الحكم الأول
فيما ما يتعلق بالربا
قول الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
[ البقرة: 278،279
المسألة الأولى:
تعريف الربا
التعريف اللغوي
هو: الزيادة على
الشيء، ومنه: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه، وربا الشيءُ إذا زاد على ما كان
عليه فعظم، فهو يربو ربواً.
وإنما قيل للرابيةِ رابيةٌ لزيادتها في العظم
والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: ربا يربو، ومن ذلك قيل: فلان
في رباوة قومه. يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل الربا الأناقة والزيادة، ثم
يقال: أربى فلان؛ أي: أناف ماله حين صيره زائداً.
وإنما قيل للمربي مرب؛ لتضعيفه المال الذي كان له
على غريمه حالاً، أو لزيادته عليه السبب الأجل الذي يؤخره إليه، فيزيده إلى أجله
الذي كان له قبل حل دينه عليه؛ ولذلك قال تعالى: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً }
[آل عمران: 130
وأما تعريف
الربا في الشرع: فيقع على معان لم يكن الاسم موضوعاً لها في
اللغة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى النسأ ربا في حديث أسامة بن
زيد، فقال: (إنما الربا في النسيئة} أخرجه البخاري، 3/ 155، ومسلم 3/ 1218،
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن آية الربا من
آخر ما نزل من القرآن، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا، فدعوا
الربا والريبة.
فثبت بذلك أن الربا قد صار اسماً شرعياً، لأنه لو
كان باقياً على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر؛ لأنه كان عالماً بأسماء اللغة؛
ولأنه من أهلها، ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة
نسأ ربا، وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء
المجملة المفتقرة إلى البيان: وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم
يكن الإسلام موضوعاً لها في اللغة نحو: الصلاة، والصوم، والزكاة، فهو مفتقر إلى
البيان، ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته
أنه مسمى في الشرع بذلك " [أحكام القرآن ج1 ص551 – 552
***********************************************************************************
المسألة
الثانية: في مدلول الربا لغة وشرعاً إلى إيراد الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر
الربا موضحاً.
قال تعالى: {الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ
مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ
فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ *
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ
فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ
ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [
البقرة: 275 – 281
خلاصة ما في
الآيات:
المراد بأكل الربا جميع التصرفات، وعبَّر عن ذلك
بالأكل؛ لأنه الغرض الرئيس وغيره من الأغراض تبع له.
تشبيه المرابي بالمصروع؛ لأن المصروع يتخبط في
سيره، فينهض ويسقط، وكذلك آكل الربا يوم القيامة.
تشبيه البيع
بالربا مبالغة في جعل الربا أصلاً في الحل والبيعِ فرعاً، والعكس هو الصحيح.
الْمَحْقُ يشمل
ما يأتي:
أ-المحق بالكلِّية، بحيث يذهب المال من يد
المرابي دون أن ينتفع به.
ب - محق بركة المال مهما كثر، فإن عاقبته إلى
قُلٍّ.
إسدال الستر على
ما سبق من تعاطي الربا قبل تحريمه، فلا يلحق المرءَ تبعتُه.
الترغيب في بذل الصدقات للوعد الكريم بتنمية الله
لها.
الوعيد الشديد لمن يزاول تعاطي الربا بعد التحريم
للمرابي أن يأخذ رأس ماله ويدع الزيادة عليه.
الترغيب في إنظار المعسر، أو إبراء ذمته من الدين.
توجيه الأنظار ليوم القيامة، والتذكير بالوقفة
فيه أمام رب العزة للحساب والجزاء على الأعمال.
الربا في السنة
النبوية:
قوام الدين وعماده والمصدر الذي يؤخذ منه التشريع
كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقد عرضنا فيما تقدم من هذا البحث
للآيات التي ورد فيها ذكر الربا وتحريمه والوعيد عليه ونردف ذلك بما ورد في السنة
النبوية في موضوع الربا، ولن نستعرض كل الأحاديث الواردة في ذلك وإنما نكتفي منها
بما يلي:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات). قالوا يا رسول الله، وما هن؟ قال:
(الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال
اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)؛ رواه البخاري ومسلم.
الشرح:
قوله: { اجْتَنَبُوا } [الزمر: 17]؛ أي: ابعُدوا
وهو أبلغ من قوله: دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ، كقوله ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ } [الأنعام: 151
قوله: {الموبقات}؛
أي: المهلكات، وسميت هذه موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من
العقوبات وفي الآخرة من العذاب، وفي حديث ابن عمر عند البخاري في "الأدب
المفرد"، والطبري في "التفسير"، وعبدالرزاق مرفوعاً، وموقوفاً قال:
(الكبائر تسع). وذكر السبعة المذكورة، وزاد (الإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين).
إلى آخر ما أفاض فيه شارح الحديث في تَعداد الكبائر.
قوله: {وأكل الربا}؛ تناوله بأي وجه كان،
كما قال
تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا
يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
} [البقرة: 275]؛ الآيات من سورة البقرة، قال ابن دقيق العيد:
"وهو مجرب لسوء الخاتمة - نعوذ بالله من ذلك
حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "أن
النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه"؛ رواه
الخمسة، وصححه الترمذي، غير أن لفظ النسائي: "آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه،
وكاتبه، إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة".
حديث عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم من ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست
وثلاثين زنية)؛ رواه أحمد.
ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ: (الربا
اثنان وستون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه)؛ وهو حديث صحيح. وحديث أبي هريرة
عند البيهقي بلفظ: (الربا ثلاثة وسبعون باباً، أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه).
وأخرج ابن جرير نحوه، وكذلك أخرج عنه نحوَه ابنُ أبي الدنيا. وحديث عبدالله ابن
مسعود عند الحاكم، وصححه بلفظ: (الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل
أمه). وأخرج ابن جرير نحوه، وكذلك أخرج عنه نحوَه ابنُ أبي الدنيا. وحديث عبد الله
بن مسعود عند الحاكم، وصححه بلفظ: (الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها مثل أن ينكح
الرجل أمه، وإن أربى الربا عِرْض الرجل المسلم)؛ وهو حديث صحيح.
قوله: (وكاتبه)؛ دليل على تحريم كتابة الربا إذا
علم ذلك، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم، فأما من كتب، أو شهد
غير عالم فلا يدخل في الوعيد.
قوله: (أشد من ست
وثلاثين)؛ إلخ يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل
معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور، بل أشد منها
لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه
المسلم؛ ولهذا جعله الشارع أربى الربا، فالرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة،
ولا تزيد في ماله ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم مَن زنى ستاً وثلاثين
زنية، هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل.
حديث سمرة بن جندب الطويل نجتزئ منه بما يلي؛
قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة أقبل علينا بوجهه،
فقال: (هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا). فإن كان أحد رأى فيها رؤيا قصها عليه، فيقول
فيها ما شاء الله، فسأَلَنا يوماً (هل رأى أحد منكم رؤيا). فقلنا لا. قال: (ولكني
رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى أرض مستوية - أو فضاء -
فمررنا برجل جالس، ورجلٌ قائم على رأسه وبيده كلوب من حديد يدخله في شدقة فيشقه
حتى يبلغ فاه، ثم يفعل بشدقة الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود فيه فيصنع به
مثل ذلك، قال: قلت: ما هذا؟! قالا: انطلق - واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في
سرد رؤيته إلى أن قال - فانطلقنا حتى نأتي على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى شط
النهر رجل قائم بين يديه حجارة، فأقبل ذلك الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج
منه رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر
فرده حيث كان، فقلت لهما: ما هذا؟! قالا: انطلق)؛ الحديث أخرجه البخاري، نعرض بعد
هذا للإيضاح عن الفقرات التي وردت في هذا الحديث عن الملكين: قالا: أما الرجل الذي
رأيت يشق شدقه: فإنه رجل كذاب يتحدث بالكذبة فتُحمَل عنه حتى تبلغ الآفاق، فهو
يصنع به ما ترى إلى يوم القيامة، وأما الرجل الذي رأيته يشدَخ رأسُه: فإن ذلك رجل
علَّمه الله القرآن فنام عنه بالليل، ولم يعمل بما فيه بالنهار، فهو يُعمَل به ما
رأيت إلى يوم القيامة، وأما الذي رأيت في نهر الدم فذاك آكل الربا)؛ وهذه الفِقرة
هي المقصودة من إيراد هذا الحديث.
وعلق الإمام الذهبي في كتابه الكبائر على هذا
الحديث أو على الفِقرة التي جاء فيه الوعيد لآكل الربا بقوله: "إن آكل الربا
يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر، الذي هو مثل الدم،
ويلقم بالحجارة، وهو المال الحرام الذي كان جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقم
حجارة من نار، كما ابتلع الحرام في الدنيا، هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم
القيامة مع لعنة الله له، كما في حديث أبي أمامة بسند ضعيف جداً أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: (أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها؛ مدمن
الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه، إلا أن يتوبوا)؛
أخرجه الحاكم، وأبو الشيخ، والمقدسي في "المختارة"، وقد ورد أن أكلة
الربا يحشرون في صور الكلاب والخنازير من أجل حيلهم على أكل الربا، كما مسخ أصحاب
السبت حين تحيلوا على إخراج الحيتان التي نهاهم الله عن اصطيادها يوم السبت فحفروا
لها حياضاً تقع فيها يوم السبت فيأخذونها يوم الأحد، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله
قردة وخنازير. وهكذا الذين يتحيلون على الربا بأنواع الحيل فإن الله لا تخفى عليه
حيل المحتالين.
***********************************************************************************
المسألة
الثالثة: مبحث حكم الربا في الإسلام
وقد تقدم من آي الكتاب العزيز، والسنة النبوية ما
يشعر ويوجب تحريم الربا مما لا يدع مجالاً للتردد في ذلك، أو التأويل، ولم يحرِّم
الإسلام شيئاً إلا لحكمة واضحة، أو منفعة تعود على العباد، وتبعاً لتحريمه حرم
الوسائل المفضية إليه؛ سداً للذريعة؛ فمثلاً حرم بيع العِينة - بكسر العين، وفتح
النون - وهي: أن تباع سلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها البائع من المشتري بأقل
ليبقى الكثير في ذمته، وسميت عِينة لحصول العين - أي: النقد - فيها؛ ولأنه يعود
إلى البائع عين ماله، واستُدِل لتحريم بيع العينة بالحديث الذي رواه أبو داود عن
ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط
الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تُراجِعوا دينكم}
ففي هذا الحديث
دليل على تحريم هذا البيع، وذهب إليه مالك، وأحمد، وبعض الشافعية قالوا: لما فيه
من تفويت مقصد الشارع من المنع عن الربا، وسد الذرائع. قال القرطبي: "لأن بعض
صور هذا البيع تؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلاً، وبكون الثمن لغواً"
.
نعود إلى الحديث - المذكور آنفاً (إذا تبايعتم
بالعينة)؛ الحديث - لنكشف عن صحته وهل عليه مأخذ من حيث سندُه يهبط به عن درجة
الصحة.
يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله
في كتابه "سلسلة الأحاديث الصحيحة": "هو حديث صحيح؛ لمجموع طرقه،
وقد وقفت على ثلاث منها كلها عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً؛ الأولى: عن إسحاق
أبي عبدالرحمن أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعاً حدثه عن ابن عمر قال فذكره - أي
الحديث - إلى أن قال - أي الشيخ الألباني - روى ذلك من وجهين عن عطاء بن أبي رباح
عن ابن عمر يشير بذلك إلى تقوية الحديث - وقد وقفت على أحد الوجهين المشار إليهما
وهو الطريق الثانية عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر
أخرجه أحمد. الثالثة: عن شهر بن حوشب عن ابن عمر رواه أحمد.
ثم وجدنا له
شاهداً من رواية بشير بن زياد الخراساني: حدثنا ابن جريج عن عطاء عن جابر سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره - أي الحديث - أخرجه ابن عدي في ترجمة بشير
هذا من "الكامل"، وهو غير معروف، في حديثه بعض النكارة. وقال الذهبي:
ولم يترك" [سلسلة الأحاديث الصحيحة. ج1، ص15 – 16].
وجاء في "معالم السنن" توجيه الخطابي
لوجهة نظر المحرِّمين للعِينة: قال المحرمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه؛
أحدها: أن الله تعالى حرم الربا، والعينة وسيلة إليه،
بل هي من أقرب وسائله، الوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان؛ أحدهما: بيان كونها
وسيلة، والثاني: بيان الوسيلة إلى الحرام حرام. فأما الأول فيشهد له النقل،
والعرف، والنية، والقصد، وحال المتعاقدين ثم أورد جملة أحاديث تصور البيع بالعينة
إلى أن قال: وأما شهادة العُرف بذلك فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله
وعباده من المتبايعين قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقداً يقصدان به تملكها،
ولا غرض لهما فيها بحال، وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول، مئة بمئة وعشرين
وإدخال تلك السلعة تلبيس وعبث، وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء
به لمعنى في غيره حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن أو تساوي أقل جزء
من أجزائه لم يبالوا بجعلها مورداً للعقد؛ لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العُرْفِ لا
يكابرون أنفسهم في هذا. وأما النية والقصد فالأجنبي المشاهِدُ لهما يقطع بأنه لا
غرض لهما في السلعة، وإنما القصد الأولُ مئة بمئة وعشرين فضلاً عن علم المتعاقدين
ونيتهما؛ ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد، ثم يُحضِران تلك السلعة
تحليلاً لما حرم الله ورسوله.
وأما المقام
الثاني: وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام فبانت بالكتاب،
والسنة، والفطرة، والمعقول؛ فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا
إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم والتابعون مثل ذلك مخادعة كما تقدم، وقال أيوب السختياني: "يخادعون الله
كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل". والرجوع إلى الصحابة
في معاني الألفاظ متعين سواء كانت لغوية أم شرعية، والخداع حرام، وهذا العقد يتضمن
إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو أكبر من الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها
في صورة البيع الذي لم يقصد نَقْلُ الملك فيه أصلاً. وإنما قصده حقيقة الربا.
والطريق متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي
بأختها أصلاً؛ لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء
ويحرم ما يفضي إليه، بل لابد من تحريمهما أو إباحتهما، والثاني باطل قطعاً فتعين
الأول.
وليعلم أن الشارع إنما حرم الربا لأن فيه أعظم
الفساد والضرر، فلا يتصور مع هذا أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من
الحيل" [مختصر سنن أبي داود، ج - 5 ص 100 و101 و102
ولشيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله جملة فتاوى
في مسألة بيع العينة؛ منها أنه سئل عن رجل طلب من إنسان ألف درهم إلى سنة بألف
ومئتي درهم، فباعه فرساً أو قماشاً بألف درهم واشتراه منه بألف ومئتي درهم إلى أجل
معلوم.
فأجاب: "لا يحل له بذلك، بل هو رباً باتفاق
الصحابة والعلماء، كما دلت على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ابن عباس
رضي الله عنه عن رجل باع حريرة ثم ابتاعها لأَجْلِ زيادة درهم. فقال: "دراهم
بدراهم، دخلت بينهما حريرة". وسئل عن ذلك أنس بن مالك. فقال: "هذا مما
حرم الله ورسوله". وقالت عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم في نحو
ذلك: "بئس ما شريتِ، وبئس ما اشتريتِ، أخبري زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب". فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم
إلى أجل؛ فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
فسواء باع المعطى الأجل أو باع الأجل المعطى ثم
استعاد السلعة، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من باع بيعتين في
بيعة فله أَوْكَسُهما أو الربا). وفيها أيضاً: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم
أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى
ترجعوا إلى دينكم). وهذا كله بيع العينة. وهو: بيعتان في بيعة، وقال صلى الله عليه
وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس
عندك)؛ قال الترمذي: حديث صحيح. فحرم صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل شيئاً
ويقرضه مع ذلك؛ فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض؛ حتى ينفعه، فهو ربا.
وهذه الأحاديث وغيرها تبين أن ما تواطأ عليه
الرجلان بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه رباً، سواء كان يبيع
ثم يبتاع، أو يبيع ويُقرض، وما أشبه ذلك، والله أعلم" [ مجموع الفتاوى، ج29 -
ص100 و101 و102
الخلاصة:
اتضح مما أوردنا من آي الكتاب العزيز وتفسيرها،
والسنة النبوية وشروحها، وأقوال الصحابة والتابعين - تحريم الربا في الإسلام
والوسائل المفضية إليه، فتلخص من ذلك ما يأتي:
النهي عن تعاطي الربا بكل الألوان والوسائل.
أنه من الموبقات أي المهلكات.
أنه من كبائر الذنوب.
لعن آكل الربا ومؤكله وكل من تعاون عليه بكتابة
أو شهادة.
معصية أكل الربا تجاوزت الحد في القبح؛ لأنها
تعدل معصية الزنا.
آكل الربا - كما جاء في حديث سمرة وتعليق صاحب
شرح السنة - يعذب في البرزخ بالسباحة في النهر الأحمر، ويلقم بحجارة من نار، وعليه
اللعنة ثم الحيلولة بينه وبين دخول الجنة.
حرمة عِرض المسلم، وتحريم الاستطالة فيه.
أكلة الربا يحشرون في صورة الكلاب والخنازير من
أجل تحيلهم على أكله.
من وسائل التحيل لآكل الربا بيع العينة.
الوعيد الوارد على التبايع بالعينة.
الوسيلة للحرام
محرمة.
تحريم الربا وإباحة الوسيلة الموصلة إليه هو جمع
بين النقيضين، وذلك لا يقره الإسلام.
لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما
لم يضمن، ولا بيع ما لم يكن تحت تصرف البائع.
ما تواطأ عليه البائع والمشتري بما يقصدان به
دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل فإنه ربا سواء كان يبيع ثم يبتاع أو يبيع ويقرض
وأمثال ذلك.
***********************************************************************************
المسألة
الرابعة: مضار الربا.
الإسلام دين العمل وبقدر ما يعمل المسلم يأخذ،
أما التبطُّل والقعود عن الكسب المشروع اتكالاً على مجهود الغير، أو اعتداداً
بغنيمة باردة تصل إليه فليس ذلك من دين الإسلام، بل هو مناقض لما جاء به الإسلام
ومن ثَمَّ نجد المدخل لمضارِّ الربا فهو تبطُّل يعيش المتعاطي له على حساب الغير؛
يأكل كسبهم، ويمتص نشاطهم إلى آخر ما سطرته في المقدمة إضافة إلى أنه يسبب العداء
بين أفراد المجتمع، ودين الإسلام دين التراحم والتعاطف والمساواة لا يقر الهامل
الذي يعيش كالمتطفل على كدْح غيره، يستمرئ حياة الدَّعة ليأكل الربا غنيمة باردة
دون عناء وجَهد في الكسب؛ ولذلك أباح الله البيع وحرم الربا للفارق العظيم بين
البيع والربا؛ فالبيع: كد وجهد مبذول ولقمة يأكلها البائع من عرق الجبين، بخلاف
المرابي فإنه تتضخم ثروته وينمو ماله بالغنيمة الباردة التي يبتزها من الفقير
المحتاج.
وهنالك خَسارة قد تحيق بالمرابي دون أن يحسب لها
حساباً ألا وهي هبوط الأسعار والديون التي أثقل بها نفسه، وأخذها بفائدة؛ ليوسع
بها تجارته، قد ينجم عنه الإفلاس، فهو مضطر إذا حان أجل السداد أن يبيع السلعة
برأس مالها؛ حتى يأتي على كل السلع التي تحت يديه التي كانت قوام تجارته، ويغدو
صِفر اليدين، بل قد تلجئه الحاجة إلى أن يتكفَّف الناس، أو يركن إلى الاستدانة،
وذلك ما تترجم عنه الآية الكريمة {يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا} [البقرة: 276]، والحديث النبوي الشريف (الربا وإن كثر فإنَّ
عاقبته إلى قُلٍّ)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بعض العلماء
المعاصرين عن مضار الربا؛ أنه وسيلة للاستعمار وشقائه، فقد ثبت أن الغزو الاقتصادي
القائم على المعاملات الربوية كان التمهيدَ الفعّال للاحتلال العسكري الذي سقطت
أكثر دول الشرق تحت وطأته، فقد اقترضت الحكومات الشرقية بالربا، وفتحت أبواب
البلاد للمرابين الأجانب فما هي إلا سنوات معدودة حتى تسربت الثروة من أيدي
المواطنين إلى هؤلاء الأجانب، حتى إذا أفاقت الحكومات وأرادت الذود عن نفسها
وأموالها استعدى هؤلاء الأجانب عليها دولهم فدخلت باسم حماية رعاياها، ثم تغلغلت
هي كذلك فوضعت يدها مستثمرة مرافق البلاد؛ ولهذا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: (هم سواء) [رواه مسلم - روح الدين
الإسلامي ص332
***********************************************************************************
المسألة
الخامسة: حكمة تحريم الربا
أما حكمة تحريم الربا فتشمل الجانب الاقتصادي،
والأخلاقي، والاجتماعي، وتفصيل ذلك ملخصاً فيما جاء في تفسير الفخر الرازي وهي كما
يلي:
1-أن الربا يقتضي أخذ
مال الإنسان من غير عوض؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين يحصل له زيادة درهم من غير
عوض. ومال الإنسان متعلق بحاجته، وله حرمة عظيمة، كما جاء في الحديث (حرمة مال
المسلم كحرمة دمه). فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرما.
2-أن الاعتماد على
الربا يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد
الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا
يكاد يتحمل مشقة الكسب والصناعات الشاقة والتجارة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع
الخلق. ومن المعلوم أن مصالح العالَم لا تنتظم إلا بالتجارات، والحرف، والصناعات،
والعمارات، وهذا هو الجانب الاقتصادي.
3-أنه يفضي إلى انقطاع
المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الربا إذا حرم طابت النفوس بقرض الدراهم واسترجاع
مثله. ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين فيفضي ذلك
إلا انقطاع المواساة والمعروف والإحسان، وهذا هو الجانب الأخلاقي.
4-أن الغالب أن المقرض
يكون غنياً والمستقرض يكون فقيراً، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين مَنْ يأخذ من
الفقير الضعيف مالاً زائداً، وذلك غير جائز برحمة الرحيم، وهذا هو الجانب
الاجتماعي، ومعنى هذا أن الربا فيه اعتصار الضعيف لمصلحة القوي، ونتيجته أن يزداد
الغني غنى والفقير فقراً، مما يفضي إلى تضخم طبقةٍ من المجتمع على حساب طبقة أو
طبقات أخرى، مما يخلق الأحقاد والضغائن، ويورث نار الصراع بين المجتمع بعضه ببعض،
ويؤدي إلى الثورات المتطرفة والمبادئ الهدامة، كما أثبت التاريخ القريب خطر الربا
والمرابين على السياسة والحكم والأمن المحلي والدول جميعاً. [الحلال والحرام، ص263
***********************************************************************************
المسألة السادسة
: أنواع الربا وحكم كل نوع.
الشح خُلَّة ضعة وهوان تُزْري بصاحبها وتجعله
نشازاً في مجتمعه يجمع المال ويشح بإنفاقه حتى على مصالح نفسه، وعلى العكس منه
البذل بسخاء خاصة في وجوه البر والخير، وإغاثة الملهوف، وكل ما فيه مصلحة للمجموع،
وعلى هذا الاعتبار جاء تحريم الربا والترغيب في البذل ابتغاء كريم الأجر، ونزل
القرآن والعرب تتعامل بالربا لتفكك مجتمعهم وانفصام عرى التآلف بينهم، فعندما تنزل
الحاجة بأحدهم، أو يوصله الفقر بالرغام لا يجد من يسعفه أو يعينه في محنته، أو
ينقذه من ذل الحاجة إلا بنكبته بالزيادة على ما يقرضه، والمفاضلة بين ما يقبضه
ويعيده من مال، وذلك هو الربا الذي جاء الإسلام بتحريمه، وقد أوردنا من آي الكتاب
العزيز والسنة المطهرة ما يكفي عن المزيد، بقي أن نوضح نوعية الربا المحرم والذي
كانت العرب تتعامل به، جاء في كتاب "أحكام القرآن": "قوله: الربا
الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجَلٍ بزيادة
على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان
متفاضلاً من جنس واحد، هذا كان المتعارف المشهور بينهم؛
ولذلك قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ
النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ﴾؛ [الروم: 39].فأخبر أن تلك
الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض،
وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً } [ آل عمران: 130] إخبار عن الحال التي خرج عليها الكلام
من شرط الزيادة أضعافاً مضاعفة، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل
ضروباً من البياعات وسماها ربا، فانتظم قوله تعالى: ﴿ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [
البقرة: 275] تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم
بالربا إلا على الوجه الذي ذكرناه من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط
الزيادة". [أحكام القرآن للجصاص، ص552]
والربا ينقسم إلى قسمين: ربا النسيئة، وربا
الفضل، فربا النسيئة: هو الذي كان معروفاً بين العرب في الجاهلية لا يعرفون غيره،
وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً، فإذا حل الأجل
طولب المدين برأس المال كاملاً، فإن تعذر الأداء زادوا في الحق والأجل.
وربا الفضل أن
يباع من الحنطة (مَنَا) ب- (منوين) منها، أو درهم بدرهمين، أو دينار بدينارين، أو
رطل من العسل برطلين، وقد كان ابن عباس لا يحرِّم إلا القسم الأول، وكان يجوِّز
ربا الفضل؛ اعتماداً على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الرِّبا
في النَّسيئة)، ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(الحنطة بالحنطة، مثلاً بمثل، يداً بيد)، وذكر الأصناف الستة، كما رواه عبادة بن
الصامت وغيره؛ رجع عن قوله.
وأما قوله عليه
السلام: (وإنما الرِّبا في النسيئة) فمحمولٌ على اختلاف الجنس؛ فإن النسيئة حينئذٍ
تحرم ويباح التفاضل؛ كبيع الحنطة بالشعير، تحرم فيه النسيئة، ويباح التفاضل؛ ولذلك
وقع الاتفاق على
تحريم الربا في
القسمين.
أما الأول: فقد ثبت تحريمه بالقرآن.
وأما الثاني: فقد ثبت تحريمه بالخبر الصحيح؛ كما
روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب
بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والمِلح
بالمِلح مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف
شئتم إذا كان يداً بيد). واشتهرت روايته هذه حتى كانت مسلَّمة عند الجميع، ثم
اختلف العلماء بعد ذلك، فقال نُفاة القياس: إن الحرمة مقصورةٌ على هذه الأشياء
الستة، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء: إن الحرمة غير مقصورة
على هذه الأشياء الستة؛ بل تتعداها إلى غيرها، وإن الحرمة ثبتت في هذه الستة لعلة،
فتتعدَّى الحرمة إلى كل ما توجد فيه تلك العلة.
ثم اختلفوا في
هذه العلة؛ فقال الحنفية: إن العلة هي اتحاد هذه الأشياء الستة في الجنس والقدر -
أي: الكيل والوزن - فمتى اتحد البدلان في الجنس والقدر حرم الربا، كبيع الحنطة
بالحنطة، وإذا عُدِما معاً حل التفاضل والنسيئة، كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل،
وإذا عدم القدر واتحد الجنس حل الفضل دون النسيئة، كبيع عبد بعبدين، وإذا عدم
الجنس واتحد القدر حل الفضل دون النسيئة أيضاً، كبيع الحنطة بالشعير.
وقال المالكية: إن العلة هي اتحاد الجنسين مع
الاقتيات أو ما يَصلُح به الاقتيات وقال الشافعية: إن العلة في الذهب والفضة هي
اتحاد الجنس مع النقدية، وفي الأشياء الأربعة الباقية اتحاد الجنس مع الطعم،
والتفاضل في أمر الربا يعلم من كتب الفقه.
***********************************************************************************
المسألة السابعة
: وسائل القضاء على الربا.
من مزايا دين الإسلام أنه لم يحرم شيئاً إلا أوجد
له بديلاً يغني عنه، ويأخذ بحُجَز المسلمين من أن يقعوا في المحرم المنكور، ولا
نطيل ضرب الأمثلة لذلك، وإنما نكتفي بتحريم الخمر: أبدل الله المسلمين عن شربها
بشرب جميع العصيرات والمنتبذات مما لا يكون فيه شبهة حرام، وعندما حرَّم الربا
أباح البيع والتجارة في الأمور المباحة وأنواع المضاربة، وهكذا، فلم يرهق المسلم
من أمره عسراً، ولم يكلفه شططاً وإنما أوجد له الحلول، وشرع وسائل من شأنها القضاء
على الربا، والتجافي عنه، والترفع عن مزالقه، والتورط في إثمه ويشمل ذلك ما يأتي:
(أ) القرض الحسن:
فبدلاً من أن يقرض المسلم ماله بفائدة تقُضُّ مضجع المقترض وتزيد من محنته وبلائه
رغب الإسلام في القرض الحسن بالوعد الكريم، والجزاء الضافي كما قال تعالى: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}؛ [البقرة: 245]. وقال تعالى {من ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11].
)ب) إنظار المُعْسِر: ريثما يزول إعساره،
والترغيب في إبراء ذمته من الدين دون مطالبته
كما قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن
تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]
(ج) التعاون: في مختلف
دروبه، وبكل وسائله؛ يشمل التعاون الاجتماعي، والصناعي، والزراعي، ويدخل في إطار
ذلك الضمان الاجتماعي، وتمويل المزارعين، وأصحاب الصناعات بما يشدُّ أَزْرهم،
ويضاعف إنتاجهم فيما يعود بالخير على المجتمع الإسلامي، وثمة فتح المدارس، وبناء
المستشفيات، ودور العجزة، وما إليه مما تشمله الآية الكريمة: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } [
المائدة: 2]، فيغدو المجتمع في ظلال هذا التعاون الشامل سعيداً بعيداً عن مآسي
الربا، والانزلاق إلى أوحاله، ولا يغيب عن الأذهان إخراج زكاة الأموال، ودفعها إلى
مستحقِّيها، كما نصت على ذلك الآية الكريمة: {إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [ التوبة: 60].
وجملة القول أن وسائل القضاء على الربا، والأخذ
بها، والتعاون على تنفيذها، وفي الطليعة إخراج الزكاة دون تهرب، أو تسويف، أو
طغيان الأنانية على بعض النفوس، فتستأثر بالمال، وتحتجزه، وتشح به فلا تستجيب
لإنفاقه كما أمر الله، وكما قال تعالى: { آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}
[ الحديد 7] - كل أولئك مما يحول دون الارتداغ في أرجاس الربا، والوقوع في أوحاله.
********************************************************************************************************************************************************************
الحكم الثاني:
أحكام البيع
وفيه خمسة مسائل على نحو مايأتي:
المسألة الأولى
: تعريف البيع.
البيع في اللغة:
مقابلة شيء
بشيء؛ فمقابلة السلعة بالسلعة تسمى بيعًا لغة كمقابلتها بالنقد، ويقال لأحد المتقابلين:
مبيع، وللآخر: ثمن.
وقال بعض
الفقهاء: إن معناه في اللغة تمليك المال بالمال، وهو بمعنى التعريف الأول.
وقال آخرون: إنه
في اللغة إخراج ذات عن الملك بعِوض، وهو بمعنى التعريف الثاني؛ لأن إخراج الذات عن
الملك هو معنى تمليك الغير للمال، فتمليك المنفعة بالإجارة ونحوها لا يسمى بيعًا.
أما الشراء فإنه
إدخال ذات في الملك بعِوض، أو تملك المال بالمال، على أن اللغة تطلق كلًّا من
البيع والشراء على معنى الآخر، فيقال لفعل البائع: بيع وشراء، كما يقال ذلك لفعل
المشتري، ومنه قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ }
[ يوسف: 20]، فإن معنى {شرَوْهُ } في الآية: باعوه، وكذلك الاشتراء والابتياع
فإنهما يطلقان على فعل البائع والمشتري لغة.
إلا أن العُرف قد خص المبيع بفعل البائع، وهو
إخراج الذات مِن الملك، وخص الشراء والاشتراء والابتياع بفعل المشتري، وهو إدخال
الذات في الملك.
***********************************************************************************
المسألة
الثانية: مشروعية البيع
إن مشروعية البيع ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
في الكتاب: ورد
في القرآن الكريم: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} [ البقرة: 275].
وفي سورة النساء: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
[
النساء: 29].
وقوله تعالى: ﴿
وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة: 282].
فهذه الآيات صريحة في حِلِّ البيع، وإن كانت
مسوقة لأغراض أخرى غير إفادة الحل؛ لأن الآية الأولى مسوقة لتحريم الربا، والثانية
مسوقة لنهي الناس عن أكل أموال بعضهم بعضًا بالباطل، والثالثة مسوقة للفت الناس
إلى ما يرفع الخصومة، ويحسم النزاع من الاستشهاد عند التبايع.
وفي السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد باشر
البيع، وشاهد الناس يتعاطون البيع والشراء، فأقرهم ولم ينهَهم عنه"
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: {لأن يأخذ أحدكم
حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها فيكف بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس،
أعطوه أو منعوه}؛ رواه البخاري.
وفي هذا الحديث
إشارة إلى ما يجب على الإنسان من العمل في هذه الحياة، فلا يحل له أن يهمل طلب
الرزق اعتمادًا على سؤال الناس، كما لا يحل له أن يستنكف عن العمل، سواء كان
جليلًا أو حقيرًا، بل عليه أن يعمل بما هو ميسر له.
ومنها قوله عليه
الصلاة والسلام: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير،
والتمر بالتمر، والملح بالملح سواءً بسواء، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو
استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبِيعوا كيف شئتم))؛ رواه مسلم، فقوله:
((فبيعوا كيف شئتم)) صريح في إباحة البيع.
ومنها قوله عليه
الصلاة والسلام: ((أفضل الكسب بيع مبرور، وعمل الرجل بيده))؛ رواه أحمد والطبراني
وغيرهما، والبيع المبرور هو الذي يبر فيه صاحبه فلم يغشَّ ولم يخُنْ ولم يعصِ الله
فيه، وحكمه حِلُّ ما يترتب عليه من تبادل المنافع بين الناس، وتحقيق التعاون بينهم.
فينتظم بذلك
معاشهم، وينبعث كل واحد إلى ما يستطيع الحصول عليه من وسائل العيش، فهذا يغرس
الأرض بما منحه الله من قوة بدنية، وألهمه من علم بأحوال الزرع، ويبيع ثمرها لمن
لا يقدر على الزرع ولكنه يستطيع الحصول على الثمن من طريق أخرى، وهذا يحضر السلعة
من الجهات الثانية ويبيعها لمن ينتفع بها، وهذا يجيد ما يحتاج إليه الناس من صناعة
ليبيع عليهم مصنوعاته؛ فالبيع والشراء من أكبر الوسائل الباعثة على العمل في هذه
الحياة الدنيا، وأجلِّ أسباب الحضارة والعمران.
الإجماع: وقد أجمع الأئمة على مشروعية البيع،
وأنه أحد أسباب التملك.
كما أن الحكمة تقتضيه؛ لأن الحاجة ماسة إلى
شرعيته؛ إذ الناس محتاجون إلى الأعواض والسلع، والطعام والشراب الذي في أيدي
بعضهم، ولا طريق لهم إليه إلا بالبيع والشراء.
***********************************************************************************
المسألة
الثالثة: أركان البيع.
أركان البيع ستة، وهي الصيغة، والعاقد والمعقود
عليه، وكل منهما قسمان؛ لأن العاقد إما أن يكون بائعًا أو مشتريًا، والمعقود عليه
إما أن يكون ثمنًا أو مثمنًا، والصيغة إما أن تكون إيجابًا أو قبولًا؛ فالأركان
ستة، والمراد بالركن هنا ما يتوقف عليه وجود الشيء، وإن كان غير داخل في حقيقته،
وهذا مجرد اصطلاح؛ لأن ركن الشيء الحقيقي هو أصله الداخل فيه، وأصل البيع هو
الصيغة، التي لولاها ما اتصف العاقدان بالبائع والمشتري، ولكل ركن من الأركان
أحكام وشروط سنذكرها على الترتيب الذي يلي:
الركن الأول:
الصيغة.
الصيغة في البيع: هي كل ما يدل على رضاء
الجانبين، البائع والمشتري، وهي أمران:
الأول: القول وما يقوم مقامه من رسول أو كتاب،
فإذا كتب لغائب يقول له: بعتك داري بكذا، أو أرسل له رسولًا فقبل البيع في المجلس،
فإنه يصح ولا يغتفر له الفصل إلا بما يغتفر في القول حال حضور المبيع.
الثاني:
المعاطاة، وهي الأخذ والإعطاء بدون كلام؛ كأن يشتري شيئًا ثمنه معلوم له، فأخذه من
البائع، ويعطيه الثمن، وهو يملك بالقبض، ولا فرق بين أن يكون المبيع يسيرًا؛
كالخبز والبيض ونحوهما، مما جرت العادة بشرائه متفرقًا أو كثيرًا، كالثياب القيمة.
وأما القول: فهو
اللفظ الذي يدل على التمليك والتملك، كـ: بعت واشتريت، ويسمى ما يقع من البائع
إيجابًا، وما يقع من المشتري قبولًا، وقد يتقدم القبول على الإيجاب، كما إذا قال
المشتري: بِعْني هذه السلعة بكذا.
ويشترط للإيجاب
والقبول شروط، منها: أن يكون الإيجاب موافقًا للقبول في القدر والوصف والنقد،
والحلول والأجل، فإذا قال البائع: بِعت هذه الدار بألف، فقال المشتري: قبلتها
بخمسمائة - لم ينعقد البيع، وكذا إذا قال: بعتها بألف جنيه ذهبًا، فقال الآخر:
قبلتها بألف جنيه وَرِقًا، فإن البيع لا ينعقد إلا إذا كانت الألف الثانية مثل
الأولى في المعنى من جميع الوجوه، فإن البيع ينعقد في هذه الحالة.
ومنها: أن يكون
الإيجاب والقبول في مجلس واحد، فإذا قال أحدهما: بعتك هذا بألف، ثم تفرقا قبل أن
يقبل الآخر، فإن البيع لا ينعقد.
ومنها: أن لا
يفصل بين الإيجاب والقبول فاصل يدل على الإعراض، أما الفاصل اليسير، وهو الذي لا
يدل على الإعراض بحسب العرف، فإنه لا يضر.
ومنها: سماع
المتعاقدين كلام بعضهما البعض، فإذا كان البيع بحضرة شهود، فإنه يكفي سماع الشهود،
بحيث لو أنكر أحدهما السماع لم يصدق، فإذا قال: بِعت هذه السلعة بكذا، وقال الآخر:
قبلت، ثم تفرقا، فادعى البائع أنه لم يسمع القبول أو ادعى المشتري بأنه لم يسمع
الثمن مثلًا، فإن دعواهما لا تسمع إلا بالشهود.
الركن الثاني:
العاقدان
وأما العاقدان - سواء كان بائعًا أو مشتريًا -
فإنه يشترط له شروط، منها: أن يكون مميزًا، فلا ينعقد بيع الصبي الذي لا يميز،
وكذلك المجنون، أما الصبي المميِّز والمعتوه اللذان يعرفان البيع وما يترتب عليه
من الأثر، ويدركان مقاصد العقلاء من الكلام، ويحسنان الإجابة عنها - فإن بيعهما
وشراءهما ينعقد، ولكنه لا ينفذ إلا إذا كان بإذن من الولي في هذا الشيء الذي باعه
واشتراه بخصوصه، ولا يكفي الإذن العام.
فإذا اشترى الصبي المميز السلعة التي أذن له وليه
في شرائها، انعقد البيع لازمًا، وليس للولي رده، أما إذا لم يأذن وتصرف الصبي المميز
من تلقاء نفسه فإن بيعه ينعقد، ولكن لا يلزم إلا إذا أجازه الولي، أو أجازه الصبي
بعد البلوغ.
ومنها: أن يكون
رشيدًا، وهذا شرط لنفاذ البيع، فلا ينعقد بيع الصبي، مميزًا كان أو غيره، ولا بيع
المجنون والمعتوه والسفيه، إلا إذا أجاز الولي بيع المميز منهم، أما بيع غير
المميز فإنه يقع باطلًا، ولا فرق في المميز بين أن يكون أعمى أو مبصرًا.
ومنها: أن يكون
العاقد مختارًا، فلا ينعقد بيع المكره ولا شراؤه؛
لقوله تعالى: { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ }
[النساء: 29].
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنما البيع عن
تراضٍ))؛ رواه ابن حبان.
الركن الثالث:
المعقود عليه
يشترط في المعقود عليه، ثمنًا كان أو مثمنًا،
شروط، منها:
أ - أن يكون طاهرًا، فلا يصح أن يكون النجس
مبيعًا ولا ثمنًا، فإذا باع شيئًا نجسًا أو متنجسًا لا يمكن تطهيره، فإن بيعه لا
ينعقد، وكذلك لا يصح أن يكون النجس أو المتنجس الذي لا يمكن تطهيره ثمنًا، فإذا
اشترى أحد عينًا طاهرة، وجعل ثمنها خمرًا أو خنزيرًا مثلًا، فإن بيعه لا ينعقد.
ب - أن يكون منتفعًا به انتفاعًا شرعيًّا، فلا
ينعقد بيع الحشرات التي لا نفع فيها.
ج - أن يكون المبيع مملوكًا للبائع حال البيع،
فلا ينعقد بيع ما ليس مملوكًا إلا في السَّلَم، فإنه ينعقد بيع العين التي ستملك
بعد.
د - أن يكون مقدورًا على تسليمه، فلا ينعقد بيع
المغصوب؛ لأنه وإن كان مملوكًا للمغصوب منه، فإنه ليس قادرًا على تسليمه، إلا إذا
كان المشتري قادرًا على نزعه من الغاصب، وإلا صح، وأيضًا لا يصح أن يبيعه الغاصب؛
لأنه ليس مملوكًا.
هـ - أن يكون المبيع معلومًا والثمن معلومًا
علمًا يمنع من المنازعة، فبيع المجهول جهالة تفضي إلى المنازعة غير صحيح، كما إذا
قال للمشتري: اشترِ شاة من قطيع الغنم التي أملكها، أو اشترِ مني هذا الشيء بقيمته،
أو اشترِ مني هذه السلعة بالثمن الذي يحكم به فلان، فإن البيع في كل هذا لا يصح.
و - ألا يكون مؤقتًا، كأن يقول له: بعتك هذا
البعير بكذا لمدة سنة.
ومن الجدير بالملاحظة أنه في النظام الاقتصادي
الإسلامي تخضع أركان وشروط عقد البيع في تنظيمها لقواعد الفقه الإسلامي المتعلق
بالمعاملات.
وعند تطبيق هذه
العقود لدى البنوك الإسلامية في عمليات التمويل، فإن هذه العقود تخضع كذلك في
تنظيمها للقواعد العامة للقانون الوضعي في الدولة التي يتم فيها التعاقد.
***********************************************************************************
المسألة
الرابعة: أنواع البيوع.
أولًا: تقسيم
البيع باعتبار المبيع:
ينقسم البيع باعتبار موضوع المبادلة فيه إلى
أربعة أقسام:
1)البيع المطلق: هو مبادلة
العين بالنقد، وهو أشهر الأنواع، ويتيح للإنسان المبادلة بنقوده على كل ما يحتاج
إليه من الأعيان، وينصرف إليه البيع عند الإطلاق، فلا يحتاج كغيره إلى تقييد.
2)بيع السَّلَم: ويسمى السَّلَف،
هو مبادلة الدين بالعين، أو بيع شيء مؤجل بثمن معجل.
3)بيع الصرف: وهو بيع جنس
الأثمان بعضه ببعض، وعرف بأنه بيع النقد بالنقد جنسًا بجنس، أو بغير جنس؛ أي: بيع
الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، وكذلك بيع أحدهما بالآخر.
وإنما يسمى
صرفًا: لوجوب دفع ما في يد كل واحد من المتعاقدين إلى صاحبه في المجلس.
وشروطه أربعة:
أ - التقابض قبل الافتراق بالأبدان بين
المتعاقدين؛ منعًا من الوقوع في ربا النسيئة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب
بالذهب مِثلًا بمثل، يدًا بيد، والفضة بالفضة مِثلًا بمثل، يدًا بيد)).
ب - التماثل عند اتحاد الجنس: إذا بِيع الجنس
بالجنس، كفضة بفضة أو ذهب بذهب، فلا بد فيه من التماثل؛ أي: التساوي في الوزن
والمقدار دون النظر إلى الجودة والصياغة.
ج - أن يكون العقد باتًّا، وألا يكون فيه خيار
الشرط؛ لأن القبض في هذا العقد شرط، وخيار الشرط يمنع ثبوت الملك أو تمامه، كما
عرفنا.
د - التنجيز في العقد، وألا يكون فيه أجل؛ لأن
قبض البدلين مستحق قبل الافتراق، والأجل يؤخر القبض.
فإذا اختل شرط من هذه الشروط، فسد الصرف.
4)بيع المقايضة: وهو مبادلة
مال بمال سوى النقدين، ويشترط لصحته التساوي في التقابض إن اتفقا جنسًا وقدرًا،
فيجوز بيع لحم بشاة حية؛ لأنه بيع موزون بما ليس بموزون، وخبز بدقيق متفاضلًا؛
لأنه بيع مكيل بموزون.
ولا يجوز بيع التين الرطب بالتين اليابس إلا
تماثلًا، ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق أو البرغل مطلقًا ولو متساويين؛ لانكباس
الأخيرين في المكيال أكثر من الأول، أما إذا بيع موزونًا فالتماثل واجب.
ثانيًا: تقسيم
البيع باعتبار طريقة تحديد الثمن:
ينقسم البيع باعتبار طريقة تحديد الثمن إلى ثلاثة
أنواع:
1)بيع المساومة: هو البيع الذي
لا يظهر فيه رأس ماله؛ أي: البيع بدون ذكر ثمنه الأول.
2)بيع المزايدة: هو أن يعرض
البائع سلعته في السوق، ويتزايد المشترون فيها، فتباع لمن يدفع الثمن أكثر.
ويقارب المزايدة الشراء بالمناقصة، وهي أن يعرض
المشتري شراء سلعة موصوفة بأوصاف معينة، فيتنافس الباعة في عرض البيع بثمن أقل،
ويرسو البيع على من رضي بأقل سعر، ولم يتحدث الفقهاء قديمًا عن مثل هذا البيع،
ولكنه يسري عليه ما يسري على المزايدة مع مراعاة التقابل.
3)بيوع الأمانة: هي التي يحدد
فيها الثمن بمثل رأس المال، أو أزيد أو أنقص، وسميت بيوع الأمانة؛ لأنه يؤمن فيها
البائع في إخباره برأس المال، وهي ثلاثة أنواع:
أ - بيع المرابحة: وهو بيع السلعة بمثل
الثمن الأول الذي اشتراها البائع، مع زيادة ربح معلوم متفق عليه.
ب - بيع التولية: وهو بيع السلعة بمثل
ثمنها الأول الذي اشتراها البائع به، من غير نقص ولا زيادة.
ج - بيع الوضيعة: وهو بيع السلعة بمثل
ثمنها الأول الذي اشتراها البائع به، مع وضع (حط) مبلغ معلوم من الثمن؛ أي: بخسارة
محددة.
هذا، وفي حالة كون البيع يتم لجزء من المبيع،
فإنه يسمى بيع (الاشتراك)، وهو لا يخرج عن الأنواع المتقدمة المذكورة من البيوع.
ثالثًا: تقسيم
البيع باعتبار طريقة تسليم الثمن:
1)بيع منجز الثمن: وهو ما يشترط
فيه تعجيل الثمن، ويسمى بيع النقد، أو البيع بالثمن الحال.
2)بيع مؤجل الثمن: وهو ما يشترك
فيه تأجيل الثمن.
3)بيع مؤجل المثمن: وهو مثل بيع
السَّلم وبيع الاستصناع.
4)بيع مؤجل العِوضين: أي بيع
الدَّين بالدَّين، وهو ممنوع في الجملة.
رابعًا: تقسيم
البيع باعتبار الحكم الشرعي:
ينقسم البيع باعتبار الحكم الشرعي إلى أنواع
كثيرة، منها:
1)البيع المنعقد، ويقابله البيع
الباطل.
2)البيع الصحيح، ويقابله البيع
الفاسد.
3)البيع النافذ، ويقابله البيع
الموقوف.
4)البيع اللازم، ويقابله البيع
غير اللازم، (ويسمى الجائز أو المخير)
أ - فالبيع اللازم: هو البيع الذي يقع باتًّا إذا
عري عن الخيارات، كـ: بعتك هذا الثوب بعشرة قروش، وقبِل المشتري.
ب - والبيع غير اللازم: وهو ما كان فيه إحدى
الخيارات، كـ: بعتك هذا الثوب بعشرة قروش، فقال المشتري: قبلت على أني بالخيار
ثلاثة أيام.
ج - والبيع
الموقوف: ما تعلق به حق الغير؛ كبيع إنسان مال غيره بغير إذنه.
د - أما البيع الصحيح النافذ اللازم: فهو ما كان
مشروعًا بأصله ووصفه، ولم يتعلق به حق الغير، ولا خيار فيه، وحكمه أنه يثبت أثره
في الحال.
هـ - أما البيع الباطل: فهو ما اختل ركنه أو
محله، أو لا يكون مشروعًا بأصله، ولا بوصفه، وحكمه أنه لا يعتبر منعقدًا فعلًا.
و - والبيع الفاسد: هو ما كان مشروعًا بأصله دون
وصفه، كمن عرض له أمر أو وصف غير مشروع، مثل بيع المجهول جهالة تؤدي للنزاع؛ كبيع
دار من الدور، أو سيارة من السيارات المملوكة لشخص دون تعيين، وكإبرام صفقتين في
صفقة، وحكمه أنه يثبت فيه الملك بالقبض بإذن المالك، صراحة أو دلالة.
***********************************************************************************
المسألة
الخامسة: الضابط الذي يميز الفاسد عن الباطل.
1)إذا كان الفساد يرجع للمبيع، فالبيع باطل.
2)أما إذا كان الفساد يرجع للثمن، فإن البيع
يكون فاسدًا؛ أي: إنه ينعقد بقيمة المبيع.
أنواع البيع
الباطل:
وهي خمسة أنواع كالآتي:
1)بيع المعدوم2)بيع معجوز التسليم3)بيع الغرر.
4)بيع النجس والمتنجس5)بيع العربون.
*********************************************************************************************************************************************************************
الحكم الثالث:
أحكام الدين
قوله تعالى: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ
كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا
فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا
وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا
تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ
فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة: 282
لَمَّا حث تعالى على الصدقات، وحرَّم الربا، ودعا
إلى العفو عن المعسر، والتصدق عليه بإسقاط الدَّين، الأمر الذي يتبادر إلى الذهن
أن المال لا شأن له ولا قيمة في الحياة - فجاءت هذه الآية { آية الدَّين} الكريمة
لتعطي للمال حقه، وترفع شأنه، فإنه قوام الحياة، فقررت واجب الحفاظ عليه، وذلك
بكتابة الديون، والإشهاد عليها بمن تُرضَى عدالتهم، وكون الشاهدينِ رجلينِ مسلمين
حرَّين، فإن انعدم رجلٌ من الاثنين، قامت امرأتان مقامه، واستحث الله تعالى مَن
يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان ذا سَعَة من أمره، وحرَّم على الشهود إذا ما دُعوا
لأداء الشهادة أن يتخلَّوا عنها، وحرم على المتداينين ألا يكتبوا ديونهم ولو كانت
قليلة،
فقال تعالى: { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ
صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}.
ورخَّص تعالى منه عدم كتابة التجارة الحاضرة التي
يدفع فيها السلعة في المجلس ويقبض الثمن فيه،
فقال: {
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}
وأمر بالإشهاد على البيع، فقال: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾، ونهى عن
الإضرار بالكاتب أو الشهيد بأن يلزم الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله، أو الشاهد
بأن يطلب منه أن يشهد وهو في شغله، أو أن يدعى إلى مسافات بعيدة تشق عليه؛ إذ أمره
تطوُّع وفعل خير لا غير، فيُطلَب كاتب وشاهد غيرهما إذا تعذر ذلك منهما
لانشغالهما، وحذَّر من كتمان الشهادة أو الحيف والجور في الكتابة والإضرار بالكاتب
والشهيد، فقال: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ } ، وأكد ذلك بأمره بتقواه، فقال: ﴿
وَاتَّقُوا اللَّهَ )
******************************************************************************************************************************************************************************
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق