الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

⟽⟽⟽ الجزء الثاني - الربع السادس - الأحكام الفقهية


المسألة الأولى 
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}

الخمر:
كل ما أسكر فهو خمر، سواء كان من العنب أو من التمر أو من الشعير أو من البر أو من غير ذلك. كل ما أسكر فهو خمر،
 قال النبي صلى الله عليه وسلم"كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" رواه مسلم وأبوداود والترمذي عن ابن عمر.

والإسكار هو: تغطية العقل على وجه اللذة و الطرب، ليس مجرد تغطية العقل، ولهذا البنج ليس مسكرا وإن كان يغطي العقل.

والمبنج لا يدري ماذا حصل له، لكن الخمر نسأل الله العافية، يجد الإنسان من السكر لذة وطربا و نشوى حتى يتصور أنه ملك من الملوك وأنه فوق الثرايا وما أشبه ذلك.
كما قال في هذا ونشربها فنزلنا ملوكا.

و كما قال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه لابن أخيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حمزة وهو سكران،
 هل أنتم إلا عبيد أبي. وهذه كلمة بشعة لكنه سكران.  والسكران لا يؤاخذ بما يقول . وهذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.

وكان تحريم الخمر على أربعة مراحل:
المرحلة الأولى:
 إباحة. أن الله أباحه للعباد إباحة طيبة فقال تعالى:
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} - النحل- ، يعنى تشربونه فتسكرون و تتجرون به فتحصلون رزقا

المرحلة الثانية:
 تعريض الله تعالى بتحريمه، وقال تعالى
{ ويسألونك عن الخمر و اليسر، قل فيهما إثم كبير و منافع للناس، و إثمهما أكبر من نفعهما.
ولم ينه عنهما في هذه المرحلة.

المرحلة الثالثة:
 قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ختى تعلموا ما تقولون} ، فنهى عن قربان الصلاة في حال السكر و هذا يقتضي أنه يباح في غير أوقات الصلاة.

المرحلة الرابعة:
 التحريم البائن قال تعالى في سورة المائدة و هي آخر ما نزل: قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}، فاجتنبه الناس، لكن لما كانت النفوس تدعو إليها -إلى الخمر- و شربها جعل لها رادع يردع الناس عن شربها، و هو العقوبة.

ولم يُقدر لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فعقوبة الشارب ليست حدا، لكنها تعزير، ولهذا جيء برجل شرب الخمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ: اضربوه.
ولا قال: أربعين ولا ثمانين ولا مائة ولا عشرة. فقاموا يضربونه، منهم الضارب بثوبه، ومنهم الضارب بيده، ومنهم الضارب بنعله. لكن ضربوه نحو أربعين جلدة، فلما انصرفوا وانصرف الرجل، قال رجل من القوم: أخزاه الله، يعنى أذله وفضحه.
 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل هكذا، لا تدع عليه بالخزي. رجل شرب مسكر وجلد وتطهر بالجلد، لا تعينوا عليه الشيطان.  فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسبوه مع أنه شرب الخمر.

إذا ما موقفنا من شارب الخمر. موقفنا أن ندعو له بالهداية. قل: اللهم اهده، اللهم أصلحه، اللهم أبعده عن هذا، وما اشبه ذلك. أما ان تدعو عليه، فإنك تعين عليه الشيطان.
وفي هذا دليل على أن الخمر محرم، و أن عليه عقوبة، لكن في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتشرت الفتوحات و دخل في دين الإسلام أناس جدد، وكثر شرب الخمر في عهده، وكان رضي الله عنه -لورعه و تحرزه- جمع الصحابة، أي جمع ذوي الرأي. فاستشارهم ماذا يصنع؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أخف الحدود ثمانون جلدة، ارفع العقوبة إلى ثمانين جلدة.
 وهذا كالنص الصريح على أن عقوبة شارب الخمر ليست حدا. بل هي صريح لأنه قال: أخف الحدود ثمانين، وقال علي رضي الله عنه : { أرى أن إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحده حد المفتري} أي ثمانون جلدة ووافقه الصحابة على هذا.
 ولم يقل عمر رضي الله عنه: أنه ليس كذلك. فرفعه عمر وجعل ثمانين جلدة من أجل أن يرتدع الناس.

 وقد جاء في السنة أن شارب الخمر إذا شرب فجلد، ثم شرب فجلد، ثم شرب فجلد، ثم شرب الرابعة، فإنه يجب قتله، هكذا جاء في السنة وأخذ بظاهره الظاهرية، وقالوا: شارب الخمر إذا جلد فيقتل في الرابعة لأنه أصبح عنصرا فاسدا، لم ينفع فيه الإصلاح والتقويم.
وقال جمهور العلماء: لا يقتل بل يكرر عليه الجلد،
 وتوسط شيخ الإسلام رحمه الله
فقال: إذا كثر شرب الخمر في الناس، ولم ينته الناس بدون القتل فإنه يقتل في الرابعة، وهذا قول وسط جمع فيه بين المصلحتين، مصلحة ما يدل عليه بعض النصوص الصريحة لأن عمر لم يرفع العقوبة إلى القتل.
مع أنه يقول إن الناس كثر شربهم. وبين هذا الحديث الذي اختلف الناس في صحته وفي بقاء حكمه، هل هو منسوخ أو غير منسوخ. وهل هو صحيح أو غير صحيح، فعلى كل حال، فالذي اختاره شيخ الإسلام هو عين الصواب. أنه إذا كثر شرب الناس للخمر ولم ينته الناس بدون قتل فإنه يقتل في الرابعة

وليت ولاة الأمور يعملون هذا العمل. و لو عملوا هذا العمل لحصل خير كثير، واندرأ شر، وقل شرب الناس للخمر الذي بدأ ينتشر والعياذ بالله، وفي بعض البلاد الإسلامية انتشر كانتشار الشراب المباح كعصير الليمون و عصير البرتقال، و ما أشبه ذلك. وهذا لا شك انه مظهر غير مظهر المسلمين، وأن استباحته له في الواقع كونه يصبح منشورا بين الناس، يفتح الإنسان الثلاجة و يشرب الخمر و العياذ بالله. هكذا كأنه استباحه، و هذا ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم، " ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر و الحرير و الخمر المعازف" رواه البخاري.
***************************************************************
الآية الثانية
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾
[البقرة: 222]
 يسألونك عن إتيان الزوجاتِ زمنَ المحيض فأجِبْهم: أن المحيض أذًى، فامتنِعوا عن إتيانهن مدَّتَه حتى يطهُرْن.
 ويبدو أن معاملةَ المرأة الحائض في الديانة اليهودية؛ حيث لم يكونوا يؤاكلونها أو يجتمعون معها في البيوت هي السِّرُّ في سؤال ثابت بن الدحداح للرسول عن هذه المسألة: فلقد روى مسلمٌ والترمذيُّ عن أنس: (أن اليهودَ كانوا إذا حاضت المرأةُ منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامِعوها في البيوت، فسأل أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾
[البقرة: 222] في الآية،
 فقال صلى الله عليه وسلم : ((اصنَعوا كلَّ شيءٍ إلا النكاح))؛ (أي الاتصال بين الرجل والمرأة).
وأما الحكم الشرعي فيحرم على الرجل أن يجامع زوجته في الحيض أو في النفاس، فلا يجوز للزوج أن يأتي الزوجة في حال الحيض حتى تغتسل تطهر وتغتسل من حيضها، ثم له أن يجامعها،
 وكذلك النفساء ليس له أن يأتيها في حال، ما دام الدم موجوداً، فإذا طهرت واغتسلت جاز له جماعها، ولو كانت في الأربعين، فلو طهرت لشهرٍ فاغتسلت جاز له أن يجامعها في العشر الباقية، فإن عليها أن تصلي وتصوم وتحل لزوجها في بقية الأربعين لأن ...... النفاس ليس له حد، قد تطهر لعشرين، قد تطهر لثلاثين، وقد تطهر لأقل أو أكثر، فإذا طهرت واغتسلت عليها أن تصوم وتصلي، ولزوجها أن يأتيها في وقت الطهر، أما في وقت الدم فلا، فإذا تمت الأربعين،
 إذا أكملت الأربعين وجب عليها أن تغتسل ولو كان الدم موجودا، لو استمر معها الدم حتى كملت الأربعين، فإنها تنتهي المدة، فعليها أن تغتسل ولو كان الدم جارياً، وتصلي وتصوم وتعتبر هذا الدم دماً فاسداً لا يمنعها من صومها وصلاتها، ولا يمنع زوجها من قربائها؛ لأن هذا الدم المستمر يعتبر دماً فاسداً بعد تمام الأربعين، لأن نهاية النفاس وتمامه الأربعون، فإذا انتهت الأربعون؛ فإن النفاس قد انتهى
، فعلى المرأة أن تغتسل وعليها أن تصلي وتصوم إذا كان في رمضان، وتحل لزوجها ولو كان الدم جارياً؛ لأنه والحال ما ذكر يكون دم فساد لا يعتبر، وإذا جامع الرجل امرأته في الحيض، أو في النفاس، فقد أساء وأثم وأتى كبيرةً من الكبائر، فالواجب عليه أن يتقي الله، وأن يتوب إليه-سبحانه وتعالى- عما فعل والتوبة تجب ما قبلها،.

وقد اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة عليه فذهب أحمد إلى أنه يتصدق بدينار أو نصفه لما روى أهل السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو نصف دينار وفي لفظ للترمذي (إذا كان دماً أحمر فدينار وإن كان دماً أصفر فنصف دينار). وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الكفارة والاقتصار على التوبة لأن النصوص أطلقت النهي ولم تذكر كفارة أما حديث ابن عباس فمعلول عند أئمة الحديث بالوقف فلا يصح رفعه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم وهذا هو الصحيح لأن الأصل براءة الذمة وعدم اشتغالها بشيء إلا بدليل بين سالم من المناقشة.

أما مباشرة المرأة من غير جماع فيما فوق السرة، وتحت الركبة، فهذا جائز باتفاق العلماء، وكذلك مباشرتها فيما بين السرة والركبة من فوق حائل: إزار أو سراويل أو غيرها
أما ما بين السرة والركبة مما عدا الفرج والدبر، فقد اختلف العلماء في مباشرته بدون حائل، والأحوط الابتعاد عنه، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر زوجاته بالاتزار ثم يباشرهن، كما في حديث عائشة أنها قالت:
كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضتها، ثم يباشرها" متفق عليه.
فهذا يدل على جواز الاستمتاع بالزوجة الحائض فوق الثياب، وهذا ما يحل لصاحب الزوجة الحائض
والله أعلم

وأما ما يحرم عليها فعله، فيحرم عليها
أولا: الصلاة فلا تصلي ولا تصح منها الصلاة.
ثانيا
الصوم، ولا يصح منها الصوم، صومها باطل، ولا يجوز لها نية الصوم، وإذا فعلت ذلك فعليها التوبة إلى الله من ذلك والندم، والعزم أن لا تعود في ذلك، وعليها قضاء الأيام التي وقع فيها الحيض من رمضان عليها أن تقضيها؛ لأن صومها غير صحيح، والحائض عليها إذا رأت الدم أن تدع الصلاة، وتدع الصيام.
ثالثا: الجماع فلا يقربها زوجها بالجماع.
رابعا: مس المصحف، فلا تمس المصحف بدون حائل.
خامسا:
الطواف ، فلا تطوف إن كانت في مكة للحج والعمرة حتى تطهر،
 ومتى طهرت تغتسل غسل جنابة، تغتسل بالماء في بدنها كله، ثم بعد الغسل تباح لزوجها، وتصلي مع الناس، وتصوم مع الناس؛ لأن الحيض انتهى، كل هذا مما يتعلق بالحائض، وإذا كانت في حج، أو عمرة لا تطوف حتى تطهر، ولا بأس أن تلبي، وتذكر الله، وتسبح وتهلل، وتقف مع الناس في عرفات، وترمي الجمار، وتقف معهم في مزدلفة، ولو كانت حائضاً لكن لا تطوف حتى تطهر

واختلف العلماء هل تقرأ، أو ما تقرأ؟
 الصواب أن لها أن تقرأ عن ظهر قلب لا تمس المصحف، ولكن تقرأ من محفوظها عن ظهر قلبها؛ لأن مدتها تطول، فعليها مشقة في ترك القراءة، وقد تنسى ما حفظت، بخلاف الجنب، فإنه لا يقرأ حتى يغتسل،
الجنب لا يقرأ حتى يغتسل، أما الحائض، والنفساء، فالصواب أنهم تقرآن لا بأس لكن مما في صدره عن ظهر قلب، لا تقرأ من المصحف، ولو احتاجت إلى المصحف جاز لها مسه من دون حائل، لمراجعة بعض الآيات يكون في يدها قفازان، أو شبه قفازين حتى لا تباشر المصحف، وقت طلب الآية، أو الآيات التي تحتاج إلى مراجعتها، أو تستعين بمن تشاء من أخواتها حتى يراجعن لها المصحف مما أشكل عليها، أو غلطت فيه.
***************************************************************
الآية الثالثة
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ }. 
والمعنى أن ما عقد عليه القلب، وكتبه القلب، فالعبد مؤاخذٌ به من الإيمان
وكفارتها كما بين الله في سورة المائدة: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة هذه مخير، ليس فيها ترتيب، إن شاء كفر بإطعام وإن شاء كفر بالكسوة، وإن شاء كفَّر بالعتق هو مخير؛ لأنه أتى بأو، سبحانه وتعالى – وأو للتخيير، فإن عجز عن الثلاث فإنه يعتق رقبة مؤمنة، إذا عجز عن الإطعام والكسوة والعتق، فإنه يصوم ثلاثة أيام، والأفضل أن تكون متتابعة وهذا إذا كان عامداً لليمين، قاصداً لها، كاسباً لها، أما إذا مرت على الإنسان بغير قصد ولا تعمد لليمين فليس عليه فيها شيء، تعتبر لغواً، أو حلف يظن أنه صادق يعتقد أنه صادق، قال: والله ما فعلت كذا والله لأفعلنَّ كذا والله لقد فعلت، كذا يظن أنه فعله، يعتقد أنه فعله، ثم بان أنه لم يفعله ليس عليه شيء، أو قال: والله لقد رأيت فلاناً يظن أنه رآه ثم تبين أنه غيره، فليس هذا على الصحيح، وهذا من لغو اليمين؛ لأنه ما قصد الكذب، وإنما حلف يقصد صدق نفسه، يعتقد أنه صادق، فهو داخل في اليمين اللاغية.
***************************************************************
الآية الرابعة والخامسة
﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 226، 227]
تفسير الإيلاء لغة، وشرعا.
الإيلاء في اللغة عبارة عن اليمين يقال آلى أي: حلف، ولهذا سميت اليمين ألية وجمعها ألايا.

كان الرجل في الجاهلية إذا غضب من زوجته حلف ألا يطأها السنة والسنتين، أو ألا يطأها أبدا، ويمضي في يمينه من غير لوم أو حرج، وقد تقضي المرأة عمرها كالمعلقة، فلا هي زوجة تتمتع بحقوق الزوجة، ولا هي مطلقة تستطيع أن تتزوج برجل آخر، فيغنيها الله من سعته، فلما جاء الإسلام أنصف المرأة، ووضع للإيلاء أحكاما خففت من أضراره، وحدد للمولي أربعة أشهر، وألزمه إما بالرجوع إلى معاشرة زوجته، وإما بالطلاق عليه. قال الله تعالى:
﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ عَزَمُوا)(فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌالطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.

والإيلاء في الاصطلاح - يعرفه الحنفية - أن يحلف الزوج بالله تعالى، أو بصفة من صفاته التي يحلف بها، ألا يقرب زوجته أربعة أشهر أو أكثر، أو أن يعلق على قربانها أمرا فيه مشقة على نفسه.
وذلك كأن يقول الرجل لزوجته: والله لا أقربك أربعة أشهر ، أو ستة، أو يقول:
والله لا أقربك أبدا، أو مدة حياتي، أو والله لا أقربك ولا يذكر مدة، وهذه صورة الحلف بالله تعالى.

أما صورة التعليق، فهو أن يقول: إن قربتك فلله علي صيام شهر، أو حج، أو إطعام عشرين مسكينا، ونحو ذلك مما يكون فيه مشقة على النفس، فإذا قال الزوج شيئا من هذا اعتبر قوله إيلاء

أما إذا امتنع الرجل من قربان زوجته بدون يمين، فإنه لا يكون إيلاء، ولو طالت مدة الامتناع حتى بلغت أربعة أشهر أو أكثر، بل يعتبر سوء معاشرة يتيح لزوجته طلب الفرقة عند بعض الفقهاء، إذا لم يكن هناك عذر يمنع من قربانها

وكذلك لو حلف الزوج بغير الله تعالى كالنبي والولي ألا يقرب زوجته، فإنه لا يكون إيلاء; لأن الإيلاء يمين، والحلف بغير الله تعالى ليس يمينا شرعا; لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت}.

 ومثل هذا لو علق الرجل على قربان زوجته أمرا ليس فيه مشقة على النفس، كصلاة ركعتين أو إطعام مسكين، لا يكون إيلاء

وكذلك لو كانت المدة التي حلف على ترك قربان الزوجة فيها أقل من أربعة أشهر لا يعتبر إيلاء، وذلك لقول الله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ فإنه سبحانه ذكر للإيلاء في حكم الطلاق مدة مقدرة هي أربعة أشهر، فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاء في حق هذا الحكم
وقد وافق الحنفية - في أن الإيلاء يكون بالحلف بالله تعالى وبالتعليق - المالكية، والشافعي في الجديد، وأحمد بن حنبل في رواية

وخالف في ذلك الحنابلة في الرواية المشهورة، فقالوا: الإيلاء لا يكون إلا بالحلف بالله تعالى، أما تعليق الطلاق أو العتق أو المشي إلى بيت الله تعالى على قربان الزوجة فإنه لا يكون إيلاء; لأن الإيلاء قسم، والتعليق لا يسمى قسما شرعا ولا لغة، ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم، ولا يجاب بجوابه، ولا يذكره أهل العربية في باب القسم، وعلى هذا لا يكون إيلاء

وحجة الحنفية ومن وافقهم: أن تعليق ما يشق على النفس يمنع من قربان الزوجة خوفا من وجوبه، فيكون إيلاء كالحلف بالله تعالى، والتعليق - وإن كان لا يسمى قسما شرعا ولغة - ولكنه يسمى حلفا عرفا

ومذهب الحنفية أن الإيلاء يكون بالحلف على ترك قربان الزوجة أربعة أشهر أو أكثر

وذهب الجمهور ( المالكية والشافعية والحنابلة ) إلى أن الإيلاء لا يكون إلا بالحلف على ترك قربان الزوجة أكثر من أربعة أشهر.

الحكمة في النهي عن الإيلاء
الحكمة في موقف الشريعة الإسلامية من الإيلاء هذا الموقف: أن هجر الزوجة قد يكون من وسائل تأديبها، كما إذا أهملت في شأن بيتها أو معاملة زوجها، أو غير ذلك من الأمور التي تستدعي هجرها، علها تثوب إلى رشدها ويستقيم حالها، وقد نزلت هذه الآية الكريمة لإبطال ما كان عليه أهلُ الجاهلية من إطالة مُدَّة الإيلاء، فقد كان الرجل يحلف على أن يبتَعِد عن امرأته سنة أو سنتين، فأبطَلَ الله ذلك؛ لما فيه من ظلمٍ للمرأة وإعنات لها.

  غير أنَّه سبحانه وتعالى نظَر إلى النفس البشرية، وما قد يعتَرِيها من ضجَر أو ضِيق، فهو الله الذي خلَقَها وسوَّاها وهو أعلم بها، فما قد يصدر من الرجل وهو في حالة نفسيَّة سيِّئة لا يعدو أن يكون نتيجة طبيعيَّة لانفعالاته وأحاسيسه؛ ولذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يحرِّم هذا الإيلاء، ولكنَّه مع ذلك لم يترك للرجل مطلق التصرُّف في مثل هذه الظروف؛ فقد يكون ظالمًا يريد إيذاء زوجته والإضرار بها نفسيًّا وعصبيًّا، فوضَع حدًّا أقصى للإيلاء وهو أربعة أشهر، فإنْ فاء قبل تَمام هذه الشُّهور الأربعة فلا يعتبر هذا اليمين طلاقًا بإجماع الفقهاء؛ 
لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ، والمراد بالفيء هنا: الرُّجوع إلى ما كان عليه من قبل؛ حيث تَعُود الحياة الزوجية بينه وبين زوجته إلى سيرتها الأولى؛ فيقوم بواجباته الزوجية من جميع الوجوه.
ولكن عليه في هذه الحالة كفارة يمين؛ لأنه حلف ثم رجَع عمَّا حلف عليه.

مضي مدة الإيلاء دون فيئة
  سبق أن ذكرنا أن فيئة الزوج قبل مضي المدة فإنه لا يعتبر طلاقا، وترجع الحياة الزوجية إلى ما كانت عليه من قبل.
أمَّا إنْ مضت المدَّة المحدَّدة، فقال جمهور الفُقَهاء: لا يُعتَبر ذلك طلاقًا أيضًا؛ لأنَّ الله تعالى خيَّر المُؤْلِين في الآية بين الرُّجوع وبين الطلاق، فلو كان الطلاق يقع بمُضِيِّ المدَّة لما كان للتخيير فائدة، وهذا ما فَهِمَه الصحابة رضِي الله عنْهم فقد رُوِي عن ابن عمر رضِي الله عنْهما أنَّه قال: "إذا مضت أربعة أشهر وقف المولي حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق"؛ أخرجه البخاري، فهذه الرواية كالتفسير للآية الكريمة.
  وقد أخرج الدارقطني من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: "سألت اثنى عشر صحابيًّا عن الرجل يُولِي، فقالوا: ليس عليه شيءٌ حتى تَمضِي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلَّق"
  والمراد بوقفه: أنَّ القاضي يأمره بأحد هذين الأمرين، فإن عاد إلى زوجته فبها ونعمت، وإلا أمَرَه أنْ يطلِّق؛ رفعًا للضرر عن المرأة.

  وهذا ما يدلُّ عليه ظاهرُ قولِه تعالى: ﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يدلُّ على أنَّ الطلاق يقع بقولٍ يتعلَّق به السمع، ولو كان الطلاق يقع بِمُضِيِّ المدَّة لكَفَى قوله: ﴿ عَلِيمٌ ﴾، وذلك لما هو معروف من مُلاءَمة القرآن العظيم ودلالة كلِّ كلمة؛ بل كل حرف على معنًى يُرِيده الله عزَّ وجلَّ، وقال الجمهور أيضًا: إنَّ الطلاق يُعتَبَر طلاقًا رجعيًّا.

  وذهب الحنفيَّة إلى أنَّ مُضِيَّ المدَّة يُعتَبَر طلاقًا بذاته؛ أي: إنَّ المرأة تعتبر طالقًا بمجرَّد انقضاء أربعة أشهر، وهو طلاق بائن لا يحتاج في وقوعه إلى إجراء آخر، فهو لا يحتاج إلى تلفُّظ من الزوج، فابتِعاده عنها تلك الفترة دليلٌ على أنه لا يريدها، كما أنَّ هذا الطَّلاق لا يحتاج إلى حكمٍ من القاضي، بل إنَّه يقع تِلقائيًّا؛ لأنَّه رفعٌ للضرر عن المرأة، وذلك بتَخلِيصها من الظُّلم الواقِع عليها، وهو طلاق بائن؛ لأنَّه لو كان رجعيًّا لَما تحقَّقت الحكمةُ منه؛ حيثُ يستَطِيع الزوجُ إعادتها إلى عصْمته، وبالتالي يُمكِن له أن يُؤذِيها مرَّة أخرى.
  ولا شكَّ لدَيْنا في أنَّ الراجح هو المذهب الأوَّل، فهو مذهب الجَماهِير من عُلَماء الصحابة والتابعين والأئمَّة المجتَهِدين من بعدهم، وهو المذهب الذي تُؤيِّده نصوص الكتاب الكريم.

استَنبَط جمهور الفقهاء من آية الإيلاء عشرة أدِلَّة منها:
1) أنَّ الله تعالى أضاف مُدَّة الإيلاء إلى الأزواج، وجعَلَها لهم، ولم يجعلها عليهم، فوَجَبَ ألَّا يستحقَّ المطالبة فيها، بل بعدها كأجل الدين.
2) ذكر الله الفيئة بعد المُدَّة بفاء التعقيب، وهذا يقتَضِي أن يكون بعد المدة.
3) العزم هو إرادة جازمة لفعْل المعزوم عليه أو تركه، والرأي المعارض يوقع الطلاق بمجرَّد مضي المُدَّة، فأين العزم المنصوص عليه في قوله تعالى﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ ﴾ [البقرة: 227].
4) أنَّ التخيير بين أمرَيْن يَقتَضِي أن يكون فعلهما إليه، ومضي المدَّة ليس إليه، فكيف يقع الطلاق بِمُضِيِّ المدَّة؟
5) قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ ﴾ يقتضي أن يكون الطلاق قولاً يُسْمَع؛ لِيحسن خَتْم الآية بصِفَة السمع.
6) أنَّه لو قال لغريمه: لك أجل أربعة أشهر، فإن وفَّيتني قبلت منك، وإن لَم توفني حبستُك، كان مقتضاه أن الوفاءَ والحبس بعد المدة لا فيها، ولا يعقل المخاطبُ غير هذا.
فإن قيل: ما نحن فيه نظير قوله: لك الخيار ثلاثة أيام، فإن فسخْت البيع وإلا لزمك، ومعلومٌ أن الفسخ يقع في الثلاث لا بعدها،
 قلنا: هذا من أقوى حججنا عليكم، فإن موجب العقد إلزام فجعل له الخيار في مُدَّة ثلاثة أيام فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العقد إلى حكمه، هكذا الزوجة لها حقٌّ على الزوج كما له حق عليها، فجعَل له الشارع امتناع أربعة أشهر لا حق لها فيهن، فإذا انقضت المدة عادت على حقها بموجب العقد، وهو المطالبة لا وقوع للطلاق، وحينئذٍ فهذا هو الدليل السابع.

وأمَّا قراءة ابن مسعود فغايتها أن تدل على جواز الفيئة في مدة التربُّص لا على استحقاق المطالبة، وأمَّا القول بأن الفيئة لو كانت بعد المدة لزادت على أربعة أشهر فليس بصحيح؛ لأن الأربعة أشهر مدة لزمن الصبر".

  أمَّا المذهب الثاني فلا دليل عليه لا من كتاب ولا من سُنَّة ولا من قول سلف، فضلاً عن خلوِّه من تحقيق أيِّ مصلحةٍ لأيِّ فردٍ من أفراد الأسرة؛ بل إنَّ في الأخْذ به ضررًا بالغًا لكلِّ فردٍ من أفراد الأسرة.
  فالزوج قد سُلِب حقه في الطلاق الثابت له شرْعًا، وهو قد يكون - وهذا هو الغالب فعلاً - مُرِيدًا للإصلاح بهذه الوسيلة التي هي الهجر في المَضاجِع، فكيف يُقال بوقوع الطَّلاق تلقائيًّا بمجرَّد انتِهاء المدَّة؟ كما أنَّ الأَخْذَ بهذا الرأي إلحاقُ أعظمِ الضرر بالمرأة ذاتها، فهي قد تكون صابرة على موقف زوجها منها؛ مراعاةً لمصلحتها ومصلحة بيتها وأولادها، فكيف يُقالإنَّ مثل هذه المرأة الصابرة تجد نفسَها تلقائيًّا مطلَّقة طلاقًا بائِنًا لا رجعة فيه؟
  وأمَّا عن مصلحة الأولاد فحدِّث ولا حرَج؛ إذ كيف يُلقَى بهم في خِضَمِّ الحياة، فيَجِدُوا أنفسهم بلا أمٍّ رغمًا عن إرادة الأب والأم؟

شروط الإيلاء
شروط الإيلاء كثيرة ومتنوعة، منها ما يشترط في ركن الإيلاء، ومنها ما يشترط في الرجل والمرأة معا، ومنها ما يشترط في الرجل المولي، ومنها ما يشترط في المدة المحلوف عليها. وفيما يلي بيان كل نوع منها

أ - شرائط الركن
يشترط في ركن الإيلاء، وهو صيغته، ثلاثة شروط

الشرط الأول: أن يكون اللفظ صالحا للدلالة على معنى الإيلاء، وذلك بأن تكون مادة اللفظ دالة على منع الزوج من قربان زوجته دلالة واضحة عرفا، مثل قول الرجل لزوجته: والله لا أواقعك، أو لا أجامعك، وما أشبه ذلك

الشرط الثاني: أن تكون الصيغة دالة على الإرادة الجازمة للحال، ويتحقق هذا الشرط بخلو الصيغة من كل كلمة تدل على التردد أو الشك. وألا تكون مشتملة على أداة من الأدوات الدالة على التأخير والتسويف، كحرف السين أو سوف; لأن التردد كالرفض من حيث الحكم، والتأخير وعد بإنشاء التصرف في المستقبل، وليس إنشاء له في الحال، فالإرادة في التصرف غير موجودة في الحال، ولا يوجد التصرف إلا بإرادة إنشائه في الحال. فمن يقول لزوجته: والله سأمنع نفسي من مواقعتك، أو سوف أمنع نفسي من معاشرتك، لا يكون موليا لأن هذه الصيغة لا تدل على إرادة منع نفسه من المواقعة في الحال، وإنما تدل على أنه سيفعل ذلك في المستقبل

هذاومما ينبغي التنبيه له هنا أن اشتراط الجزم في الإرادة للحال لا ينافي جواز أن تكون الصيغة معلقة على حصول أمر في المستقبل، أو مضافة إلى زمن مستقبل، وذلك لأن الإرادة في الإيلاء المعلق والمضاف مقطوع بها، لا تردد فيها، غاية الأمر أن الإيلاء المعلق لم يحصل الجزم به من قبل المولي في الحال، بل عند وجود المعلق عليه، والإيلاء المضاف مجزوم به في الحال، غير أن ابتداء حكمه مؤخر إلى الوقت الذي أضيف إليه، وأن التعليق والإضافة قد صدرا بإرادة جازمة في الحال.

الشرط الثالث: صدور التعبير عن قصد
يتحقق هذا الشرط بإرادة الزوج النطق بالعبارة الدالة على الإيلاء أو ما يقوم مقامها، فإذا اجتمع مع هذه الإرادة رغبة في الإيلاء وارتياح إليه كان الإيلاء صادرا عن رضى واختيار صحيح ، وإن وجدت الإرادة فقط، وانتفت الرغبة في الإيلاء والارتياح إليه لم يتحقق الرضى، وذلك كأن يكون الزوج مكرها على الإيلاء من زوجته بتهديده بالقتل أو الضرب الشديد أو الحبس المديد، فيصدر عنه الإيلاء خوفا من وقوع ما هدد به لو امتنع، فإن صدور الصيغة من الزوج في هذه الحال يكون عن قصد وإرادة، لكن ليس عن رضى واختيار صحيح.

 والإيلاء في هذه الحال - حال الإكراه - غير صحيح عند المالكية والشافعية والحنابلة ، مستندين في ذلك إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: { إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه }، وإلى حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم 
قال: { لا طلاق ولا عتاق في إغلاق } والإغلاق: الإكراه; لأن المكره يغلق عليه أمره، ويقفل عليه رأيه وقصده.

وإلى أن المكره يحمل على النطق بالعبارة بغير حق فلا يترتب عليها حكم، كنطقه بكلمة الكفر إذا أكره عليها

وذهب الحنفية إلى أن إيلاء المكره معتبر، وتترتب عليه آثاره التي سيأتي بيانهالأن الإيلاء عندهم من التصرفات التي تصح مع الإكراه، نصوا على ذلك في باب الأيمان والطلاق، وأن الإيلاء يمين في أول الأمر، وطلاق باعتبار المال، فينطبق عليه ما يقرر في بابي الأيمان والطلاق

وقد استندوا في ذلك إلى قياس المكره على الهازل; لأن كلا منهما تصدر عنه صيغة التصرف عن قصد واختيار، لكنه لا يريد حكمها، وطلاق الهازل ويمينه معتبران ، فكذلك المكره .

ما يشترط في الرجل والمرأة معا
يشترط لصحة الإيلاء في الرجل والمرأة معا قيام النكاح بينهما حقيقة أو حكما عند حصول الإيلاء أو إضافته إلى النكاح 
أما قيام النكاح حقيقة، فيتحقق بعقد الزواج الصحيح، وقبل حصول الفرقة بين الرجل وزوجته، سواء أدخل الرجل بزوجته أم لم يدخل
وأما قيامه حكما، فيتحقق بوجود العدة من الطلاق الرجعي; لأن المرأة بعد الطلاق الرجعي تكون زوجة من كل وجه ما دامت العدة، فتكون محلا للإيلاء، كما تكون محلا للطلاق، فإذا أقسم الزوج ألا يقرب زوجته التي طلقها طلاقا رجعيا مدة تستغرق أربعة أشهر فأكثر كان موليا، فإن مضت أربعة أشهر والمرأة لا تزال في العدة، بأن كانت حاملا، أو كانت غير حامل وكان طهرها بين الحيضتين يمتد طويلا، فعند المالكية والشافعية والحنابلة يؤمر الرجل بالفيء، فإن لم يفء طلق عليه القاضي إن امتنع عن الطلاق، على ما سيأتي في الكلام عن أثر الإيلاء بعد انعقاده
وعند الحنفية تقع عليها طلقة أخرى.

أما إذا كانت العدة من طلاق بائن، فإن المرأة في أثنائها لا تكون محلا للإيلاء، سواء أكان بائنا بينونة صغرى، أم بائنا بينونة كبرى; لأن الطلاق البائن بنوعيه يزيل رابطة الزوجية، ولا يبقي من آثار الزواج شيئا سوى العدة وما يتعلق بها من أحكام، فيحرم على المطلق قربان المطلقة طلاقا بائنا ولو كانت العدة قائمة، فإذا حلف الرجل ألا يقرب زوجته التي طلقها طلاقا بائنا كانت يمينه لغوا في حكم البر، حتى لو مضت أربعة أشهر فأكثر ولم يقربها لم يقع عليها طلاق ثان

أما في حكم الحنث فإنها معتبرة، ولهذا لو عقد عليها، ثم وطئها حنث في يمينه، ووجبت عليه كفارة الحنث في اليمين; لعدم الوفاء بموجبها، وهو عدم قربانها، أي أن حلفه لم ينعقد إيلاء، ولكنه انعقد يمينا
ومثل هذا لو قال لامرأة أجنبية: والله لا أقربك، وأطلق في يمينه، أو قال: أبدا، ثم تزوجها فإنه لا يعتبر موليا؛ لعدم قيام النكاح حقيقة ولا حكما عند الحلف، حتى لو مضت أربعة أشهر بعد الزواج، ولم يقربها لا يقع عليها شيءلأن النكاح لم يكن قائما عند حصول اليمين.
وأما إضافة الإيلاء إلى النكاح، فصورته أن يقول الرجل لامرأة أجنبية: إن تزوجتك فوالله لا أقربك، ثم يتزوجها فإنه يصير موليا، وهذا عند الحنفية والمالكية الذين أجازوا إضافة الطلاق أو تعليقه على النكاح، وحجتهم في ذلك: أن المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط، والمرأة عند وجود الشرط زوجة، فتكون محلا للإيلاء المضاف إلى النكاح، كما تكون محلا للطلاق.

وقال الشافعية والحنابلة: لا يصح الإيلاء المضاف إلى النكاح; لقول الله تعالى:
﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ فإنه سبحانه جعل الإيلاء من الزوجة، والمرأة التي يضاف الإيلاء منها إلى نكاحها ليست زوجة عند حصول الإيلاء، فلا يكون الإيلاء منها صحيحا; ولأن الإيلاء حكم من أحكام النكاح، وحكم الشيء لا يتقدمه، كالطلاق والقسم; ولأن المدة تضرب للمولي لقصده الإضرار بيمينه، وإذا كانت اليمين قبل النكاح لم يتحقق هذا القصد، فأشبه الممتنع بغير يمين.

ما يشترط في المولي
يشترط في الرجل لكي يكون إيلاؤه صحيحا ما يأتي

أولا: البلوغ، بظهور العلامات الطبيعية أو بالسن، فإيلاء الصبي لا ينعقد.
ثانياالعقل، فلا يصح الإيلاء من المجنون والصبي الذي لا يعقل، ولا من المعتوهلأن المعتوه قد لا يكون عنده إدراك ولا تمييز فيكون كالمجنون ، وقد يكون عنده إدراك وتمييز ولكنه لا يصل إلى درجة الإدراك عند الراشدين العاديين كالصبي المميز، والصبي المميز لا يصح منه الإيلاء.

وعدم صحة إيلاء الصبي والمجنون; لأن القلم مرفوع عنهما.
ولأن الإيلاء قول تجب بمخالفته كفارة أو حق، فلم ينعقد منهما كالنذر.

ويقاس على المجنون في عدم صحة الإيلاء ما يأتي:
1) المعتوه
2) المدهوش، وهو الذي اعترته حالة انفعال لا يدري فيها ما يقول أو يفعل، أو يصل به الانفعال إلى درجة يغلب معها الخلل في أقواله وأفعاله.
3) المغمى عليه والنائم، فالمغمى عليه في حكم المجنون، ومثله النائم; لأنه لا إدراك عنده ولا وعي، فلا يعتد بالإيلاء الذي يصدر عنه كما لا يعتد بطلاقه
4) السكران، وهو الذي صار عقله مغلوبا من تأثير المسكر ، حتى صار يهذي ويخلط في كلامه، ولا يعي بعد إفاقته ما كان منه في حال سكره، وقد اتفق الفقهاء على أن إيلاء السكران لا يعتبر إذا كان سكره من طريق غير محرم، كما لو شرب المسكر للضرورة، أو تحت ضغط الإكراه; لأن السكران لا وعي عنده ولا إدراك كالمجنون والنائم، بل أشد حالا من النائم، إذ النائم ينتبه بالتنبيه، أما السكران فلا ينتبه إلا بعد الإفاقة من السكر، فإذا لم يعتبر الإيلاء الصادر من النائم، فلا يعتبر الإيلاء الصادر من السكران بالطريق الأولى

واختلفوا فيما إذا كان السكر بطريق محرم، وذلك بأن يشرب المسكر باختياره، وهو يعلم أنه مسكر، من غير ضرورة حتى يسكر، فقال بعضهم: يعتبر إيلاؤه، وهو قول جمهور الحنفية ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه; لأنه لما تناول المحرم باختياره يكون قد تسبب في زوال عقله، فيجعل موجودا عقوبة له وزجرا عن ارتكاب المعصية

وقال بعضهم: لا يعتبر إيلاؤه، وهو قول زفر من
 الحنفية واختاره الطحاوي والكرخي، وهو أيضا قول أحمد في رواية أخرى عنه، وهو منقول عن عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز

وحجتهم في ذلك: أن صحة التصرف تعتمد على القصد والإرادة الصحيحة، والسكران قد غلب السكر على عقله، فلا يكون عنده قصد ولا إرادة صحيحة، فلا يعتد بالعبارة الصادرة منه ، كما لا يعتد بالعبارة الصادرة من المجنون والمعتوه والنائم والمغمى عليه. والشارع لم يترك السكران بدون عقوبة على سكره، حتى نحتاج إلى عقوبة أخرى ننزلها به، خصوصا إذا كانت هذه العقوبة الأخرى لا تقتصر على الجاني، بل تتعداه إلى غيره من الزوجة والأولاد

وأساس هذا الاختلاف هو الاختلاف في اعتبار طلاقه وعدم اعتباره: فمن قال باعتبار طلاقه قال باعتبار إيلائه، ومن قال بعدم اعتبار طلاقه قال بعدم اعتبار إيلائه; لأن الإيلاء كطلاق معلق عند بعضهم ، وسبب للطلاق عند آخرين، فيكون له حكمه.

إيلاء العاجز عن الوطء
إن كان لعارض مرجو زواله كالمرض والحبس، صح إيلاؤه; لأنه يقدر على الوطء، فصح منه الامتناع منه، وإن كان غير مرجو الزوال كالجب والشلل، لم يصح إيلاؤه;
لأنها يمين على ترك مستحيل، فلم تنعقد، كما لو حلف أن لا يقلب الحجارة ذهبا، ولأن الإيلاء اليمين المانعة من الوطء، وهذا لا يمنعه يمينه، فإنه متعذر منه، ولا تضر المرأة يمينه

قال أبو الخطاب: ويحتمل أن يصح الإيلاء منه قياسا على العاجز بمرض أو حبس وللشافعي في ذلك قولان. والأول أولى; لما ذكرنا

ما يشترط في المدة المحلوف عليها
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الإيلاء لا بد له من مدة يحلف الزوج على ترك قربان زوجته فيها، واتفقوا على أنه إن حلف ألا يقرب زوجته أقل من أربعة أشهر فإنه لا يكون إيلاء عند الجميع،
 واختلفوا في مقدار المدة التي يكون بها الإيلاء، وحاصل خلافهم على ثلاثة أقوال:
منشأ الاختلاف في فهم قوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ وهما مبنيان على أن الفيئة هل هي مطلوبة خارج الأربعة أشهر أو فيها وهل يقع الطلاق  بمضي الأربعة أشهر أم لا.

القول الأول: ينعقد الإيلاء يقيلي الزمن وكثيره على حد سواء ، وهو قول الحسن وجماعة.
واستدلوا عليه بعموم قوله تعالى: ﴿ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾ دون تقدير وتحديد للمدة، فيجري على إطلاقه، وإنما ذكر المدة لثبوت البينونة حتى تبين بمضي المدة من غير فيء لا ليصير إيلاء شرعا.

ورد بأنه لا دليل في الآية إذ قد قدر الله المدة فيها بقوله تعالى ﴿ أربعة أشهر ﴾ فالأربعة قد جعلها الله مدة الإمهال وهي كأجل الدين; لأنه تعالى قال: ﴿ فإن فاءوا ﴾ بفاء التعقيب، وهو بعد الأربعة فلو كانت المدة أربعة أو أقل لكانت قد انقضت، فلا يطالب بعدها والتعقيب للمدة لا للإيلاء لبعده.

القول الثاني: وإليه ذهب الحنفية: بأن مدة الإيلاء أربعة أشهر أو أكثر، وهو قول عطاء والثوري ورواية عن أحمد.
 فلو حلف الرجل على ترك قربان زوجته أقل من أربعة أشهر لا يكون إيلاء، بل يكون يمينا.
 فإذا حنث بالوطء قبل مضي أربعة أشهر لزمته كفارة يمين. وعلى هذا لو حلف الزوج: ألا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر كان إيلاء باتفاق الفقهاء، وكذلك لو حلف: ألا يقرب زوجته، ولم يذكر مدة، أو قال: أبدا، فإنه يكون إيلاء بالاتفاق أيضا.

 أما لو حلف ألا يقرب زوجته أربعة أشهر فإنه يكون إيلاء عند الحنفية.
واستدلوا بقوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ ذكر للإيلاء في حكم الطلاق مدة مقدرة، فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاء في حق هذا الحكم، وهذا; لأن الإيلاء ليس بطلاق حقيقة، وإنما جعل طلاقا معلقا بشرط البر شرعا بوصف كونه مانعا من الجماع أربعة أشهر فصاعدا، فلا يجعل طلاقا بدونه; ولأن الإيلاء هو اليمين التي تمنع الجماع خوفا من لزوم الحنث، وبعد مضي يوم أو شهر يمكنه أن يطأها من غير حنث يلزمه، فلا يكون هذا إيلاء.

القول الثالث:  يشترط في المدة أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر. وهذا قول ابن عباس، وطاوس، وسعيد بن جبير وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
واستدلوا بما بأنه لم يمنع نفسه من الوطء باليمين أكثر من أربعة أشهر، فلم يكن موليا، كما لو حلف على ترك قبلتها

كما استدلوا بالآية; لأنه جعل له تربص أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها، فلا معنى للتربص; لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك ومع انقضائه.

وتقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة تناولها الإيلاء، ولأن المطالبة إنما تكون بعد أربعة أشهر، فإذا انقضت المدة بأربعة فما دون، لم تصح المطالبة من غير إيلاء، فإن الله تعالى قال: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. فعقب الفيء عقيب التربص بفاء التعقيب، فيدل على تأخرها عنه.
***************************************************************
الآيات المتعلقة بالطلاق من الآية 228 حتى الآية 232
وفيها مسائل

المسألة الأولى : من له حق الطلاق
الطلاق:
نوع من أنواع الفرق وهو ملك للزوج وحده، ذلك أن الرجل يملك مفارقة زوجته إذا وجد ما يدعوه إلى ذلك بعبارته وإرادته المنفردة، كما تملك الزوجة طلب إنهاء علاقتها الزوجية إذا وجد ما يبرر ذلك، كإعسار الزوج بالنفقة، وغيبة الزوج، وما إلى ذلك من أسباب اختلف الفقهاء فيها توسعة وتضييقا، ولكن ذلك لا يكون بعبارتها، وإنما بقضاء القاضي، إلا أن يفوضها الزوج بالطلاق، فإنها في هذه الحال تملكه بقولها أيضا

فإذا اتفق الزوجان على الفراق، جاز ذلك، وهو يتم من غير حاجة إلى قضاء، وكذلك القاضي، فإن له التفريق بين الزوجين إذا قام من الأسباب ما يدعوه لذلك، حماية لحق الله تعالى، كما في ردة أحد الزوجين المسلمين - والعياذ بالله تعالى - أو إسلام أحد الزوجين المجوسيين وامتناع الآخر عن الإسلام وغير ذلك.. إلا أن ذلك كله لا يسمى طلاقا سوى الأول الذي يكون بإرادة الزوج الخاصة وعبارته

وقد اتفق الفقهاء على أن الطلاق بيد الرجل، ويقع طلاق الرجل إذا كان عاقلا بالغا مختارا. وذلك لما روي عن ابن عباس أنه قال؛ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله: إن سيدي زوجني أمته وهو يريد أن يفرق بيني وبينها فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: {ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق}.

وعلى هذا فلا يقع طلاق المرأة ولا طلاق المجنون أو الصغير أو المكره على رأي الجمهور، وسوف نتكلم عن الشروط كاملة.

الحكمة من جعل الطلاق بيد الرجل
إن جعل الطلاق وأمر فصم عروة الزواج بيد الرجل له حكم عظيمة جليلة.

إنما جُعل للرجل في مقابل ما كان منه من إنفاق في المهر ومن تكلفة في النفقة وغير ذلك.

كذلك الرجل بطبيعة خلقته وفطرته أكثر تحملاً للمشكلات، وأكثر صبراً على المعضلات، وأوسع صدراً فيما يتعلق بالمنغصات، وبالتالي فإن له خصيصة أخرى إذ هو أكثر تغليباً للعقل على العاطفة، وأكثر ترجيحاً لعواقب الأمور من أوائلها، ومن ثم فإن تقديره لما يترتب عليه الطلاق من مخاطر ومضار عليه وعلى زوجه وعلى أبنائه أكثر مما قد يكون من تقدير المرأة التي تغلبها عاطفتها، والتي قد تندفع عند غضبها، إذ لو كان الأمر لها لكان منها الطلاق في كل يوم ربما عدة مرات، كلما غضبت من زوجها في أمر أو قصر في حق أو لم يشتر لها ما تطلبه
وهذه حكمة من حكم الله سبحانه وتعالى، مصلحتها للمرأة كما هي للرجل؛ إذ لو جعل الأمر للمرأة لتسرعت بحسب عاطفتها ثم تندمت، فما عسى الندم أن ينفعها حينئذ

أما أهل الغرب الذين لا يدينون دين الإسلام فقد لفت نظرهم هذا التشريع الحكيم، فقال أحدهم وهو يحلل هذه الحكم التشريعية: والغرض من هذا التقييد للمرأة في المبادرة إلى الطلاق هو وضع حد لممارسة الطلاق؛ لأن الرجال يعتبرون أقل استهدافاً لاتخاذ القرارات تحت اللحظة الراهنة من النساء.

فالرجل ليس سريعاً في اتخاذ القرار عند أدنى عارض أو عند أدنى غضب، وهذه ميزة في الأصل، أما من خالف هذه الحكمة فليس هو حجة على دين الله، بل دين الله عز وجل حجة عليه، ومبين لخطئه وزللـه.
***************************************************************
المسألة الثانية

نظام الطلاق في الإسلام
إن الإسلام دين واقعي مثالي فهو يهدف إلى تحقيق المثل العليا مع معالجة الواقع بروح تتسم باليسر وتحقيق المصالح، ولقد قدمنا بأن الإسلام يحتم في الزواج أن يكون للتأبيد ولا يجيز تحديده بمدة معينة ولكن الواقع الإنساني عبر التاريخ القديم والحديث يثبت أن الحياة الزوجية المؤبدة تصبح في كثير من الأحيان مستحيلة التحقيق بسبب ما ينشأ بين الزوجين من خلافات وخصومات تصبح الحياة بسببها جحيما لا يطاق وسعيرا لا يحتمل.

ونورد فيما يلي الخطوات التي اتخذها هذا الدين، والاحتياطات التشريعية التي جعلها ضمانا للبنة الأساسية في المجتمع وحفظا لحجر الأساس في الحياة المتزنة القويمة.

1) دعا الإسلام الزوجين إلى أن يشعر كل منهما بمسؤوليته قبل الآخر.
جاء في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته... والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته ... والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها}.

وجاء في خطبة حجة الوداع قوله صلى الله عليه وسلم: { فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف}.

2) فإذا بدأ الخلاف بينهما أوصاهما بأن يتحمل كل أخلاق الآخر فالعقول تختلف والنفوس والطبائع كذلك، قال تعالى: ﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا﴾.
فالمودة تجب أن تهيمن، والإخلاص يجب أن يسيطر، والرحمة والمشاعر الطيبة يجب أن تتحكم.

3) فإذا إشتد الخلاف بينهما بحيث يخشى من الشقاق والفراق، ويخاف إضاعة حدود الله باهمال الحقوق والواجبات لكل منهما تجاه الآخر، فهنا يوجب الإسلام تشكيل محكمة عائلية تختار الزوجة عضوا نائبا عنها ويختار الزوج كذلك، وهذه المحكمة قد تنجح في إعادة جو الصفاء والوئام إلى العش الزوجي الهادئ وهذا الحل أهدأ  وأنجع خوفا من تسرب الإسرار إلى المحاكم أو إلى المجتمع.

4) فإذا لم يجد التحكيم نفعا وأصر كل من الزوجين على موقفه أجاز الإسلام أن يقع الطلاق بين الزوجين لمرة واحدة تعتد فيها الزوجة في بيت الزوجية لمدة ثلاث حيضات، ولا يعاشرها الزوج معاشرة الأزواج.
والحكمة من هذه العدة هي ترك الفرصة الكافية لإعادة الصفاء والوئام بعد أن تهدأ الأعصاب، ومع أن الإسلام قد أباح الطلاق فإنه ينفر منه ويكره من الاقتراب إليه. فقد روى عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أبغض الحلال إلى الله الطلاق } رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم .

وفي حديث آخر: { أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة } أخرجه أحمد والترمذي وقال حسن.

وهذه الطلقة رجعية، إذ يجوز للزوج أن يعيدها إلى حظيرة الأسرة من غير عقد أو مهر أوشهود بل يكفي أن يتعاشرا معاشرة الأزواج لتعود الحياة الزوجية إلى مجراها، حتى أنه يكفي الرجعة بالقول عند الإمام الشافعي.

5) إذا انتهت العدة ولم يراجعها الرجل طلقت المرأة طلقة بائنة لا يجوز للرجل الرجوع إليها إلا بمهر جديد وعقد جديد ويكون شأنه شأن باقي الرجال لأن انقضاء العدة دون مراجعة دليل ظاهر على إصرار الزوج على الفراق وبرهان جلي على أنه لا يزال متصلبا في موقفه غير نادم عما سلف منه.

6) إذا عادا إلى الحياة الزوجية سواء خلال العدة أو بعدها ثم تكرر الخلاف نعيد ذات الخطوات السابقة من إيصائهما بحسن المعاملة، وتحمل هفوات الآخر ثم التحكيم العائلي ثم الطلقة الثانية ولها نفس أحكام الطلقة الأولى

7) فإذا عاد الزوج إلى زوجته بعد الطلقة الثانية وعاد الخلاف عدنا إلى اتخاذ نفس الخطوات السالفة، فإذا لم ينفع كل ذلك جاز للزوج أن يوقع طلقته الثالثة والأخيرة وتصبح بائنة منه بينونة كبرى، فلا يجوز الرجوع للحياة الزوجية إلا بعد أن يجرب كل منهما حياة زوجية جديدة يسبر غورها ويجربها بدراية، فإن وقوع الطلقة الثالثة دليل على فساد أصيل في حياة ذينك الزوجين، هذا إذا كان الزوج جادا عامدا في الطلاق، أما إذا كانت تلك الطلقات عبثا وتسرعا ورعونة فالأمر يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق الذي قرر ليكون صمام أمن، وعلاجا اضطراريا لا خيار فيه ويجب أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احتراما واحتراسا .

يقول العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب " الحكمة في إثبات الرجعة أن الإنسان مادام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه مفارقته، فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان، ثم لما كان كمال التجربة لايحصل بالمرة الواحدة فلا جرم أن الله تعالى أثبت المراجعة بعد الفرقة مرتين" .

هذه السبيل التي سلكها الإسلام والصراط السوي الذي سار عليه لهو الطريق الحقة الجادة القويمة التي توافق الفطرة البشرية وتتلائم مع الطبيعة الإنسانية، بعكس المسيحية التي خالفت الفطرة إذ منعت الطلاق ومنعت استئناف حياة جديدة بعد الطلاق مما اضطر أوربا أخيرا  تحت ثقل الواقع وضغط الضرورة أن تقر ما أقره الإسلام وتسير مرغمة عليه.
***************************************************************
المسألة الثالثة

الحكم التكليفي للطلاق
اتفق الفقهاء على أصل مشروعية الطلاق، واستدلوا على ذلك بأدلة من القرآن، والسنة، والإجماع، والمعقول
أما أدلة القرآن فمنها:
قوله تعالى: ﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان﴾، وقوله: ﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾.

ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم :{ ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق }، وحديث عمر: { أن رسول صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها }.

وحديث ابن عمر، أنه طلق زوجته في حيضها: { فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بارتجاعها ثم طلاقها بعد طهرها، إن شاء }. 

وأما الإجماع: فقد نقل كثير من العلماء إجماع المسلمين من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا على مشروعيته.

لكن الفقهاء اختلفوا في الحكم الأصلي للطلاق
فذهب الجمهور إلى أن الأصل في الطلاق الإباحة، وقد يخرج عنها في أحوال

وذهب آخرون إلى أن الأصل فيه الحظر، ويخرج عن الحظر في أحوال.

وعلى كل فالفقهاء متفقون في النهاية على أنه تعتريه الأحكام; فيكون مباحا أو مندوبا أو واجبا، كما يكون مكروها أو حراما، وذلك بحسب الظروف والأحوال التي ترافقه، بحسب ما يلي:

1) فيكون واجبا كالمولي إذا أبى الفيئة إلى زوجته بعد التربص، على مذهب الجمهور، أما الحنفية: فإنهم يوقعون الفرقة بانتهاء المدة حكما، وكطلاق الحكمين في الشقاق إذا تعذر عليهما التوفيق بين الزوجين ورأيا الطلاق، عند من يقول بالتفريق لذلك.

2) ويكون مندوبا إليه إذا فرطت الزوجة في حقوق الله الواجبة عليها - مثل الصلاة ونحوها - وكذلك يندب الطلاق للزوج إذا طلبت زوجته ذلك للشقاق

3) ويكون مباحا عند الحاجة إليه لدفع سوء خلق المرأة وسوء عشرتها، أو لأنه لا يحبها . 

4) ويكون مكروها إذا لم يكن ثمة من داع إليه مما تقدم ، وقيل: هو حرام في هذه الحال ، لما فيه من الإضرار بالزوجة من غير داع إليه . 

5) ويكون حراما وهو الطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، وهو الطلاق البدعي، وسوف يأتي بيانه.
قال الدردير: واعلم أن الطلاق من حيث هو جائز ، وقد تعتريه الأحكام الأربعة: من حرمة وكراهة، ووجوب وندب.
***************************************************************
المسألة الرابعة

حكمة تشريع الطلاق

لقد نبه الإسلام الرجال والنساء إلى حسن اختيار الشريك في الزواج عند الخطبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم}، وقال: {لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فلعل أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين، أفضل }. 

وقال: { تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك}. 

وقال للمغيرة بن شعبة عندما خطب امرأة: { انظر إليها; فإنه أحرى أن يؤدم بينكما}.

وقال: { تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم}.

وقال لأولياء النساء: {إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد}.

إلا أن ذلك كله - على أهميته - قد لا يضمن استمرار السعادة والاستقرار بين الزوجين، فربما قصر أحد الزوجين في الأخذ بما تقدم، وربما أخذا به، ولكن جد في حياة الزوجين ما يثير بينهما القلاقل والشقاق، كمرض أحدهما أو عجزه وربما كان ذلك بسبب عناصر خارجة عن الزوجين أصلا، كالأهل والجيران وما إلى ذلك، وربما كان سبب ذلك انصراف القلب وتغيره،
 فيبدأ بنصح الزوجين وإرشادهما إلى الصبر والاحتمال، وبخاصة إذا كان التقصير من الزوجة، 
لقوله: ﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا﴾.

 إلا أن مثل هذا الصبر قد لا يتيسر للزوجين أو لا يستطيعانه، فربما كانت أسباب الشقاق فوق الاحتمال، أو كانا في حالة نفسية لا تساعدهما على الصبر، وفي هذه الحال: إما أن يأمر الشرع بالإبقاء على الزوجية مع استمرار الشقاق الذي قد يتضاعف وينتج عنه فتنة، أو جريمة، أو تقصير في حقوق الله تعالى، أو على الأقل تفويت الحكمة التي من أجلها شرع النكاح، وهي المودة والألفة والنسل الصالح، وإما أن يأذن بالطلاق والفراق، وهو ما اتجه إليه التشريع الإسلامي، وبذلك علم أن الطلاق قد يتمحض طريقا لإنهاء الشقاق والخلاف بين الزوجين; ليستأنف الزوجان بعده حياتهما منفردين أو مرتبطين بروابط زوجية أخرى، حيث يجد كل منهما من يألفه ويحتمله،
 قال تعالى: ﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما﴾.

ولهذا قال الفقهاء: بوجوب الطلاق في أحوال، وبندبه في أحوال أخرى - كما تقدم
على ما فيه من الضرر، وذلك تقديما للضرر الأخف على الضرر الأشد، وفقا للقاعدة الفقهية الكلية " يختار أهون الشرين".

والقاعدة الفقهية القائلة
الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف " ويستأنس في ذلك بما ورد عن ابن عباس:
 { أن زوجة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله: ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكنني أكره الكفر في الإسلام، 
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته؟ قالت:
نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل الحديقة وطلقها تطليقة } .
***************************************************************
المسألة الخامسة

شـروط الطلاق
يشترط لصحة الطلاق لدى الفقهاء شروط موزعة على أطراف الطلاق الثلاثة، فبعضها يتعلق بالمطلق، وبعضها بالمطلقة، وبعضها بالصيغة، وذلك على الوجه التالي

أولا: الشروط المتعلقة بالمطلق: يشترط في المطلق ليقع طلاقه على زوجته صحيحا شروط، هي : 

الشرط الأول: أن يكون زوجا

والزوج: هو من بينه وبين المطلقة عقد زواج صحيح

الشرط الثاني: البلوغ
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وقوع طلاق الصغير مميزا أو غير مميز، مراهقا أو غير مراهق، أذن له بذلك أم لا، أجيز بعد ذلك من الولي أم لا، على سواء، ذلك لأن الطلاق ضرر محض، فلا يملكه الصغير ولا يملكه وليه، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم 

وخالف الحنابلة في الصبي الذي يعقل الطلاق، فقالوا: إن طلاقه واقع على أكثر الروايات عن أحمد. أما من لا يعقل فوافقوا الجمهور في أنه لا يقع طلاقه
وعن سعيد بن المسيب: إذا أحصى الصلاة وصام رمضان جاز طلاقه.
وقال عطاء: إذا بلغ أن يصيب النساء.
وعن الحسن: إذا عقل وحفظ الصلاة وصام رمضان.
وقال إسحاق: إذا جاوز اثنتي عشرة".

الشرط الثالث: العقل.
ذهب الفقهاء إلى عدم صحة طلاق المجنون والمعتوه لفقدان أهلية الأداء في الأول، ونقصانها في الثاني، فألحقوهما بالصغير غير البالغ، فلم يقع طلاقهما لما تقدم من الأدلة. وهذا في الجنون الدائم المطبق.

والمراد بالجنون زوال العقل بمرض فيدخل فيه الإغماء، والحمى التي تذهب العقل وتسبب الهذيان، ومن زال عقله بسبب صداع شديد أو مرض مخي، أما الذي لم يزل عقله ولكن يغطى ويستتر بسبب تناول مسكر من خمر وحشيش وأفيون وكوكايين ونحو ذلك فإن تناولها وهو عالم بأنها تزيل العقل ليسكر ويطرب فذهب عقله وطلق امرأته فإن طلاقه يقع عليه، أو تناولها لتوقف إزالة مرضه عليها فغاب عقله وطلق فإن طلاقه لايقع.

وهذا باتفاق الفقهاء وهو المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: { رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستقيظ وعن الصغير حتى يكبروعن المجنون حتى يعقل أو يفيق} رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه الحاكم.
وكذلك الحديث الذي رواه ابن عباس: {كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه}.

وقال عثمان رضي الله عنه: "ليس لمجنون ولا لمستكره طلاق".

وروي عن علي أنه قال: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه".

وكذلك في الأصول: إن من شرط التكليف العقل وإذا فقد العقل سقط التكليف. ولذا فطلاق المجنون لا يقع لفقدان المناط.

أما الجنون المتقطع، فإن حكم طلاق المبتلى به منوط بحاله عند الطلاق، فإن طلق وهو مجنون لم يقع، وإن طلق في إفاقته وقع لكمال أهليته . 

وقد ألحق الفقهاء بالمجنون النائم، والمغمى عليه، والمبرسم، والمدهوش، وذلك لانعدام أهلية الأداء لديهم ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم: { رفع القلم عن ثلاثة... }، وحديث: { لا طلاق ولا عتاق في إغلاق } .
***************************************************************
المسألة السادسة

طلاق السكران

السكر: حالة سرور تغلب على العقل فيهذي صاحبه في كلامه ويختلط جده بهزله.
السكران، إن كان غير متعد بسكره، كما إذا سكر مضطرا، أو مكرها أو بقصد العلاج الضروري إذا تعين بقول طبيب مسلم ثقة، أو لم يعلم أنه مسكر، لم يقع طلاقه بالاتفاق، لفقدان العقل لديه كالمجنون دون تعد، هذا إذا غاب عقله أو اختلت تصرفاته، وإلا وقع طلاقه . 

قال ابن قدامة: " أجمع أهل العلم على أن الزائل العقل بغير سكر، أو ما في معناه، لا يقع طلاقه.
 كذلك قال عثمان، وعلي، وسعيد ابن المسيب، والحسن، والنخعي، والشعبي، وأبو قلابة، وقتادة، والزهري، ويحيى الأنصاري، ومالك، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وأجمعوا على أن الرجل إذا طلق في حال نومه، لا طلاق له.

 وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { رفع القلم عن ثلاثة; عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق} وروي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل الطلاق جائز، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله} ...... ولأنه قول يزيل الملك، فاعتبر له العقل، كالبيع.

وسواء زال عقله لجنون، أو إغماء، أو نوم، أو شرب دواء، أو إكراه على شرب خمر، أو شرب ما يزيل عقله شربه، ولا يعلم أنه مزيل للعقل، فكل هذا يمنع وقوع الطلاق، رواية واحدة، ولا نعلم فيه خلافا.

وإن كان متعديا بسكره، كأن شرب الخمرة طائعا بدون حاجة فالعلماء فيه على قولين:

القول الأول: يقع طلاقه رغم غياب عقله بالسكر، وذلك عقابا له، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، وهو مذهب سعيد، وعطاء، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، وغيرهم.

وعن الشافعي قولان: المصحح فيهما وقوعه، وقد حكي القول بالوقوع في البحر: عن علي وابن عباس وابن عمر ومجاهد والضحاك وسليمان بن يسار وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادي.

وذكر الحنابلة عن أحمد روايتين: الأولى: بوقوع طلاقه كالجمهور، اختارها أبو بكر الخلال والقاضي، والثانية: بعدم وقوع طلاقه، اختارها أبو بكر عبد العزيز.

القول الثاني: عدم وقوع طلاقه، وهو قول عند الحنفية أيضا اختاره الطحاوي والكرخي، وقول عند الشافعية، وقد روي ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه وهو مذهب عمر بن عبد العزيز، والقاسم، وطاوس، وربيعة، وغيرهم.
وبالقول الثاني قال: المزني من أصحاب الشافعية، والليث، تشبيها له بالمجنون. والظاهرية.
قال الليث: كل ما جاء في منطق السكران فموضوع عنه ولا يلزم عليه الطلاق ولا العتاق ولا النكاح ولا البيع ولا حد في قذف. أما ما جنته جوارحه فلازم له فيحد في القتل والزنا.
ثبت عن عثمان أنه قال: السكران معتوه بسكره.
وقال بعدم الوقوع أيضا داود وأبو ثور وإسحاق وجماعة من التابعين، وإليه ذهب البتي، وروي عن ابن عباس وأبي الشعثاء وعطاء، وعكرمة، وهو قول لمالك وروي عن أحمد والشيعة الإمامية.

وجه قول أصحاب القول الثاني: إن عقله زائل والعقل من شرائط أهلية التصرف، ولهذا لا يقع طلاق المجنون والصبي الذي لا يعقل والذي زال عقله بالبنج والدواء كذا هذا والدليل عليه أنه لا تصح ردته فلأن لا يصح طلاقه أولى

واستدلوا بما ورد في صحيح البخاري؛ أن حمزة سكر فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو وعلي وهو سكران؛ فقال حمزة:
 وهل أنتم إلا عبيد لأبي، ولم يلزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمها؛ لأنها كلمة كفر لو كان صاحيا . قال ذلك ابن القيم.

ولكن أجيب عن هذا الاستدلال بأن الخمر كانت آنذاك مباحة
حكى الحافظ في الفتح عن ابن بطال أنه قال: الأصل في السكران العقل، والسكر شئ طرأ على عقله فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل حتى يثبت فقدان عقله.

واستدلوا بقول بن عباس: "طلاق السكران والمستكره ليس بجائز"
وأيضا: بقول عثمان رضي الله عنه: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق" علقه البخاري
وصح عن عمر بن عبد العزيز أنه أتى بسكران قد طلق امرأته فاستحلفه بالله لقد طلقها وهو لا يعقل فحلف فرد عليه امرأته وحده بحد السكر.

أدلة أصحاب القول الأول:
استدل الجمهور على وقوع طلاقه بقول الله تعالى: ﴿الطلاق مرتان ﴾ إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره﴾ من غير فصل بين السكران وغيره إلا من خص بدليل.

واستدلوا بقوله تعالى: ﴿لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى﴾.

منهيهم هذا يقتضى عدم زوال التكليف وكل مكلف يصح منه الطلاق وغيره من العقود والإنشاءات.

وأجاب القائلون بعدم الوقوع عن هذا فقالوا: بأن النهي هو عن أصل السكر الذي يلزم منه قربان الصلاة كذلك، وقيل أنه نهي:

 للمثل الذي لا يعقل الخطاب
واستدلوا كذلك بقوله: ﴿حتى تعلموا ما تقولون﴾ دليل على أن السكران يقول ما لا يعلم ومن كان كذلك فكيف يكون مكلفا  وهو غير فاهم ومن المقرر في الأصول: أن الفهم شرط التكليف قال ابن القيم؛ إنعقد الإجماع على أن شرط التكليف العقل ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف".

ومن السنة: { كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه }.

ولأن عقله زال بسبب هو معصية فينزل قائما عقوبة عليه وزجرا له عن ارتكاب المعصية

وأيضا: أن السكران عاصي بفعله، فلا يزول عنه الخطاب بالسكر ولا بالإثم لأنه يؤمر بقضاء الصلوات.

واستدلوا: بأن ربط الأحكام بأسبابها أصل من الأصول المأنوسة في الشريعة.

وقد استدل لمذهب الجمهور بأن الصحابة جعلوا السكران كالصاحي في الحد بالقذف

وأجاب ابن حزم فقال: خبر مكذوب {أي خبر: من سكر هذى ومن هذى إفترى وحد المفتري ثمانون}.

وأما من سقي السيكران ثم حلف بطلاق أو غيره فقد قال أصبغ في العتبية: لا يلزمه شيء، وهو كالبرسام، وهو لم يدخله على نفسه، ولو قصد شربه على وجه الدواء، والعلاج فأصابه ما بلغ ذلك منه فلا شيء عليه وليس كشارب الخمر ومعنى ذلك أن شرب السيكران يذهب العقل ويجعل صاحبه كالمبرسم وقال ذلك في المريض يطلق في هذيانه لا يلزمه، ولو طلق، وقد ذهب عقله من المرض ثم صح فأنكر ذلك حلف ولم يلزمه.

الشرط الرابع: القصد والاختيار.
المراد به هنا: قصد اللفظ الموجب للطلاق من غير إجبار

جمهور الفقهاء على صحة طلاق الهازل، وهو: من قصد اللفظ، ولم يرد به ما يدل عليه حقيقة أو مجازا، وهم الحنفية والشافعية، وأحمد، وجمهور الزيدية، وهو المشهور عن الإمام مالك. وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ـ: { ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة }.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: { من لعب بطلاق أو عتاق لزمه }. 
وقيل فيه نزل قوله سبحانه وتعالى: ﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾ وكان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجع فيقول كنت لاعبا ويعتق عبده ثم يرجع فيقول كنت لاعبا فنزلت الآية فقال صلى الله عليه وسلم: { من طلق أو حرر أو نكح فقال إني كنت لاعبا فهو جائز منه } .

ولأن الطلاق ذو خطر كبير باعتبار أن محله المرأة، وهي إنسان، والإنسان أكرم مخلوقات الله تعالى، فلا ينبغي أن يجري في أمره الهزل، ولأن الهازل قاصد للفظ الذي ربط الشارع به وقوع الطلاق، فيقع الطلاق بوجوده مطلقا.

وفي رواية عن الإمام مالك وأحمد: لا يقع.
ورجح ابن القيم القول بوقوع طلاق الهازل، فيقول: "والحديث {ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة}، فهذا يقضي أن يلزمه ما هزل به فدل ذلك على أن كلام الهازل معتبر وإن لم يعتبر كلام النائم والناسي وزائل العقل والمكره

والفرق بينهما أن الهازل قاصد للفظ غير مريد لحكمه وذلك ليس إليه فإنما إلى المكلف الأسباب وأما ترتب مسبباتها وأحكامها فهو إلى الشارع قصده المكلف أم لم يقصده، والعبرة بقصده السبب اختيارا في حال عقله وتكليفه فإذا قصده رتب الشارع عليه حكمه، جد به أو هزل".

وإني أرى أنه يجب القول بالوقوع لأنه لا مجال للاجتهاد في مورد النص إذ أن الحديث واضح وصريح ولم يطعن فيه.

أما المخطئ، والمكره، والغضبان، والسفيه، والمريض، فقد اختلف الفقهاء في صحة طلاقهم على التفصيل التالي.
***************************************************************
المسألة السابعة

طلاق المخطئ

وهو من لم يقصد التلفظ بالطلاق أصلا، وإنما قصد لفظا آخر، فسبق لسانه إلى الطلاق من غير قصد، كأن يريد أن يقول لزوجته: يا جميلة، فإذا به يقول لها خطأ: يا طالق وهو غير الهازل، لأن الهازل قاصد للفظ الطلاق، إلا أنه غير قاصد للفرقة به

وقد اختلف الفقهاء في حكم طلاق المخطئ على قولين

القول الأول: وهو قول الجمهور إلى عدم وقوع طلاقه قضاء وديانة، هذا إذا ثبت خطؤه بقرائن الأحوال، فإذا لم يثبت خطؤه وقع الطلاق قضاء، ولم يقع ديانة، وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } ولا يقاس حاله على الهازل; لأن الهازل ثبت وقوع طلاقه على خلاف القياس بالحديث الشريف المتقدم ، وما كان كذلك فلا يقاس غيره عليه 

القول الثاني: وإليه ذهب الحنفية إلى أن طلاق المخطئ واقع قضاء، ثبت خطؤه أم لا، ولا يقع ديانة، وذلك لخطورة محل الطلاق، وهو المرأة، ولأن في عدم إيقاع طلاقه فتح باب الادعاء بذلك بغير حق للتخلص من وقوع الطلاق وهو خطير، وذريعة يجب سدها .
***************************************************************
المسألة الثامنة 
طلاق المكره

الإكراه هنا معناه : حمل الزوج على الطلاق بأداة مرهبة

وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وقوع طلاق المكره إذا كان الإكراه شديدا، كالقتل، والقطع، والضرب المبرح، وما إلى ذلك، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن سمرة. وبه قال عبد الله بن عبيد بن عمير، وعكرمة، والحسن، وجابر بن زيد، وشريح، وعطاء، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز، وابن عون، وأيوب السختياني، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وأبو ثور، وأبو عبيد

وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: { لا طلاق ولا عتاق في إغلاق } وللحديث المتقدم: { إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه }.

واستدلوا بما روي: {أن رجلا تدلى بحبل، فأتت امرأته فقالت: لأقطعن الحبل أو لطلقتني فناشدها الله فأبت، فطلقها، فأتى عمر فذكر له ذلك، فقال له: ارجع إلى امرأتك فإن ذلك ليس بطلاق}.

قال ثابت الأعرج سألت: عبد الله بن عمر وابن الزبير عن طلاق المكره فقالا جميعا ليس بشئ.
وأيضا:
لأنه منعدم الإرادة والقصد، فكان كالمجنون والنائم، فإذا كان الإكراه ضعيفا، أو ثبت عدم تأثر المكره به، وقع طلاقه لوجود الاختيار
ولأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه

ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا.

ولأنه قول حمل عليه بغير حق، فلم يثبت له حكم، ككلمة الكفر إذا أكره عليها.
وذهب الحنفية إلى وقوع طلاق المكره مطلقا; ويقع عتقه دون بيعه وكذلك يقع ظهاره ورجعته والعفو عن القصاص مع الإكراه.

لأنه مختار له بدفع غيره عنه به، فوقع الطلاق لوجود الاختيار، وهو مروي عن بعض التابعين، وهو قول أبي قلابة، والنخعي، وسعيد ابن المسيب، وسفيان الثوري، وعمر بن عبد العزيز، قال الشعبي: ؛إن أكرهه اللصوص وقع وإن أكرهه السلطان فلا".

واستدلوا بما روي عن الغار بن جبلة عن صفوان بن عمرو عن رجل من أصحاب رسول الله:
بأن امرأة اعتقلت زوجها وجلست على صدره ومعها شفرة فوضعتها على حلقه، وقالت: لتطلقني ثلاثا أو لأنفذنها فناشدها الله أن لا تفعل فأبت، فطلقها ثلاثا فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: { لا قيلولة في الطلاق}.

قال ابن القيم وهذا الحديث مردود من عدة وجوه إذ أن فيه ثلاث علل:
1) ضعف صفوان بن عمرو.
2) لين الغار بن جبلة.
3) تدليس صفوان عمن روى عنه.

ومثل هذا الحديث لا نحتج به
وقال ابن حزم: هذا خبر في غاية السقوط.

واستدلوا بما روى سعيد بن منصور حدثنا فرح بن فضاله حدثني عمرو ابن شراحيل المعافري: { أن امرأة استلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت: والله لأنفذنك أو لتطلقني ثلاثا فرفع ذلك إلى عمر فامضى طلاقها}.
ويرد هذا الخبر أن عمل عمر على خلافه، ولا يعلم معاصرة المعافري لعمر بن الخطاب، وفرح بن فضاله فيه ضعف.

وأيضا:
بما روي عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله}. 

وهذا مردود لأنه من رواية عطاء بن عجلان وضعفه مشهور وقد رمي بالكذب، قال ابن حزم: وهذا شر من الخبر السابق (خبر الغار بن جبله).

وأيضا: لأنه طلاق من مكلف، في محل يملكه، فينفذ، كطلاق غير المكره
وأيضالأنه قصد إيقاع الطلاق في منكوحته في حال أهليته فلا يعرى عن قضيته دفعا لحاجته اعتبارا بالطائع ، وهذا ; لأنه عرف الشرين واختار أهونهما، وهذا آية القصد والاختيار، إلا أنه غير راض بحكمه وذلك غير مخل به كالهازل.

وهذا كله في الإكراه بغير حق، فلو أكره على الطلاق بحق، كالمولي إذا انقضت مدة الإيلاء بدون فيء فأجبره القاضي على الطلاق فطلق ، فإنه يقع بالإجماع .

وسبب الخلاف بين الحنفية والأئمة الباقين: هل المكره على الطلاق مختار أم لا؟ قال الحنفية: إنه مختار لأنه لايكره على اللفظ، وقال الأئمة الباقون إنه غير مختار، هذا مع اتفاقهم جميعا  على الحديث: { رفع عن أمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه}

لكن الحنفية اشترطوا لوقوع الطلاق التلفظ به فإذا أكرهه على كتابة الطلاق فكتبه لايقع الطلاق، وكذا إذا أكره على الإقرار بالطلاق فأقر فإنه لا يقع ولو أقر بدون إكراه كاذبا أو هازلا يقع قضاء لا ديانة.

شروط الإكراه الذي لايقع معه الطلاق
اشترط الفقهاء القائلين بعدم وقوع طلاق المكره شروطا في الإكراه وهي:

الشرط الأول: أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب

الشرط الثاني: أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به، إن لم يجبه.

الشرط الثالث: أن يكون الإكراه مما يستضر به ضررا كثيرا، كالقتل، والضرب الشديد، والقيد، والحبس الطويل، فأما الشتم، والسب، فليس بإكراه، رواية واحدة، وكذلك أخذ المال اليسير. فأما الضرر اليسير فإن كان في حق من لا يبالي به، فليس بإكراه، وإن كان في بعض ذوي المروءات، على وجه يكون إخراقا بصاحبه، وغضا له، وشهرة في حقه، فهو كالضرب الكثير في حق غيره.

الشرط الرابع: أن يعجز المكره عن دفع الإكراه.

الشرط الخامس: أن لايكون الإكراه بحق كمن آلى ومضت المدة وامتنع عن العودة يكرهه الحاكم على الطلاق ويكون ذلك بحق.

الشرط السادس: أن لا يظهر من المكره أي نوع من الاختيار.

الشرط السابع: أن لا ينوي الطلاق في قلبه.

أما الحنابلة: فاشترطوا نفس الشروط سوى الشرط الأخير؛ وهوعدم النية في القلب.

أما المالكية فقالوا: لا يقع بالإكراه طلاق إلا إذا كان الزوج ناويا إيقاع الطلاق. أما إذا حلف بالطلاق لا يدخل دارا وحمله رجل وأدخله الدار رغما فلا يلزمه الطلاق على المعتمد ولكن بشروط.
***************************************************************
المسألة التاسعة
طلاق الغضبان

الغضبحالة من الاضطراب العصبي، وعدم التوازن الفكري، تحل بالإنسان إذا عدا عليه أحد بالكلام أو غيره. والغضب لا أثر له في صحة تصرفات الإنسان، ومنها الطلاق، إلا أن يصل الغضب إلى درجة الدهش، فإن وصل إليها لم يقع طلاقه، لأنه يصبح كالمغمى عليه

والمدهوش هو: من غلب الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته بسبب غضب اعتراه . 

وقسم ابن القيم الغضب أقساما ثلاثة نقلها عنه ابن عابدين وعلق عليها فقال:
 طلاق الغضبان ثلاثة أقسام

أحدها: أن يحصل له مبادئ الغضب بحيث لا يتغير عقله، ويعلم ما يقول ويقصده، وهذا لا إشكال فيه

الثاني: أن يبلغ النهاية، فلا يعلم ما يقول ولا يريده، فهذا لا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله

الثالث: من توسط بين المرتبتين بحيث لم يصر كالمجنون، فهذا محل النظر والأدلة تدل على عدم نفوذ أقواله . 

ثم قال ابن عابدين: والذي يظهر لي أن كلا من المدهوش والغضبان لا يلزم فيه أن يكون بحيث لا يعلم ما يقول، بل يكتفى فيه بغلبة الهذيان واختلاط الجد بالهزل كما هو المفتى به في السكران.... ثم قال: فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه: إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال لا تعتبر أقواله وإن كان يعلمها ويريدها، لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح كما لا تعتبر من الصبي العاقل .
***************************************************************
المسألة العاشرة 
طلاق السفيه

السفه: خفة في العقل تدعو إلى التصرف بالمال على غير وفق العقل والشرع . 

وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع طلاق السفيه; لأنه مكلف مالك لمحل الطلاق ، ولأن السفه موجب للحجر في المال خاصة، وهذا تصرف في النفس، وهو غير متهم في حق نفسه ، فإن نشأ عن طلاق السفيه آثار مالية كالمهر فهي تبع لا أصل . 

وخالف عطاء ، وقال بعدم وقوع طلاق السفيه.
***************************************************************
المسألة الحادية عشر
طلاق المريض
المرض إذا أطلق في عرف الفقهاء انصرف إلى مرض الموت غالبا، إلا أن ينص فيه على غيره.

وقد اتفق الفقهاء على صحة طلاق المريض مطلقا، سواء أكان مرض موت أم مرضا عاديا، ما دام لا أثر له في القوى العقلية، فإن أثر فيها دخل في باب الجنون والعته وغير ذلك مما تقدم. إلا أن المريض مرض موت بخاصة إذا طلق زوجته المدخول بها في مرضه بغير طلب منها أو رضا طلاقا بائنا، ثم مات وهي في عدتها من طلاقه هذا، فإنه يعد فارا من إرثها حكما، وترث منه رغم وقوع الطلاق عليها عند جمهور الفقهاء . 

وقيد الحنفية ذلك بما إذا لم تطلب الطلاق البائن، فإذا طلبت هذا الطلاق فلا ترث

وخالف الشافعية; وقالوا بعدم إرث البائنة، أما المعتدة من طلاق رجعي فترث بالاتفاق. 
أما المريض بغير مرض الموت وكذلك غير المريض فلا يتأتى في طلاقهما الفرار من الإرث .
***************************************************************
المسألة الثانية عشر
الطلاق الرجعي وعودة الزوجية

الطلاق الرجعي هو: " أن يكون الطلاق بحروف الطلاق بعد الدخول حقيقة، غير مقرون بعوض ولا بعدد الثلاث لا نصاً ولا إشارة، ولا موصوف بصفة تنبئ عن البينونة أو تدل عليها من غير حرف العطف، ولا مشبه بعدد أو صفة تدل عليها".

وقد ثبتت مشروعية الرجعة بالكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿ وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ﴾ [ البقرة: 228].
وجه الدلالة: أن الله تعالى سمّاه بعلاً أي زوجاً بعد الطلاق، فدلَّ ذلك على أن له الرجعة ما دامت المرأة معتدة.
وأما السنة: فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: { أن النبي صلى الله عليه وسلم طلَّق حفصة ثم راجعها}.

وأما الإجماع: فقد أجمعوا على أن الحر الذي طلّق زوجته الحرة بعد الدخول بها تطليقة واحدة، أو تطليقتين، له مراجعتها بغير ولي ولا مهر علمت بذلك أو لم تعلم شاءت أو أبت ما دامت في العدة، فإذا انقصت عدتها صارت أجنبية لا تحل له إلا بعقد جديد برضاها.

صورة الطلاق الرجعي، وشروط الرجعة:
ولا بدَّ لنا عند الحديث عن صورة الطلاق الرجعي أن نتحدث عن شروط إرجاع المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً إلى الحياة الزوجية المستقرة، ونبدأ بالصورة.

1)فصورة الطلاق الرجعي هي: أن يطلّق الزوج المكلف، صاحب الولاية الشرعية على إيقاع الطلاق زوجته في زواج قائم تطليقة واحدة، أو تطليقتين بعد الدخول، وأن يكون الطلاق غير مقرون بعوض، ولا موصوف بصفة تنبئ عن البينونة.

2) وأما شروط الرجعة فهي:
أ- أن تكون بعد طلاق رجعي سواء صدر من الزوج أو القاضي.
ب- أن تكون الرجعة بعد الدخول بالزوجة المطلقة، فإن طلقها قبل الدخول كان طلاقاً بائناً بالاتفاق.
ﺟ- أن تكون المطلقة ما زالت في العدة، فإن انقضت عدتها لم يصح ارتجاعها بالاتفاق.
د-أن تكون الفرقة عن طلاق لا عن فسخ، وأن لا يكون الطلاق بعوض، فإن كان الطلاق بعوض لم تصح الرجعة، لأن الطلاق عندئذ بائن لا رجعي بالاتفاق.
ﻫ- أن تكون الرجعة منجزة، غير معلقة على شرط، ولا مضافة إلى زمن مستقبل وأن يكون المرتجع أهلاً لإنشاء عقد النكاح.

ثالثاً: كيفية الإرجاع
لإرجاع المطلقة طلاقاً رجعياً كيفيتان، إرجاع بالقول، وإرجاع بالفعل.
1) الإرجاع بالقول
أ-اتفق الفقهاء على أن الرجعة تصح بالقول الدال على ذلك، كأن يقول الزوج لمطلقته طلاقاً رجعياً، وهي في العدة، راجعتك، أو رددتك إلى عصمتي، وهكذا يصح بكل لفظ يؤدي هذا المعنى.

ب- ثم قسم الفقهاء الألفاظ التي تصح بها الرجعة إلى قسمين:
1)الألفاظ الصريحة، مثل: راجعتك وارتجعتك إلى نكاحي، وهذه تصح بها الرجعة، ولا تحتاج إلى نية.
2)وألفاظ كناية، تحتمل الرجعة وغيرها، مثل: أنت عندي كما كنت، فهذه تحتمل كما كنت زوجة، أو كما كنت مكروهة، لذلك تحتاج إلى نية، ويُسألُ عن نيته

2)الرجعة بالفعل
اختلفت نظرة الفقهاء إلى مسألة الرجعة بالفعل على الشكل الآتي:
ذهب الحنفية: إلى أنَّ الجماع ومقدماته تصح بهما الرجعة، وكذلك إذا قبّل الزوج مطلقته الرجعية أو لامسها بشهوة اعتبر هذا الفعل رجعة بالدلالة.

وذهب المالكية: إلى صحة الرجعة بالفعل كالوطء ومقدماته لكن بشرط أن ينوي الزوج بهذه الأفعال الرجعة، فإن لم ينو بها الرجعة لم تصح.

ويرى الشافعية: أن الرجعة لا تصح بالفعل مطلقاً، سواء أكان بالوطء، أو مقدماته، وسواء أكان مصحوباً بنية الرجعة أم لا، ولا بدّ لصحة الرجعة من القول الدال عليه.

يفرق الحنابلة: في صحة الرجعة بين الوطء ومقدماته: فالوطء تصح به الرجعة مطلقاً سواء نوى الزوج الرجعة أم لم ينوها، وأما مقدمات الوطء فقد اختلفت الروايات في المذهب عندهم، فالرواية المشهورة عن الإمام أحمد عدم صحة الرجعة بمقدمات الوطء كاللمس والتقبيل بشهوة، وفي رواية أخرى تصح الرجعة بمقدمات الوطء.

الـرأي الـمـختار
لم أذكر للأحكام السابقة في الرجعة بالفعل أدلة لئلا أطيل بمسألة فرعية أكثر أدلتها عقلية، لكن لما كانت عدة المطلقة الرجعية مشروعة في بيت زوجها دل ذلك على أن لها أن تتزين وتصاحب زوجها أثناء العدة، وما ذلك إلا لتتم الرجعة ويعود إلى البيت الزوجي استقراره وطمأنينته، وهذا ما يجعلني أرجح مذهب الحنفية بأن الجماع ومقدماته تصح بهما الرجعة سواء أكان بنية الرجعة أم بغير نية.

الحكمة من الرجعة:
إن الحاجة تمس إلى الرجعة لأن من المصلحة أن تستمر الحياة الزوجية التي أوثقت أواصراها وأقيمت أركانها. فالأولاد والود والمحبة والذكريات كلها عوامل تشد النفس إلى العودة للحياة الزوجية الهادئة الوادعة وماكان لكلمة عابرة أو فلتة شاردة أو ساعة سقوط أو غضب أو حنق لتقوض هذا الكيان القائم إلى الأبد. فكان لا بد من فترة تختبر فيها المشاعر والعواطف وتمتحن فيها النفوس والقلوب علها تجرب النوى والحرمان والبعد فتحن لتعود إلى حياتها الأولى.

يقول العلامة فخرالدين الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب الحكمة في إثبات الرجعة أن الإنسان مادام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه مفارقته فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله طلقة واحدة مانعة من الرجوع لشق ذلك على الإنسان ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلا جرم أن الله تعالى أثبت المراجعة بعد الفرقة مرتين.

من له حق الرجعة
الرجعة حق للزوج لقوله تعالى: ﴿وبعولتهن أحق بردهن﴾ ، وقوله: ﴿ فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف﴾.
جاء في التحفة وأجمعوا أنه يملك الرجعة من غير رضا المرأة ومن غير تجديد للمهر أو العقد

وإنما يملكه الزوج إذا كان أهلا  للزواج فلا تصح الرجعة عند الحنفية من مجنون ولا من معتوه كما لا تصح من نائم أو مغمى عليه إذا كانت رجعة بالقول. أما رجعة السكران فحكمها حكم تصرفاته  فإذا سكر بمحرم تصح رجعته وإن كان بغير محرم فلا تصح رجعته . 

أما الرجعة بالفعل فلا تصح من  المجنون والمعتوه والسكران والمكره والهازل  
قال صلى الله عليه وسلم : {ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة}.

أما الحنابلة فقالوا: إن الرجعة لا تصح من المجنون ولا من المعتوه بل تصح من وليهما.

أما المالكية والشافعية فقالوا: إنها لا تصح من مجنون ولا من مكره ولا من معتوه وتصح من السفيه والهازل والمفلس ولا تصح من السكران عند الشافعي خلافا  لمالك. ويجوز التوكيل بالمراجعة.

حكم الرجعة
الرجعة مستحبة مندوبة عند الجمهور في جمع الأحوال وقد تصبح واجبة إذا حدث الطلاق في زمن منهي عنه كالحيض والنفاس في رواية عن أحمد وهو قول مالك.
استنادا إلى الحديث الذي رواه ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر  
مر ابنك فليراجعها }عندما طلق ابن عمرزوجته وهي حائض.
وقد ذهب إلى ذلك بعض الحنفية وقال صاحب الهداية: إنه الأصح، وكذلك ذهب بعض المالكية إلى وجوبها إذا طلق في طهر مس فيه.

شروط الرجعة
الرجعة ليست عقدا ولذا لا يشترط فيها رضا الزوجة ولا إعلامها عند الجمهور
أما شرط النية: فلا تشترط النية في صريح القول. أما القول بالكناية فتشترط النية فيها
أما الرجعة بالفعل فتشترط فيها النية عند المالكية عدا ابن وهب من المالكية، أما عند الجمهور فالرجعة بالفعل لا يشترط لها النية وذلك لأنها زوجه.

3)الإشهاد على الرجعة
اختلف الفقهاء في حكم الإشهاد على الرجعة على قولين:
القول الأول: ذهب إليه جمهور الفقهاء الحنفية، والمالكية، والجديد من مذهب الشافعية، وهو المعتمد والصحيح من مذهب الحنابلة إلى أن الإشهاد على الرجعة مستحب.

القول الثاني: وهو مذهب الشافعي القديم، والإمام أحمد في رواية، وهو قول عطاء، وابن حزم، إلى أن الإشهاد على الرجعة واجب.
استدل الجمهور بأن نصوص الرجعة من الكتاب والسنة مطلقة عن شرط الإشهاد فلا يجب، لكنه يستحب لأنه لو لم يُشهد لا يأمن من أن تنقضي العدة فلا تصدقه المرأة في الرجعة.
واستدلوا بما روى أبو داود عن عمران بن الحصين موقوفا: "عمن راجع امرأته ولم يشهد، راجع في غير سنة فليشهد الآن".
وللإجماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق فكذا الرجعة.

وقالوا:
الرجعة حق من حقوق الزوج، وهي لا تحتاج لقبول المرأة، لذلك لا تشترط الشهادة لصحتها، لأن الزوج قد استعمل خالص حقه، والحق إذا لم يحتج إلى قبول أو ولي فلا تكون الشهادة شرطاً في صحته.
وأما دليل قول الشافعي في القديم والرواية عن الإمام أحمد 
فهو قوله تعالى: ﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ [ الطلاق: 2].

وجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر يقتضي الوجوب.
أجاب الجمهور بأن الآية الكريمة تتضمن الفرقة والرجعة وهي 
قوله تعالى: ﴿ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾

الطلاق: 2]، ومعلوم أن الإشهاد على الفرقة ليس بواجب بل هو مستحب فكذا الإشهاد على الرجعة مستحب.
الـرأي الـمختار

في الحقيقة واضح أن رأي الجمهور بأن الإشهاد على الرجعة مستحب هو الراجح لقوة ما استندوا إليه.
***************************************************************
المسألة الثالثة عشر
الطلاق البائن بينونة صغرى وعودة الزوجية
 البائن بينونة صغرى فيكون بالطلقة البائنة الواحدة، وبالطلقتين البائنتين.

الحالات التي يقع الطلاق بها بائناً بينونة صغرى.
1)اتفق الفقهاء على أن الطلاق قبل الدخول يكون بائناً بينونة صغرى؛ لأنه لا عدة فيه فلا يمكن المراجعة.

2)وكذلك اتفقوا على أن الطلاق إذا كان على عوض تدفعه المرأة إلى الرجل وهو ما يسمى بالخلع فإنه يكون بائناً بينونة صغرى.

3)كما اتفقوا على أنه إذا طلّق زوجته طلاقاً رجعياً ثم تركها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فإن الطلاق الرجعي يصير طلاقاً بائناً بينونة صغرى. وهناك حالات أخرى مختلف فيها لا داعي لذكرها هنا.

عودة الزوجية بعد البينونة الصغرى.

لا شك أن الطلاق البائن بينونة صغرى يُنقص عدد الطلقات الثلاث التي يملكها الزوج، ويزيل ملك النكاح، ويحرم استمتاع الزوجين ببعضهما، ولكن كيف تعود الزوجية بينهما؟

تعود الزوجية بينهما بعقد نكاح جديد مستكملاً أركانه وشروطه وبرضى الزوجة.
***************************************************************
 المسألة الرابعة عشر

الطلاق البائن بينونة كبرى، وعودة الزوجية

الأصل في إيقاع الطلاق أن يطلق الرجل المرأة في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، عملاً بقوله تعالى: ﴿فطلقوهن لعدتهن﴾ [ الطلاق: 1]، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: {مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمس}.

فإذا خالف الزوج هذا الهدي، فطلق أكثر من واحدة، كأن يقول لزوجته: أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق، طالق، طالق، ولم ينو تأكيد الأولى فما هو الحكم في ذلك؟

أقوال الفقهاء في إيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
1)فذهب جمهور الفقهاء الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أنَّ من طلّق زوجته ثلاثاً فإنه يقع ثلاثاً، ويلزم المطلِّق بما تلفظ، وتبين زوجته بينونة كبرى، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، سواء أكانت الزوجة مدخولاً بها أم غير مدخول بها.

2)وذهب عدد من الفقهاء منهم سعيد بن جبير، وطاووس، وعطاء، وجابر بن زيد، إلى أن المرأة إذا كانت مدخولاً بها فإن الطلاق الثلاث دفعة واحدة يقع ثلاثاً، وإذا لم تكن مدخولاً بها فإن الثلاث يقعن واحدة بائنة.

3)وذهب داود الظاهري، وهشام بن الحكم، ومقاتل، إلى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع به شيء.

4)وذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى أنَّ الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة.

أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على وقوع الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد بما يلي:
1)بقوله تعالى: ﴿ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان﴾ [ البقرة: 229].
وجه الدلالة: أن ظاهر الآية يدل على جواز جمع الثنتين دفعة واحدة، وإذا جاز جمع الثنتين جاز جمع الثلاثة، كما أن التسريح بإحسان عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة واحدة.

2)واستدلوا بما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي في قصة لعان عويمر العجلاني وزوجته، فقد جاء في الحديث: { فلما فرغا ـ أي من اللعان ـ قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره الرسول فكانت سنة المتلاعنين}.

لعل وجه الدلالة: أن عويمراً أوقع الثلاث في كلمة واحدة، ولم ينكره النبي، والسكوت في معرض الحاجة بيان.

3)واستدل الجمهور بما رواه الترمذي عن ركانة بن عبد يزيد: أنه طلّق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي بذلك فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله: {والله ما أردتَ إلا واحدة؟»، فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردَّها إليه رسول الله، وطلّقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان }.

وجه الدلالة: أن تحليف النبي لركانة على أنه أراد بلفظ البتة واحدة دليل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لوقع، ولو كان لا يقع أكثر من واحدة لما كان لتحليفه معنى.

وقد وردت مناقشات على ما استدل به الجمهور ولكل قول أدلته تركتها خشية الإطالة
والذي أراه راجحا هو ما ذهب إليه الجمهور يقول الإمام ابن حجر العسقلاني: " وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة... فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يُحفظ أن أحداً في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دلَّ إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفياً عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذٌ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق، والله أعلم".
***************************************************************
المسألة الخامسة عشر
عودة الزوجية بعد الطلاق الثلاث
إذا طلق الرجل زوجته ثلاثاً والأصل أن يطلق في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، وقد بينت حكم الثلاث بلفظ واحد، إذا فعل ذلك فقد بانت منه زوجته بينونة كبرى، ولم تحلَّ له حتى تنكح زوجاً غيره بالشروط الآتية:

الشرط الأول: أن تنقضي عدتها من مطلقها:
ولا بد للمرأة أن تعتد عدة الطلاق، وهي ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر أو بوضع الحمل إن كانت حاملاً، لقوله تعالى:
﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ [ البقرة: 228].
وقوله أيضاً: ﴿ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن﴾ [ الطلاق: 4].

الشرط الثاني: أن تنكح زوجاً غيره:
ومن شروط عودة الزوجية بعد انقضاء العدة أن تتزوج المرأة زوجاً آخر لقوله تعالى: ﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره﴾ [ البقرة
 230].
وبناءً عليه فإنه إذا وطئها رجل بزنى أو بشبهة نكاح فإن ذلك لا يحلها لزوجها المطلّق لعدم اعتبار ذلك نكاحا.

الشرط الثالث: صحة النكاح الثاني:
يشترط لعودة الزوجية أن يكون النكاح الثاني صحيحاً، فلا تحل لمطلقها الأول إذا كان النكاح الثاني فاسداً حتى وإن دخل بها، لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة، ولا يحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها.

الشرط الرابع: الوطء في الفرج:
اتفق الفقهاء على أنه يشترط لعودة الزوجية مع صحة الزواج الثاني، أن يطأها الزوج الثاني في الفرج، فلو وطئها دون الفرج أو في الدبر مثلاً لم تحل لزوجها الأول وذلك للحديث النبوي الشريف الذي يعلّق حلَّ المطلقة ثلاثاً ـ
لزوجها الأول على ذوق عسيلة الزوج الثاني،
حيث قال النبي ـلامرأة رفاعة القرظي، وقد أرادت العودة لزوجها الأول رفاعة: {أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك}، وهذا لا يحصل إلا بالوطء في الفرج.

الشرط الخامس:  أن يطلقها الزوج الثاني، أو أن يموت عنها، وتنقضي عدتها منه:
وكذلك يشترط لعودة الزوجية أن يطلقها الزوج الثاني، أو يموت عنها، وتنقضي عدتها منه حتى يحلّ لزوجها الأول أن يعقد عليها عقداً جديداً يملك فيه ثلاث طلقات جديدة.
***************************************************************
نظرا لكثرة الأحكام الفقهية لهذا الأسبوع فما تبقى منها كحكم نكاح المشركين والمشركات وحكم الولاية في النكاح وأحكام المعاشرة الزوجية من خلال قوله تعالى ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ...... ) 
وقوله تعالى ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن. ....) نتكلم عنها في مناسبات أخرى إن شاء الله تعالى
**********************************************************************************************************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق