الخميس، 16 نوفمبر 2017

الجزء السادس - الربع الثامن - الأحكام الفقهية




بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [سورة المائدة: 78، 79]

المسألة الأولى:
تعريف المعروف والمنكر

 المعروف لغة: 
قال ابن منظور: المعروف: الجود.
وقيل اسم لما تبذله وتسديه، قال الزجاج: "المعروف: ما يستحسن من الأفعال [لسان العرب ج4 من ص2899: ص2900].

والمعروف مأخوذ من المعرفة، وهي في أصل اللغة العربية: اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه، وتسكن إليه النفس، قال الله تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾ [سورة لقمان آية: 15].

 المعروف شرعاً:
المعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس.


 المنكر لغة: اسم لما تنكره النفوس وتشمئز منه ولا تعرفه، والمنكر من الأمر خلاف المعروف، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [سورة لقمان آية: 19] أي أقبح الأصوات. [لسان العرب ج6 من ص4539].

 المنكر شرعاً:
اسم جامع لكل ما عرف بالشرع قبحه، من معصية الله تعالى وظلم عباده.
************************************************************
المسألة الثانية:
حث الشرع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لقد تحدث القرآن الكريم في كثير من آياته عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحثنا الله تبارك وتعالى على هذه المهمة السامية.

1-فقال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة آل عمران آية:104]، 
فجعل سبحانه الفلاح في الدنيا والآخرة مرتبطاً بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2-ويقول الله عز وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [سورة آل عمران آية: 110]

• يقول الإمام القرطبي - رحمه الله -: هذه الآية مدح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ويظل هذا معها ما أقاموا ذلك، فإذا تركوا ذلك التغيير زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو شرط الخيرية. [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج4 ص173].

• ويقول الإمام ابن كثير - رحمه الله -: يخبر تعالى عن الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم، فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.

 • قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، عن سفيان عن ميسرة، عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ قال خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. [البخاري مع الفتح ج8 كتاب التفسير حديث 4557]، 
ثم قال رحمه الله تعالى: ﴿والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس،
 ولهذا قال: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه﴾ [تفسير القرآن العظيم ج3 ص141 (طبعة مكتبة أولاد الشيخ)]

3-ويقول الله أيضاً: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ سورة التوبة آية: 104.
في هذه الآية المباركة يبين الله تعالى أن من أسباب رحمته سبحانه وتعالى للمؤمنين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4-ويقول سبحانه وتعالى كذلك: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [سورة الحج آية: 110].
 وفي هذه الآية الجليلة يوضح الله تعالى أن الغاية من التمكين في الأرض والظفر بالسلطان والحكم، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5-قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، 
ففعل الأمر ﴿قُوا﴾ يدل على الوجوب، ويتحقق هذا الفعل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

6- قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، والعرف: هو المعروف، والأمر للوجوب، وإذا كان الأمر بالمعروف واجباً كان النهي عن ضده واجبا.

7- قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].
قال الإمام الرازي رحمه الله: "هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء أولها الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف ثم النهي عن المنكر" [التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، 8/ 146].

8- قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90].

فالآية تشمل الأمر بكل معروف كان واجباً أو مندوبا، والنهي عن كل منكر كان محرماً أو مكروها، وهي بصيغة الأمر الصريح الدال على الوجوب.

9- قوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]،
 بعد ذكره لهذه الآية وغيرها: "فهذه الآية ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" [أحكام القرآن للجصاص، 2/ 315].

10- قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2] 
قال الإمام الغزالي: "وهو أمر جزم، ومعنى التعاون: الحث عليه، وتسهيل طرق الخير، وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان" [إحياء علوم الدين، 2/ 307]، ثم أتبع الأمر بالتهديد بالعذاب الشديد الذي لا يكون إلا لفعل المحرم أو ترك الواجب.

11- قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78،79] 
فلو لم يكن النهي عن المنكر واجباً لما استحقوا اللعنة بتركهم إياه؛ لأن اللعنة تختص بترك الواجب.

 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السنة:
لقد جاءت السنة المطهرة تحث الناس على ضرورة القيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يتضح جلياً في كثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما يلي:
1-روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص21.

2-روى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. [البخاري مع الفتح ج5 حديث 2465/ مسلم ج2 حديث 2121]

3-روى الشيخان من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم. [البخاري مع الفتح ج13 حديث 7056/ مسلم بشرح النووي ج12 ص228]

4-روى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر. [حديث صحيح- صحيح أبي داود ج3 حديث 3650]
**********************************************************
المسألة الثالثة:
الآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف:

لقد حذرنا الله تبارك وتعالى من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، 
لأن ذلك يترتب عليه كثير من المفاسد في البلاد والعباد، وقد جاء هذا التحذير في آيات كثيرة نذكر منها ما يلي:

1-قال الله تعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [سورة المائدة آية: 62، 63.]
 قال ابن جرير الطبري: "كان العلماء يقولون ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها" [جامع البيان للطبري ج6 ص298].

2-وقال الله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [سورة المائدة: 78، 79]، في هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى أن سبب لعن بني إسرائيل هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واللعن هو الطرد من رحمة الله التي وسعت كل شيء.

 الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر أمته.
لقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كثير من أحاديثه الشريفة نذكر منها ما يلي:
1-روى مسلم من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم، قال: لا ما صلوا". [مسلم بشرح النووي ج12 ص243]

2-روى الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمر بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" [حديث حسن/ صحيح- سنن الترمذي ج حديث 1762].

3-روى أبو داود من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا عليه، فلا يغيروا إلا أصابهم بعذاب قبل أن يموتوا. [ حديث/ صحيح – أبي داود ج3 حديث 3646].
**********************************************************
المسألة الرابعة:
عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله:

إن من أسوأ الأمور أن يأمر العبد الآخرين بالمعروف وينسى نفسه، وينهاهم عن فعل المنكر ويأتيه، وقد ذم الله تعالى في كتابه العزيز هذا الصنف من الناس، فقال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة آية : 44]، 
وقال سبحانه وتعالى أيضا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة الصف آية: 2، 3].
وقال سبحانه حكاية عن شعيب عليه السلام: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [ سورة هود آية: 88].

قال القرطبي - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: "أي لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه، كما لا أترك ما أمرتكم به" [الجامع لأحكام القرآن ج9 ص89].

 • ولقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين عقوبة من يفعل هذا العمل القبيح.

 • روى الشيخان من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه. [ البخاري مع الفتح ج6 حديث 3267/ مسلم ج4 حديث 2989]
**********************************************************
المسألة الخامسة:
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو كمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف" [مسلم بشرح النووي ج2- كتاب الإيمان ص 23].

 والدليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ما يلي:
قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ [سور آل عمران آية: 104]

 قال ابن كثير: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن" [تفسير القرآن العظيم ج3 ص138. (طبعة مكتبة أولاد الشيخ)].

 وقوله تعالى أيضاً: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [سورة التوبة آية: 122].
 وهكذا، فإن هذه الفرقة التي تفقهت في الدين، هي التي تستطيع أن تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 أعظم المعروف: الدعوة إلى التوحيد الخالص:
إن أعظم معروف ذكره الله تعالى في كتابه العزيز هو الدعوة إلى توحيده سبحانه وتعالى، وإخلاص العمل له وحده، والتوحيد هو الرسالة التي أرسل الله بها رسله إلى الناس كافة.

1-قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [سورة النحل آية: 36].

2-وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [سور الأعراف آية: 35].

3-وقال جل شأنه: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [سورة الأعراف آية: 65]

 أعظم المنكر: الشرك بالله تعالى:
ينبغي أن يكون من المعلوم أن أعظم المنكر، هو الشرك بالله تعالى، لأنه محبط للأعمال، ولا يغفره الله تعالى.

1-يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾ [سورة النساء آية: 48].

2-ويقول سبحانه أيضاً: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [سورة الحج آية: 31]

3-وقال سبحانه كذلك: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [سورة الزمر آية: 65، 66].
**********************************************************
المسألة السادسة:
شروط من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر:

لقد وضع العلماء شروطاً لمن يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاتفقوا في بعضها واختلفوا في البعض الآخر وسوف نتناولها بالبيان. [الموازين لابن النحاس من ص 15 إلى ص17].

 أولاً: الشروط المتفق عليها:
1-الإسلام:
يجب على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مسلماً، لأن ذلك نصرة لدين الله عز وجل، فلا يقوم به كافر أو جاحد لدين الله تعالى، فهو ممنوع من ذلك لما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من السلطة والعزة، 
وصدق الله تعالى إذ يقول في محكم التنـزيل: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ [ سورة النساء آية: 141].

2-التكليف:
إن التكليف من شروط وجوب جميع العبادات التي فرضها الله على عباده المسلمين، فلا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصبي الصغير أو على المجنون، لأن التكليف مرفوع عنهما، ولكن لو أنكر الصبي المميز شيئاً جاز وحصل على ثواب الله تعالى، ولم يكن لأحد من الناس منعه من ذلك، لأنها قربة إلى الله تعالى، وهذا الصبي المميز من أهل أدائها لا من أهل وجوبها.

3- الاستطاعة:
ومن شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاستطاعة، بحيث يكون المسلم قادراً على تغيير المنكر، وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [سورة البقرة آية: 286]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" [مسلم ج2 حديث 1337 من حديث أبي هريرة]

 ثانياً: الشروط المختلف فيها:
أما شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اختلف أهل العلم فيها، فبيانها كما يلي:

العدالة
لقد اشترط بعض أهل العلم فيمن يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكون عدلاً فليس لفاسق أن يقوم بهذه المهمة السامية، 
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [سورة الصف آية: 3].
 وقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة آية: 44].

 • وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن العدالة ليست شرطاً من شروط الوجوب.
 فقد قال الإمام النووي - رحمه الله - : (قال العلماء: لا يشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به متلبساً بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه أمران... أن يأمر نفسه وينهاها، وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما، كيف يحل له الإخلال بالآخر) [مسلم بشرح النووي ج2 ص23].

 وقال الإمام القرطبي - رحمه الله: "قال حذاق أهل العلم: ليس شرط الناهي أن يكون سليماً عن المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً"
وقال - رحمه الله – أيضاً: "قال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً".
 وقال أيضاً: "ليس من شرط الناهي أن يكون عدلاً عند أهل السنة، خلافاً للمبتدعة، حيث تقول: (لا يغيره إلا عدل، وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في القليل من الخلف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس" . [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج4 ص47]

 والدليل على أن العدالة ليست شرطاً ما يلي:
روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا بلال قم فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" [ البخاري مع الفتح ج11 حديث 6606/ مسلم ج1 حديث 111].

الرأي الراجح:
وعلى ضوء ما سبق من الأدلة وأقوال أهل العلم، أرى أن رأي الفريق الثاني، وهو الرأي الذي يقول بأن العدالة ليست شرطاً فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هو الرأي الأرجح، والله تعالى أعلم.

 الإذن من الإمام:
ذهب بعض أهل العلم إلى أن من شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحصول على الإذن من الإمام.

 وهذا الشرط قال عنه الإمام الغزالي - رحمه الله - : (شرط فاسد، فإن الآيات والأخبار تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عنه، عصى أينما رآه، وكيفما رآه على العموم بلا تخصيص، فشرط التفويض من الإمام بحكم لا أصل له) [الموازين لابن النحاس ص17].

 ويؤيد هذا القول حديث أبي سعيد الخدري في الإنكار على مروان بن الحكم في تقديمه الخطبة على الصلاة في العيد. [مسلم كتاب الإيمان حديث 49].

 وقال الإمام النووي: "قال العلماء: لا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين" [مسلم بشرح النووي ج2 ص 23].
**********************************************************
المسألة السابعة:
آداب من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر:

لقد ذكر أهل العلم آداباً ينبغي أن يتحلى بها كل من يريد أن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نوجزها فيما يلي:

إخلاص العمل لله وحده:
إن أساس قبول الأعمال، وحصول ثواب الله تعالى هو إخلاص الأعمال لله تعالى؛ فإن من احتسب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقه الله تعالى للقيام بهذه المهمة السامية، قال الله تعالى في محكم التنـزيل: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [سورة البينة آية: 5].

 • روى البخاري من حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" [البخاري مع الفتح ج1 حديث 1]

 العلم:
لا بد لمن يقوم بالأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون على علم بموقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون على علم بحال من يأمره وينهاه، حتى يقتصر في تصرفه على حدود الشرع الحنيف، لأنه إذا كان جاهلاً بهذه الأمور، فإنه سوف يفسد أكثر مما يصلح، ولذا قال بعض العلماء: (إن على من يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالماً بما يأمر به وعالماً بما ينهى عنه) [مختصر منهاج القاصدين ص164].

 الرفق وحسن الخلق:
يعتبر الرفق وحسن الخلق من صفات من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالعنف والغضب المفرط في الدعوة قد يؤديان إلى مفسدة عظيمة لا يحمد عقباها، وهذا الخلق المبارك من الرفق ولين الجانب، هو الذي تربى عليه الأنبياء والمرسلون، وساروا عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحكام وعامة الناس.

 • قال تعالى عند الحديث عن موسى وهارون: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [سورة طه آية: 43، 44].

• وقال الله تعالى أيضاً مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم ومخاطباً كل من يدعو إلى الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة النحل آية: 125].

 • وقال سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [سورة آل عمران آية: 159]

 • روى مسلم من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه". [مسلم ج4 حديث 259].

 قال سفيان الثوري رحمه الله: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى" [جامع العلوم والحكم ج3 ص963].

• وقال الشيخ سيد قطب - رحمه الله: "إن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ". [في ظلال القرآن للشيخ سيد قطب ج4 ص2302].

 الصبر وتحمل الأذى:
يعتبر الصبر على الأذى من الدعائم التي يجب أن يستند عليها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وطالما كان هناك أمر بمعروف ونهي عن منكر، فالغالب أن يصاحبهما أذى من الناس، ويظهر هذا جلياً في وصية لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [سورة لقمان آية: 17].
 ولذا أوصى الله تبارك وتعالى الرسل بالصبر، فقال سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [سورة الأحقاف آية: 35].

وقال أيضاً: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾ [سورة المزمل آية: 10].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا بد من العلم والرفق والصبر، فالعلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده" [مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 من ص134 إلى ص 137].
**********************************************************
المسألة الثامنة:
فهم خاطئ والرد عليه:

أولاً: يعتقد بعض الناس أن عدم توافر هذه الصفات السابقة لديهم يسقط عنهم مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 فهل معنى هذا أن يترك الناس هذه المهمة الجليلة حتى تتوافر لديهم هذه الصفات، وحتى يصلوا بأنفسهم إلى الأخلاق الفاضلة والطاهرة الكاملة؟
ويجيب على هذا التساؤل بعض علماء السلف الصالح، مثل:

سعيد بن جبير:
روى الإمام مالك عن ربيعة قال - سمعت سعيد بن جبير يقول: «لو كان المرء لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر".
 قال مالك «صدق ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟" [تفسير القرآن العظيم ج1 ص383 (طبعة مكتبة أولاد الشيخ)]

 الحسن البصري:
قال الحسن البصري لمطرف بن عبد الله الشخير: «عظ أصحابك، فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل.
 قال: يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول! يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر" [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج1 ص367].

ثانياً: يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة المائدة آية: 105] 
يخطئ بعض الناس في فهم هذه الآية، ويعتقد أنه إذا استقام على طاعة الله، فلا يضره ما يقوم به الآخرون من المنكرات وأن ذلك يسقط عنه النهي عن المنكر مع قدرته على تغييره، يقول الإمام ابن كثير: «ليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكناً" [تفسير ابن كثير ج5 ص394 (طبعة مكتبة أولاد الشيخ)].

 • روى أبو داود من حديث أبي بكر الصديق قال: «يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فيم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب" [حديث صحيح (صحيح أبي داود) ج3 حديث 3644].
**********************************************************
المسألة التاسعة:
شروط الفعل المطلوب إنكاره:

لقد اشترط أهل العلم للفعل المطلوب إنكاره شروطاً [الموازين ص18 إلى ص 21]، يمكن أن نوجزها فيما يلي:

أن يكون الفعل منكراً:
لا بد للفعل المطلوب إنكاره أن يكون قبيحاً شرعاً، ولا يختص وجوب الإنكار على الكبائر دون الصغائر، ولا يشترط أن يكون معصية، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر، فعليه أن يمنعه، وإن كان هذا لا يسمى منكراً في حق الصبي والمجنون.

 أن يكون المنكر موجوداً:
ويشترط في الفعل المنكر المطلوب منعه أن يكون مستمراً، فإن من فرغ من شرب الخمر مثلاً، لم يكن لأحد من الناس الإنكار عليه إلا بالوعظ والتعريف، إذا أفاق من سكره، ومن الأفضل الستر عليه مع ذلك، حتى لا يقام عليه الحد إذا وصل أمره إلى الإمام. [الموازين- شروط الفعل المنكر- من ص18 إلى ص21].

وذلك بدليل ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" [البخاري مع الفتح ج5 حديث 2442/ مسلم ج4 حديث 2580].

 أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس:
لا يجوز للمحتسب التجسس من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الله حرم التجسس على عورات الناس، فقال سبحانه: ﴿وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ [سورة الحجرات آية: 12]

أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد:
قال الإمام النووي: (إن العلماء إنما ينكرون على ما أجمع على إنكاره، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم) [مسلم بشرح النووي ج2 ص23، 24].
**********************************************************
المسألة العاشرة:
كيف تنهى عن المنكر؟
ذكر الإمام ابن قدامة في كتابه مختصر منهاج القاصدين [مختصر منهاج القاصدين ص 161 إلى ص164]، درجات لنسير عليها، عند تغيير المنكر وهي بالترتيب كما يلي:

أولاً: التعريف بالمنكر:
قد يقدم العبد على فعل المنكر، وهو لا يدري أنه منكر، ومثل هذا الشخص ربما إذا علم أن ذلك منكر، أقلع عنه في الحال، فيجب تعريفه باللطف والرفق، ويقال له مثلاً: إن الإنسان لا يولد عالماً، وإننا كنا كذلك فسخر الله لنا من علمنا، وليس من العيب أن نخطئ، ولكن من العيب أن نعلم الخطأ ونستمر في عمله.

 ثانياً: النهي عن المنكر بالوعظ، والنصح، والتخويف بالله:
إذا أقدم إنسان على فعل منكر مع علمه بأن ذلك حرام، مثل: الغيبة والنميمة والرشوة، والتعامل بالربا، وأكل أموال اليتامى ظلماً، فإن مثل هذا ينبغي أن ينصح بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يذكر بآيات القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة التي تحتوي على التهديد والوعيد من رب العالمين، وينبغي للمحتسب أن ينظر إلى فاعل المنكر بعين الرحمة، وأن يتخيل نفسه مكانه، فكيف يجب أن يعامله الآخرون في مثل هذا الموقف؟

وليتذكر المحتسب أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [البخاري مع الفتح ج1 حديث 13/ مسلم ج1حديث 45].

 ثالثاً: النهي عن المنكر بالتغليظ في القول:
إذا رأى من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن صاحب المنكر لم يرجع عنه بالتعريف، ولا بالوعظ، ولا التخويف بآيات الله، وعلم أنه مصر على الاستمرار في عمل المنكر وأظهر الاستهزاء، فإن الناهي ينتقل إلى التغليظ في القول، مثل أن يقول له: يا من لا يخاف الله، يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل مع الحذر من استرسال الناهي في تغليظ القول حتى لا يقول ما لا يجوز شرعاً.

وقد جاء بيان هذه الدرجة من النهي عن المنكر في كلام إبراهيم لقومه، حيث يقول الله تعالى: ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنبياء آية: 67].

 رابعاً: النهي عن المنكر عن طريق التهديد بالأذى:
إذا رأى الناهي عن المنكر أن التغليظ في القول لا تأثير له على صاحب المنكر، فإنه ينتقل إلى التهديد بإيقاع الأذى كأن يقول لصاحب المنكر: إن لم تتوقف عن فعل هذا الأمر، لأفعلن بك كذا وكذا، فلعل هذا التهديد يجعله يترك هذا المنكر.
ويراعى أن يكون التهديد بشيء يقدر عليه الناهي كطرد صاحب المنكر من العمل، أو السكن، أو بإبلاغ ولاة الأمر عنه.

 خامساً: النهي عن المنكر عن طريق التغيير باليد:
إذا رأى الناهي عن المنكر أن هذا الفعل المنكر الذي هو بصدده لم يتوقف باستخدام التعريف، أو الوعظ، أو التغليظ في القول، أو التهديد بالأذى فإنه يلجأ إلى تغيير هذا المنكر باليد، وذلك بشرطين كما يلي:

أولاً: أن تكون لديه القدرة على هذا التغيير، كأن يكون ولي أمر، أو محتسباً من قبل الإمام.

ثانياً: ألا يؤدي هذا التغيير إلى منكر أكبر، فإذا ترتب على ذلك مفسدة عظيمة، أصبح عدم التغيير واجباً.

 • وقال بعض العلماء: إن التغيير باليد يكون لولاة الأمور فقط، حتى لا تحدث مفسدة بين الناس، وأن يُعطى الإذن للمحتسب للتغيير باليد.

 ومن أمثلة التغيير باليد إراقة الخمر، وكسر آلات اللهو، وغير ذلك، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يلي:

 • روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: «أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً" [مسلم ج1 حديث 567].

 وقال الإمام القرطبي - رحمه الله-، قال العلماء: "الأمر بالمعروف باليد على الأمراء وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس" [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج4 ص49].

 وقال بعض أهل العلم:
يجوز للمتطوع من العامة أن يقوم بالتغيير باليد بشرط توافر الشروط والصفات فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وألا يترتب على التغيير باليد مفسدة أكبر من المنكر الموجود، والذي يراد تغييره.

 سادساً: التغيير بضرب صاحب المنكر:
إذا لم ينته صاحب المنكر عنه بعد التخلص من الآلات التي يستخدمها في عمل هذا المنكر، فإن للناهي عن المنكر أن يضربه باليد، أو العصا، أو غير ذلك مع عدم الاسترسال في الضرب حتى لا يؤدي إلى منكر أكبر، مع مراعاة أن هذه الطريقة تكون من ولي الأمر، أو من فوضه ولي الأمر.

 سابعاً: النهي عن المنكر عن طريق الاستعانة بالناس:
إذا وجد الناهي عن المنكر أنه لا يستطيع التغيير بنفسه، ورأى أنه يحتاج إلى الاستعانة بالناس، فله ذلك بشرط الحصول على إذن من ولاة الأمور، لأن صاحب المنكر ربما يستعين بأعوانه، ويؤدي ذلك إلى قتال بين الناس ويترتب على ذلك فساد كبير.
**********************************************************
المسألة الحادية عشرة:
أحوال تغيير المنكر:

قسم الإمام ابن قدامة أحوال تغيير المنكر إلى أربعة أحوال هي:

الحالة الأولى: أن يعلم المسلم أن المنكر يزول بقوله، أو فعله من غير مكروه يلحقه، فهذا يجب عليه الإنكار؟

الحالة الثانية: أن يعلم الناهي أن كلامه لا ينفع، وأنه إن تكلم ضرب، فهذا يرتفع عنه الوجوب.

الحالة الثالثة: أن يعلم المسلم أن إنكاره لا يفيد، ولكنه لا يخاف مكروهاً، فلا يجب عليه الأمر بالمعروف لعدم الفائدة، ولكن يستحب الإنكار لإظهار شعائر الإسلام والتذكير بالدين.

الحالة الرابعة: أن يعلم الناهي عن المنكر أنه يصاب بمكروه وحده، ولكن يبطل المنكر بفعله، فإنه يسقط عنه الوجوب ويبقى الاستحباب.

ويجب أن تعرف أن المقصود بالعلم في هذه الأحوال الأربعة هو غلبة الظن. [مختصر منهاج القاصدين من ص159 إلى ص160].
**********************************************************
المسألة الثانية عشرة:
كيف ينهى الولد والديه عن المنكر؟

قال الإمام الغزالي عند الحديث عن كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الوالدين، قال - رحمه الله - «قد رتبنا للحسبة خمس مراتب، وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين، وهما التعريف ثم الوعظ، والنصح باللطف. وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد، ولا بمباشرة الضرب" [إحياء علوم الدين ج2 ص495 (طبعة دار الحديث)]، ويجب أن نراعي أن تغيير المنكر مع الوالدين إذا ترتب على هذا التغيير مفسدة أعظم من المنكر الموجود فلا يجوز تغييره.
**********************************************************
المسألة الثالثة عشرة:
تغيير المنكر الذي يترتب عليه ضرر للآخرين:

ينبغي أن نعلم أنه إذا غلب على ظن من ينهى عن المنكر أنه إذا قام بتغيير هذا المنكر، فإنه يتعدى الضرر والأذى الكبير إلى أحد من أقاربه، أو أصحابه، أو جيرانه، أو يُعتدى على محارمه، أو غيرهم من الناس وهم غير راضين عن ذلك، فلم يجز له تغيير هذا المنكر، ويصبح ترك النهي عن المنكر في هذه الحالة واجباً، لأن التغيير لا يتحقق إلا بمنكر أعظم منه. [مختصر منهاج القاصدين بتصرف ص160].

 قال الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - في الحديث عن الحسبة: " فإذا كان يؤدي ذلك إلى أذى فوقه ليتركه، وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء، فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان، ولكنه - أي السلطان - يقصد أقاربه انتقاماً منه بواسطته، فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه، وجيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محظور، كما أن السكوت على المنكر محظور" [إحياء علوم الدين ج2 ص504 (طبعة دار الحديث)].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق