الثلاثاء، 15 فبراير 2022

الجزء الثامن والعشرون - الربع السابع - الأحكام الفقهية

  


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا} [الطلاق : 1]

العدّة في اللغة مشتقةٌ من الفعل عدَّ، أي أحصى أو حَسَبَ، وعدّة الطّلاق في الاصطلاح هي مدّة معيّنة حدّدها الشّرع للمرأة بعد طلاق زوجها لها، ويَحرُم عليها الزواج فيها.

حكم العدة
العدّة واجبةٌ على المرأة المسلمة التي فارقها زوجها بعد الدّخول بها بسبب الطّلاق أو الفسخ أو الخلع، وقد ثبتت مشروعيتها في كتاب الله -تعالى-، إذ قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)، وفي السُّنّة النّبويّة أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أمر فاطمة بنت قيس أن تمضيَ عدّتها في بيت ابن أمّ مكتوم بعد أن طلّقها زوجها، وأجمع علماء الأمّة على وجوبها من عصر النبيّ -عليه الصلاة السلام- إلى يومنا هذا.

أمّا المرأة التي لم يدخل بها زوجها وطلّقها قبل الدّخول والخلوة فليس عليها عدّة، لقول الله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، و المرأة التي توفي عنها زوجها و لم يدخل بها أو يخلو بها فإنّها تعتد كما لو كان داخلاً بها، وإنّما تجب عليها العدّة حتى دون الدخول وفاءً للزوج المتوفى ومراعاةً لحقّه.

مدة عدة الطلاق
المرأة المطلّقة التي تحيض قد تكون طُلِّقت قبل الدخول أو بعده، وتفصيل عدّتها في الحالتين فيما يأتي:
عدّة المطلّقة المدخول بها: اتّفق الفقهاء على أنّ المرأة الحرّة التي دخل بها زوجها، تكون عدّتها ثلاثة قروءٍ؛ لقول الله -تعالى-: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ)، وتعدّدت آراء الفقهاء في تعريف القُرء؛ فعند الحنفيّة والصحيح من مذهب الحنابلة وجمعٌ من الصّحابة القُرء هو الحيض، بينما عرّفه المالكيّة والشافعيّة على أنّه الطُّهر، أي بأن تَحسب المرأة ثلاثة أطهار بعد طلاقها، ويُحسب أوّل طهرٍ لها بعد وقوع الطّلاق مباشرة ولو كان الطّهر لحظة، فتنتهي عدّتها عندما تبدأ بالحيضة الثّالثة، وإن طلّقها وهي حائض فتنتهي عدّتها عند ابتداء الحيضة الرّابعة، وعليه فإنّ من قال إنّ العدة تكون بعدد الحيضات فالعدّة عندهم أطول.

عدّة المطلّقة غير المدخول بها: إذا طلّق الرجل زوجته قبل الدّخول عليها والخلوة بها فليس عليها عدّة، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا)، ويرجع السّبب في ذلك أنّ العدّة إنّما شُرعت للتّأكّد من خلوّ الرّحم وبراءته، كي لا تختلط الأنساب، وغير المدخول بها ليست بحاجة لوقت لتتأكد من براءة رحمها.

عدة المرأة المطلقة التي لا تحيض
المرأة التّي لا تحيض بسبب صغر سنّها، أو التّي لا تحيض أبداً، أو التّي انقطع عنها الحيض بسبب كبر سنّها؛ فهؤلاء عدّتهن تكون ثلاثة أشهر؛ لورود الدّليل الصّريح في القرآن الكريم على ذلك، قال الله -تعالى-: (وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ)، فجعل الله عدّتهنّ بالأشهر بدلاً من الأقراء.

عدة المرأة المطلقة الحامل
يجب على المرأة المطلّقة إن كانت حاملاً أن تعتدّ وتنتظر إلى أن تضعَ حملها، قال الله -تعالى-: (وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، أي تنتهي عدّة الحامل بعد أن تلد سواء ولدته حيّاً أو ميّتاً، أو كان المولود تامّ الخِلقة أو لا، حتّى وإن كانت حاملاً بتوأمٍ فلا تنتهي عدّتها إلا بولادتهم جميعاً، وبعد خلوّ رحمها من الأجنّة. وبمجرد ولادة المرأة المطلقة تنقضي عدّتها، حتّى لو بعد الطّلاق بمدّة يسيرة؛ لأنّ المراد من العدّة التأكّد من براءة الرحم، وعندما تلد المرأة تتحقّق البراءة، وتصلُح للزواج من آخر.

فقد صحّ عن المسور بن مخرمة: (أنَّ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وفاةِ زَوْجِها بلَيالٍ، فَجاءَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فاسْتَأْذَنَتْهُ أنْ تَنْكِحَ، فأذِنَ لها فَنَكَحَتْ)، وقيل إنّها ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة، فأذِن لها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالزّواج، وعدّة المرأة الحامل واحدة سواء كانت بسبب الطّلاق أو وفاة الزّوج.

- عدّة الزوجة التي تحيض؛ وتكون بثلاث حيضات.
- عدّة الزوجة التي يئست من الحيض فلا تحيض؛ وهي ثلاثة أشهرٍ.
- عدّة الزوجة التي مات عنها زوجها، وهي أربعة أشهرٍ وعشرة أيامٍ ما لم تكن حاملاً.
- عدّة الزوجة الحامل؛ وتكون بوضع حملها.

أحكام العدّة
هناك بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالعدّة، وفيما يأتي بيان أهمّها:
- تعدّ المرأة في عدّة الطلاق البائن كالأجنبية على مطلّقها، فلا تحلّ له إلّا بعقدٍ ومهرٍ جديدين في البينونة الصغرى، وبعد أن تنكح زوجاً آخر ويدخل بها ثمّ تفارقه في البينونة الكبرى.
- إذا انتهت عدّة المرأة في الطلاق الرجعي دون أن يرجعها زوجها صارت مطلقةً طلاقاً بائناً، فلا يجوز لزوجها أن يرجعها إلّا بعقدٍ ومهرٍ جديدين بالإضافة إلى رضاها.
- يجب على المعتدّة أن تلازم السكن خلال فترة عدتها، ولا يجوز لها أن تخرج منه إلّا لحاجةٍ أو عذرٍ وإلّا أثمت.

- تأخذ المرأة في عدّة الطلاق الرجعي حكم الزوجة، وللزوج أن يرجعها إلى ذمته باللفظ ودون إذنها أيضاً.
- لا يجوز للمرأة المعتدّة أن تتزوج من رجلٍ آخرٍ إلى أن تنتهي عدّتها.
- تقضي المعتدّة عدتها في بيت الزوجية الذي كانت تسكنه قبل فراق زوجها أو وفاته.
- يجوز للمعتدّة أن تنتقل من مكان العدّة إلى مكانٍ آخرٍ للضرورة.

الحكمة من تشريع العدة شرع الله -تعالى- العدّة للمرأة المطلّقة لحِكم عظيمة، وهي:
- المحافظة على الأنساب من الاختلاط، وذلك بالتأكّد من خلوّ رحم المرأة وبراءته، وكي لا يجتمع ماء الزّوجين، فتنتظر المرأة انقضاء العدّة ثمّ تتزوّج؛ كي لا تفسد الأنساب.
- إعطاء فرصةٍ أكبر للمطلّقَيْن للرّجوع، علّهما يراجعان نفسيهما في فترة العدّة ويندمان ويعدلان عن الطّلاق، وهذا يكون في الطّلاق الرّجعي فقط.


- تعظيمٌ لأمر الزّواج ورفعٌ لقدره، فكما أنّ الزواج لا يتمّ إلا بشروطٍ وعقد معيّنٍ، فهو كذلك لا ينتهي مباشرة، بل يجب التأنّي والانتظار في ذلك.
- وفاء الزوجة لزوجها، وحفظ الودّ الذي كان بينهما، فلا تنتقل إلى زوجٍ آخر مباشرة، بل تنتظر مدّةً لتُراعي حقّ زوجها وأقاربه.

- حفظ حقّ الحمل وصيانته إنْ كانت المطلّقة حاملاً.
- مراعاة الحقوق الأربعة المترتّبة على العدّة والاحتياط لها، وهي: حقّ الزّوج، وحقّ الولد، ومصلحة الزّوجة، والقيام بحقّ الله -تعالى- الذي أوجبه على المطلّقة.

ومن ثم لابد أن يكون زواج الثاني منها زواجا طبيعيا بغير اتفاق بينهما على التحليل، وأن يدخل بها دخولا مشروعا، لبيان النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي ذلك وكان رفاعة قد طلقها ثلاثا، فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وأرادت أن ترجع إلى رفاعة، وروايات الحديث تدل على أنه تزوجها وهو راغب في التمسك بها ، ولم يطلقها بمجرد طلبها الطلاق ، وإنما هي أرادت أن تعود لزوجها الأول ، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا يحل لها ذلك حتى يدخل بها الزوج الثاني، وهي كانت قد ذكرت أنه لم يدخل بها.

الطلاق البائن
إذا طلق الرجل زوجته الطلقة الثالثة فإنّها تبين منه بينونة كبرى، وتكون عدتها في بيت زوجها على قول جمهور العلماء، ولا تحل لزوجها الأول حتى تتزوج زوجًا غيره ثم يطلقها أو يموت عنها.

وهذه بعض ألفاظ حديث امرأة رفاعة ، رواه البخاري (2639) ومسلم (1433) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : (جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِيِّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ . فَقَالَ : (أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ ؟ لَا ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ).

وروى مسلم (1433) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، فَأَرَادَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : (لَا حَتَّى يَذُوقَ الْآخِرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ).

إذا لابد من عقد صحيح للثاني فالزنا لا يحلها للأول.
ولابد من دخول بها فمجرد العقد لا يحلها للأول.
ولابد من كون الزواج الثاني دون اتفاق لتحليلها للأول ثم موته عنها أو طلاقه إياها وانتهاء عدتها منه.

الفرق بين الطلاق الرجعي والبائن
الطلاق الرجعي هو الطلاق الذي يجوز للزوج فيه أن يرد زوجته وهي في عدّتها دون أن يستأنف العقد، وذلك بالنسبة للمدخول بها المطلقة دون الطلقة الثالثة، وعدة المطلقة طلاقًا رجعيًا يختلف حسب الحالة، كما بيّناه سابقًا، وتقضي المرأة في الطلاق الرجعي عدتها في بيت زوجها وليس لأحد أن يخرجها منه، أما الطلاق البائن فهو يقسم إلى طلاق بائن بينونة كبرى فلا يستطيع الزوج فيه ردّ زوجته لا في عدتها ولا بعد انتهاء عدتها، إلا إذا تزوجت رجلًا آخر ثمّ تطلقت منه أو مات عنها، وطلاق بائن بينونة صغرى، وهو الطلاق الذي لا يملك أن الرجل أن يرجع زوجته فيه إلا بعقد ومهر جديدين.

المطلقة البائن بينوتة كبرى لا تحل لمطلقها حتى تتزوج زوجا غيره دون اتفاق بينهم على كونه محلا لها لزوجها، ولو تم الاتفاق سواء بين المطلق والمُحل، أو بين المرأة والمُحل ، أو بينهم جميعا، فإنا لا تحل بذلك للأول، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله؛ (لعن الله المحلل والمحلل له)، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالتيس المستعار، وهذا لشناعة فعله.

هل للرجل عدة
الرّجل الذي طلّق زوجته فيجوز له أن يتزوّج بأخرى دون انتظار عدّة كالمرأة إلّا في حالاتٍ معيّنة منها:
- كمن كان يريد الزّواج من إحدى محارم مطلّقته؛ كأختها أو عمّتها أو خالتها، فإنّه ينتظر انقضاء عدّة زوجته ثمّ يتزوّج؛ لأنّ الجمع بين المرأة وإحدى محارمها في آنٍ واحد من الأمور التي حرّمها الله -تعالى-.


- من طلّق زوجته الرّابعة ثمّ أراد الزّواج بأخرى، فعليه أن ينتظر حتّى تنقضيَ عدّتها، ثمّ يتزوج؛ لأنّه لا يجوز للرّجل أن يجمع في عصمته أكثر من أربع نساءٍ معاً.
وهذا لا يُسمّى عدّة بالمعنى الاصطلاحي، ولكنّه انتظار يُشبه معنى العدّة بسبب قيام حكم شرعي عليه كما بيّنا في الأمثلة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق