الثلاثاء، 14 نوفمبر 2017

الجزء السادس - الربع السادس - الأحكام الفقهية


الحكم بغير ما أنزل الله ـ أحكامه وأحواله

المسألة الأولى: تحكيم الشريعة مرتبط تماما بالعقيدة.
التزام أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجتناب نهيه ، أو قل : طاعته في امتثال ما أمر به  واجتناب ما نهى عنه ، أو ما يسمى تحكيم الشريعة ليس مجرد عمل خارجي بل هو :

1ـ لازم الإيمان بأسماء الله وصفاته :
قال الله تعالى : {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً }[ الأنعام: من الآية 114] .

وقال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ . فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ . لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ){الشورى : 10  ـ  12}
وقال الله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }[ الأنعام:من الآية 57]

2 ـ لازم الإيمان بربوبية الله عز وجل :
 قال الله تعالى : [أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[ الأعراف : 54]

3 ـ لازم الإيمان بتوحيد العبادة :
قال الله تعالى :
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
[ يوسف: من الآية40] .

وقال الله تعالى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة :31]

4ـ لازم الإيمان بالله :
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[ النساء : 59] .

وقال الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }[النساء:60]

وقال الله تعالى : {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[ النور:51]

5ـ وتحكيم الشريعة الإسلامية والتحاكم إليها هو معنى الإسلام:
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }[ النساء : 125]
وكلام الطبري واضح في بيان معنى الإسلام وأنه لا يكون إلا بالخضوع لله وحده في العبادة وفي الطاعة.

6ـ وهو معنى الإقرار بأن محمدا رسول الله: 
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }[ النساء:65]

{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
[آل عمران:31]
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }[ النور:54]
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }[ النساء:64]

فمسألة تحكيم الشريعة ليست مجرد عمل خارجي كالصلاة والزكاة والصيام والحج وصلة الرحم وغير ذلك من أعمال الجوارح كما يتوهم البعض، وإنما هي مرتبطة بالعقيدة الإسلامية ولازم من لوازمها .

ومما يدل على ارتباط هذه المسألة بالعقيدة ذِكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب لها ضمن باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ، بل وعَقَدَ لها بابا مستقلا
فقال : ( باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله ) . 
وذَكر فيه بعض الآثار وحديث عدي بن حاتم .
ثم عَقَدَ بابا بعده فقال : باب قول الله تعالى  (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) وذكر أحاديث وآيات أخرى كثيرة .

يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في شرح الباب الأول ( باب من أطاع الأمراء ... ) :
( لما كانت الطاعة من أنواع العبادة بل هي العبادة بامتثال ما أمر الله به على ألسنة رسله عليهم السلام نبه المصنف رحمه الله تعالىـ بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها ، وأنه لا يطاع أحد من الخلق إلا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله وإلا فلا تجب طاعة أحد من الخلق استقلالا . والمقصود هنا الاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام ، فمن أطاع مخلوقا في ذلك غير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لا ينطق عن الهوى فهو مشرك كما بينه الله تعالى في قوله " أخذوا أحبارهم ورهبانهم " أي علماءهم " أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " وفسرها النبي بطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام " [ تيسير العزيز الحميد / 543 ]

وقال معلقا على الباب الثاني  [ باب قول الله تعالى  (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) ] :  " لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملا على الإيمان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستلزما له ، وذلك هو الشهادتان ولهذا جعلهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ركنا واحدا في قوله ( بني الإسلام على خمس ) .. نبه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد واستلزمه من تحكيم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في موارد النزاع ، إذ هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا  الله ، ولازمها الذي لا بد منه لكل مؤمن ،فإن من عرف أن لا إله إلا الله فلا بد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في موارد النزاع فقد كذب في شهادته " [ تيسير العزيز الحميد / 554 ـ 555 ]
******************************************************
المسألة الثانية:
 النصوص الدالة على وجوب التحاكم إلى شرع الله

قول الله تعالى : " {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [البقرة :165]
والأنداد هم السادة الذين يطاعون من دون الله ، كما يقرر الدكتور عبد الرحمن المحمود .

وقول الله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 213]
وقول الله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }النساء60

والطاغوت  ــ كما يعرفه شيخ المفسرين بن جرير الطبري في تفسيره ــ هو كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة ممن عبَّده له ، إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو كائنا من كان. كما يقول بن جرير في تفسيره
وقول الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[ آل عمران :31]
وقول الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}
[آل عمران: 32]

يقول ابن كثير معلقا على هذه الآية: فدلَّ على أن مخالفته في الطريقة كُفر.

وقول الله تعالى ـ في التعقيب على آيات المواريث ـ : {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }[ النساء: 14]

يقول الطبري بعد ترجيحه أن الخلود أبدي: ( إذا إلى معصيتهما في ذلك شكا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآياتين أو علم ذلك فحادّ الله ورسوله في أمرهما  . . .  فهو من أهل الخلود في النار ، لأنه باستنكاره حكم الله في تلك يصير بالله كافرا ، ومن ملة الإسلام خارجا )

وهذا ما فهمه ابن كثير ، يقول ـ رحمه الله ـ : ( لكونه غيَّر ما حكم الله به وضاد الله في حكمه ، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ، ولهذا يجازيه بالإهانه في العذاب الأليم المقيم ) . 

وقول الله تعالى : ({إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[ النساء:105]

وفي آية أخرى يخاطب الله رسوله بقوله : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }[ آل عمران : 128 ]
وبقوله تعالى : {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [ الأحزاب : 46]
هذا وهو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف يتسنى لغيره أن يحكم برأيه هو ، وأن يدعوا إلى الله بغير ما أذن . وأن يكون له في الأمر شيء فيقول هذا حلال وهذا حرام .

وقول الله تعالى : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
[ المائدة :50]
وقول الله تعالى : {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
[ الأنعام :114]
وقول الله تعالى : {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }الأنعام57
وقول الله تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ }[ يونس : 59].
******************************************************
ثانيا: وقفة مع بعض الآيات .
قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59]

من هذه الآيات ينقل الدكتور عبد الرحمن المحمود عن ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذه الفوائد :
1. ـ أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ، ولا يخرجهم ذلك عن الإيمان إذا ردّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرطه الله عليهم . 

2. ـ كلمة ( شيء ) نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله ، جليه وخفيه.

3. ـ أجمع الناس على أن الرد إلى الله ورسوله  : إلى كتابه ، وإلى الرسول نفسه في حياته وسنته بعد وفاته .

4. ـ أنه جعل الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين ، فإنه من الطرفين ، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر .

ويقول صاحب أضواء البيان :  ( فهذه الآية دالة على أنه لا يجوز التحاكم إلى غير الكتاب والسنة ) [ أضواء البيان / 292] .

وقفة مع قول الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً . فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}[ النساء :60 ـ 62 ]

في هذه الآيات :
1.  الطاغوت : والطاغوت هو كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه إما بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة ممن عبَّده له ، إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو كائنا من كان . كما يقول بن جرير في تفسيره .
 أي أنه عام ، فقد يكون رجلا واحدا يتحاكم إليه ، وقد يكون أكثر من ذلك .

2. ـ التحاكم إلى الطاغوت من صفات المنافقين .
يقول بن القيم : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً) فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والإلتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق ) .

3. ـ وإذا كان الله قد حكم بنفاق من أعرض عن التحاكم إلى الكتاب والسنة ، فكيف بمن جمع إلى ذلك منع الناس التحاكم إلى الكتاب والسنة بأي أسلوب كان . لا شك أنه أشد كفرا ونفاقا .

وقفة مع قول الله تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65]

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : ( يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ، ولهذا قال ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) أنتهى كلامه رحمه الله .

ويقول محمود شاكر معلقا على قول بن كثير بعد كلام طويل بيَّن فيه أن هذه الآيات واضحة الدلالة صريحة اللفظ ، لا تحتاج إلى طول شرح ولا تحتمل التلاعب بالتأويل ، وأن طاعة الله ورسوله شرط للإيمان ، وأن من صدَّ عنهما وتحاكم إلى غيرهما فهو النفاق والنفاق شرُ أنواع الكفر ثم قال : (( ثم يقسم ربنا تبارك وتعالى بنفسه الكريمة المقدسة أن الناس لا يكونون مؤمنين حتى يحتكموا في شأنهم كله إلى رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحتى يرضوا بحكمه طائعين خاضعين ، لا يجدون في حكمه حرجا في أنفسهم وحتى يسلموا في دخيلة قلوبهم إلى حكم الله ورسوله تسليما كاملا ، لا ينافقون به المؤمنين ، ولا يخضعون في قبوله لقوة حاكم أو غيره ، بل يرضون به مهما يلقوا في ذلك من مشقة أو مؤنة ، وأنهم إن لم يفعلوا ذلك لم يكونوا مؤمنين قط بل دخلوا في عداد الكافرين والمنافقين )) [ عمدة التفسير 3 / 214]
******************************************************
المسألة الثالثة: آيات سورة المائدة الثلاث
قول الله تعالى : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44]
وقول الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ المائدة :45]
وقول الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ المائدة : 47]

المطلب الأول في سبب النزول .
 نزلت جميعها في اليهود حين تواطئوا على استبدال حكم الله  في الزاني المحصن بالجلد والتحميم بدل الرجم ، وقيل نزلت فيهم حين تواطئوا على التفريق بين  الشريف والوضيع في الديّة .

المطلب الثاني : هل هي خاصة باليهود أم عامة تطال غيرهم ممن فعل فعلهم ؟
الواضح أنها عامّة لأمور :
منها : أنه قول جمهور السلف ومن جاء بعدهم من علماء الأمة ، وقد ذكر الدكتور / عبد الرحمن المحمود نقولات كثيرة تبين ذلك ، أنقل منها ما قال بن القيم ، والبخاري .
لما ذكر ابن القيم القول بأنها في أهل الكتاب عقَّب بقوله  ( وهو بعيد وهو خلاف ظاهر اللفظ فلا يصار إليه ) [ مدارج السالكين 1 /336]

والبخاري ـ رحمه الله ـ  بوب بابا أسماه ( باب أجر من قضى بالحكمة )
 لقوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) .

قال بن حجر : ( ظاهر صنيع البخاري أنه يرجح أنها عامّة . ثم نقل عن اسماعيل القاضي قوله ( ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا ، واخترع حكما يخالف حكم الله ، وجعله دينا يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكما كان أو غيره ) [ انظر فتح الباري 13/120 ] سلفية ـ أولى .

ـ ومنها ــ من الأمور الدالة على أن آيات المائدة عامة ــ  أن هذا المعنى ـ العموم ـ هو ما دلت عليه الآيات الأخرى الصريحة من كتاب الله مثل : ({فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65]
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً . فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}[ النساء :60 ـ 62 ]

ـ ومنها أن هذه الآيات صُدِّرت بـ ( مَنْ ) الشرطية التي تفيد العموم ، وما أجمل ما قاله الشاطبي ـ رحمه الله ـ : ( فلقائلٍ أن يقول : إن السلف الصالح مع معرفتهم بقاصد الشريعة وكونهم عربا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارض السياق ) [ الموافقات 4/34 المحققة ط . دار بن عفان .

ـ ومنها أن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تكون دليل لما هي سبب في نزوله ولما ليست سببا في نزوله إذا وافق السبب .

يقول ابن تيمية: ( فإن نصوص الكتاب والسنة النبوية اللذين هما دعوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي ، أو بالعموم المعنوي .
وعهود الله في كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنال آخر هذه الأمة كما نالت أوّلها ، وإنما عص الله علينا عصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا ، فنشبه حالنا بحالهم ، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها ، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين ، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين ) الفتاوى 28/425

ومن الأمثلة التي توضح  ذلك :
ـ استشهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قصته مع علي وفاطمة ، حين أيقظهما لصلاة الليل  بقوله تعالى : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) والحديث في صحيح البخاري .

كتاب التوحيد عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام لَيْلَةً فَقَالَ أَلَا تُصَلِّيَانِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}

ـ استشهاد عمر رضي الله عنه بقول الله تعالى : ( أأذهبتم طيباتكم في حياتكم ) .
والقصة أن بعضا ممن حضر طعام عمر في بيته كأنه استقل الطعام ، فقال عمر : إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء وتوضع صحيفة وترفع أخرى ، لكنا سمعنا قول الله تعالى (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا ) [ الأحقاف : من الآية 20]

وهذه الآية نص في الكفار، ومع ذلك فَهِمَ عمر منها الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة   وكانوا جلوس يسمعون.

ـ ومن الأمثلة على ذلك أيضا استشهاد أبي هريرة رضي الله عنه على تحديثة الحديث بقول الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ) إلى قوله الرحيم ، وهو في البخاري .

ـ واستشهاد أبي بكرة رضي الله عنه على تخلفه عن معركة الجمل بـ قوله صلى الله عليه وسلم ( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً ) مع أنه قيل في أهل فارس حين ولوا عليهم إمرأة 
******************************************************
المسألة الرابعة : الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفرا أكبر
تنقسم لثلاثة أقسام :
منها ما يتعلق بالجانب العقدي ( الجحود والاستحلال )
ومنها ما يتعلق بالجانب العملي وهو : التشريع المخالف لشرع الله ( التبديل ) .
وهذان القسمان  في أرباب السلطان .
والقسم الثالث خاص بعامة النا ، وهو : طاعة المبدلين لشرع الله مع علمهم بأنهم بدلوا شرع الله والرضا بذلك .

القسم الأول: 
أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله .
وهذا مبني على قاعدة وهي: من جحد أصلا من أصول الدين أو فرعا مجمعا عليه ، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة .
يقول ابن جرير الطبري: ( لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبيه بعد علمه أنه نبي "
فتدبر معنى الجحود ... ليس الجهل، وليس التكذيب، وليس اعتقاد الحل.
وهذا القسم يشمل:

 أن يعتقد أن حكم غير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل من حكمه ، إما مطلقا وإما بالنسبة لما استجد من الحوادث .
 أن يعتقد أن حكم غير الله ورسوله مثل حكم الله ورسوله .
 أن يعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله .

واسمع ما قال ابن باز في هذا الشأن يقول رحمه الله : ( من حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين ، وهكذا من يحكم القوانين الوضعية بدلا من شرع الله ويرى أن ذلك جائز ــ ولو قال : إن تحكيم الشريعة أفضل ــ فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله ) انتهى كلامه رحمه الله .

من اعتقد أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في هذا القرن .
من اعتقد أن نظام الإسلام سبب تخلف المسلمين .
 من اعتقد أن نظام الإسلام ينحصر علاقة المرء بربه ون أن يتدخل في شئون الحياة .
 أن يرى أن إنفاذ حدود الله كقطع يد السارق ، أو رجم الزاني لا يناسب العصر الحاضر  .
وقد تكلم بهذا كله الشيخ بن باز ـ رحمه الله ـ  في فتاويه 1/137.

القسم الثاني :
التشريع المخالف لشرع الله . أو تبديل شرع الله بشرع غيره ، سَنْ قوانين مخالفة لشرع الله وحمل الناس على التحاكم إليها  .

وقبل عرض الحالات المندرجة تحت هذا القسم ، نبه الشيخ عبد الرحمن المحمود على أمور منها :
 أن التشريع والحكم وما يتبع ذلك من الأمر والنهي حق خالص لله تعالى .
 التشريع من دون لله يستلزم رفض شرع الله ، فلو لم يرفضه لما استبدل به غيره . ويستلزم أيضا التعدي على حق من حقوق الله ، وهو حق الحكم والتشريع .
ولهذا اعتبر فريق من العلماء هذا القسم استحلالا  ، لأن صاحبه مستحل  للحكم بغير ما أنزل الله .

 والمتأمل في سبب نزول الآيات من سورة المائدة 
{  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )  ... ( الْفَاسِقُونَ ) (  الظَّالِمُونَ )  ، يجد أن القضية لم تكن معصية وإنما تحولت من معصية وجور ــ حيث كانوا يقيمون الحدود على الضعفاء دون الشرفاء ، ويجعلون دية الشريف ضعف دية الوضيع ـ إلى تبديل لأحكام الله . حيث  ( تكاتموا . . تصالحوا ... اتفقوا .. ــ كما تنص الروايات ـ فيما بينهم على الجلد والتحميم بدل الرجم .

ولم يقولوا أنهم مستحلون ، بل كانوا يشعرون بالذنب ، وذهبوا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يعلمون أنه رسول الله علّه يفتيهم بما استبدلوه .

القول بأنه لا يكفر إلا المستحل قول ضعيف . لأن المستحل كافر شرَّع أم لم يشرع ، واليهود في فعلتهم عُدّوا كافرين حتى ولم يشترط لكفرهم أن ينطقوا بأن ما فعلوه حلال . بل كانوا يشعرون بالذنب ويبحثون عن سند شرعي عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ .
والقول بأنه لا يكفر إلا المستحل هو أصل قول المرجئة الذين يرون أن الإيمان فقط في القلب ، وأن العمل غير داخل فيه ، وقد ناقشهم شيخ الإسلام في ( الإيمان الأوسط ، والفتاوى 7 / 528، 541 ، 556 ، 579 ، 609 ، 616 )

يجب التفريق بين التشريع العام الذي يحل محل حكم الله  ويطبق على الجميع وبين الحالات الفردية ، والوقائع المحدودة .

وقد نقل الشيخ عددا من أقوال علماء السلف وعلماء الأمة المعاصرين يبين تواطئهم على القول بأن مجرد تبديل شرع الله كفر دون اشتراط استحلال بالقلب أو جحود أو غير ذلك 

بن حزم ، الشاطبي  ، بن تيميه ، بن القيم ، بن كثير ، حمد بن عتيق ، الشوكاني الصنعاني ، محمد بن إبراهيم ، الشنقيطي ، محمود شاكر ، وأحمد شاكر ، وابن عثيمين 
وابن عثيمين ـ رحمه الله ـ أبيَنهم عبارة في أن استبدال حكم الله بأحكام أخرى ، وجعلها عامة على الناس لا بد أن فاعل ذلك مفضل لها عن حكم الله عز وجل ، ولم يرض بالله ربا ولا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ــ رسولا ، وتنطبق عليه آيات المائدة الأربعة ولا تنفعه صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج . لأن الكافر ببعضه كالكافر به كله .

ويقول ـ رحمه الله ـ  ( من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ) [ المجموع الثمين من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين 1/36 ]

الحالات المندرجة تحت هذا القسم :
 ـ من جعل لنفسه حق التشريع والتحليل والتحريم من دون الله ، سواء أكان فردا أو  مجموعة ، أو هيئة برلمانية  ، أو غيها ، من وضع نظاما أو قانونا مخالفا لشرع الله تعالى ، وهذا مثل القوانين الوضعية المطبقة في كثير من البلاد الإسلامية .

 عوائد القبائل التي اعتادوها وتوارثوها إذا كانت مخالفة للشرع ، وعلموا بحكم الله تعالى ، وأبوا إلا أن يتحاكموا إلى ما اعتادوه مما هو مخالف لحكم الله وحكم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ــ .
مع مراعاة ضوابط التكفير وشروطه ، وهذا عام في  هذا القسم وغيره .

القسم الثالث :
 طاعة المبدلين لشرع الله مع علمهم أنهم خالفوا شريعة الله وحكمه .
والأتباع المحكومون بغير شرع الله يدخلون تحت هذا القسم بشروط .
ـ أن يعلموا أنه ثمَّ تبديل ويتبعوا
ـ وجود ما يدل على القبول والرضا .
وهنا لا بد أن يقال أنه لا يمكن إسقاط أحكام الحكَّام على عامّة الناس ، وذلك :
ـ لأنهم قد يكونوا أطاعوا لهوى في أنفسهم فيكون معصية .
أو يكونوا جهالا معذورون بجهلهم .
أو مضطرين لاستخلاص حق معين .
******************************************************
المسألة الخامسة:
 الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفرا أصغرا .
لكي يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرا أصغرا لا بد من:

1 ـ أن تكون السيادة للشريعة الإسلامية ، وأصل التحاكم مبنيا على الكتاب والسنة ، والحاكم أو القاضي معترفا بذلك وقابلا له ، غير جاحد ولا منكر ولا مستحل ، سواء في هذه القضية التي قضى بها مخالفا لحكم الله أو في غيرها .

2 ــ أن تكون في حوادث الأعيان لا في الأمور العامة التي تفرض على الناس بحيث تصبح قانونا عاما .

3 ـ أن يقر بأن حكم الله هو الحق ، وأنه لا يجوز له التحاكم إلى غيره ، ومن ثمَّ فهو بتركه الحكم في هذه الحادثة المعينة مقر بأنه آثم مرتكب للمعصية .
أما لو اعتقد أن حكمه جائز ، وأنه غير عاص فيه لم يكن كفره كفرا أصغرا .
******************************************************
المسألة السادسة: ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقوله [ كفر دون كفر ]

يتكلم فريق من الناس اليوم بأن كل من لم يحكم شرع الله فهو في مناط الكفر الأصغر محتجين بقول بن عباس رضي الله عنهما [ كفر دون كفر ]  ، وما دار من حوار بين التابعي المشهور أبو مجلز الشيباني وأبناء عمومته من الخوارج الإباضية .

ولا دليل لهم في قول بن عباس ـ رضي الله عنه ـ  وأبي مجلز ، فهم كانوا يتكلمون مع الخوارج . ومعلوم أن الخوارج كانت تسأل عن أمراء الجور .. وقضاة الجور ، لا المبدلين لشرع الله  .
ومعلوم أن الخوارج كانت تُكَفِّر ليس فقط ولاة الجور من بني أمية بل خيرة صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علي بن أبي طالب ومن وافقه منهم ــ رضي الله عنهم ــ .

وقد جاء في بعض الروايات : ( ليس الكفر الذي يذهبون إليه ) يعني الخوارج .
ولم يكن في زمن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من يظن مجرد ظن أنه يمكنه أن يحكم المسلمين بغير شرع الله ، أو أن يسن قانونا مخالفا للكتاب والسنّة ثم يحمل الناس على التحاكم إليه .

فالحالة التي أجاب عنها عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ليست هي الحالة التي نتكلم عنها اليوم . والفرق واضح جدا .

هناك ولاة جور وقضاة جور في قضية واحدة دون أن يستحلوا ... دون أن يبدلوا .. دون أن يتطاولوا على الشريعة الإسلامية بأنها لا تصلح  وغير ذلك مما يقال اليوم . بل كانوا منتسبين للشرع رافعين لراية الجهاد مقيمين لحدود الله .

والحال اليوم شيء آخر .. تبديل لشرع الله ، تشكيك في حكمة الله عن طريق التشكيك في عدم صلاحية أحكامه لهذا الزمان ، الحال اليوم سخرية بالدين والمتدينين . وشتان .
******************************************************
المسألة السابعة: نماذج من مواقف العلماء من المبدلين لشرع الله .

أولا : موقف الصحابة رضوان الله عليهم من مانعي الزكاة ( المرتدين ) .
المرتدون الذين قاتلهم صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عهد أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ــ لم يكونوا على شاكلة واحدة بل كانوا أنواع  :
 ـ منهم من عادوا لعبادة الأوثان .
ـ ومنهم من اتبعوا المتنبئين الكذبة أمثال مسيلمة والأسود العنسي وسجاح وطلحة .
ـ ومنهم من أنكر وجوب الزكاة مدعيا أنها تدفع لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ يتأول  قول الله تعالى ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها )
ـ ومنهم من لم ينكرها ولكنه أبى دفعها لأبي بكر ـ رضي الله عنه ــ .

ولم يختلف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ  على قتال من ارتدوا وعبدوا الأصنام ، ولا من اتبعوا الكذبة ، ولا من أنكروا معلوما من الدين بالضرورة . وإنما فيمن أبوا دفع الجزية لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال أبو بكر قولته: ( والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لقاتلتهم على منعها  ) . وتبعه الصحابة رضوان الله عليهم .
 فكان المبيح للقتال مجرد المنع لا  جحد وجوبها ، وقد روي أن طوائف منهم كانوا مقريين بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الصحابة فيهم واحدة وهي :
قتل مقاتلتهم
 وسبي ذراريهم
وغنيمة أموالهم
والشهادة على قتلاهم بالنار 
وسمُّوهم جميعا مرتدين .

ولم يُعهد من الصحابة رضوان الله عليهم ـ أن يسألوا أحدا هل أنت مقر بها أم جاحد لها ؟ .. لم يعهد هذا القول منهم بحال . بل كانت سيرتهم فيهم جميعا سيرة واحدة .

ويبقى أن يقال أن هذا في الجماعة إذا امتنعت عن أداء الزكاة وقاتلت على ذلك . أما ما نع الزكاة إذا كان فردا واحدا لا شوكة له ولا منعة فإن له حكما خاصا دون ذلك .
ولا يقال بأن عمر ـ رضي الله عنه ـ ردَّ عليهم السبايا بعد ذلك  وهو دليل  على مخالفته لأبي بكر وبالتالي عدم إجماع الصحابة على قتال مانع الزكاة وسبي ذراريه وأخذ ماله ...الخ . لا يقال هذا أبدا  .

فعمر ـ رضي الله عنه ـ  لم يخالف أبا بكر ـ رضي الله عن الجميع ـ . فقد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة رضوان الله عليهم بعد أن وضعت الحرب أوزارها مع المرتدين ـ مانعي الزكاة ـ أن لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح ، بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم ، فلما رأى عمر حسن إسلامهم ردّ عليهم مالهم ، لأن ذلك جائز ، وقد فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع هوازن .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق