سارع إلى الطلاق قبل أن يتثبت من حقيقة هذه الرسالة التي قد تكون رسالة طائشة جادة أو هازلة جاءت من مغرض أو على سبيل الخطأ!
وقل مثل ذلك: في حق رسالة طائشة جادة أو هازلة تصل إلى جوال الزوج، فتكتشفها الزوجة، فتتهم زوجها بخيانة أو غيرها، فتبادر إلى طلب الطلاق قبل أن تتثبت من حقيقة الحال!
ولو أن الزوجين أعملا هذه القاعدة القرآنية: {فَتَبَيَّنُوا} لما حصل هذا كلّه.
وإذا انتقلتَ إلى ميدان الصحافة أو غيرها من المنابر الإعلامية، وجدت عجباً من خرق سياج هذا الأدب.. فكم من تحقيقات صحفية بنيت على خبر إما أصله كذب، أو ضُخّم وفُخّم حتى صُور للقراء على أن الأمر بتلك الضخامة والهول، وليس الأمر كما قيل!
والواجب على كل مؤمن معظم لكلام ربه أن يتقي ربه، وأن يتمثل هذا الأدب القرآني الذي أرشدت إليه هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {فَتَبَيَّنُوا}.
هذا و بالله التوفيق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق